بداية النهاية

يوميات الهجرة إلى الداخل
الأربعاء 2020/04/01
في لحظة واحدة توقّف العالم تجمّد كل جزء متحرك فيه (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

في الأصل أنا كائن يعشق الوحدة، انعزاليّ بالمعنى الحرفي للكلمة. أهوى المكوث وحيدًا لفترات طويلة، ربما لا أخرج من البيت إلا اضطرارًا في بعض الأحيان. وفي البيت لا أتجوّل في المساحات المفتوحة، أكاد أحصر نفسي في موقع ضيق للغاية، حيث أعزل نفسي في غرفة مُستقلة داخل الشقة، وأغلق على نفسي باب الغرفة التي أمارس فيها عملي، هكذا أصير معزولاً خلف أبواب موصدة، تبدأ بالباب الخارجي للعمارة، مرورًا بباب الشقة الرئيسي، وصولاً إلى باب الغرفة الخاصة بي. فكما تقول أوليفيا لاينغ في المدينة الوحيدة “بإمكانك أن تكون وحيدًا في أيّ مدينة، ولكن هنالك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة وأنت محاط بالملايين من البشر”، وحدتي هنا بإرادتي. فأنا موقن أن بالخارج بشر يحيطون بي. هكذا كنتُ أصنع شكلاً لعزلتي، شكلاً يُغنيني عن العالم:

حين تكونين معي أنتِ

أصبح وحدي..

في بيتي! (أمل دنقل).

******

الثلاثاء الـ17 من مارس 2020

(فايروس كورونا: حالتا وفاة و30 إصابة جديدة في مصر وإصابات في الكويت والعراق والأردن وتونس – موقع BBC  العربية).

مع انتشار جائحة فايروس كورونا المستجد “كوفيد – 19″، صارت العُزلة أمرًا إجباريًّا، بفعل قرارات حكومية، تنظر لصالحنا العام لأوّل مرة. وبذلك لم أعد معزولاً بإرادتي، بل صرت مجبرًا على الإقامة الجبرية في العزلة، وهذا فارق كبير. لم أختر عزلتي وأنا وسط البشر كما كنتُ من قبل، بل صرت وأنا والبشر في عزلة إجبارية، وضعتنا جائحة الفايروس في قوقعة واحدة، أنا الذي أهرب من المجموع صرت مع المجموع نعيش العزلة، مثلي مثل البطل براين في فيلم “حياة براين”، فبراين دائمًا يمثل المفرد في مقابل المجموع، إلا أنه فشل في إقناعهم بهذا بصيحته: “أنتم أفراد!” كانوا يقابلون صوته بأصوات جماعية “نحن أفراد جميعنا!”

يجدّد صراخه “عليكم أن تكونوا مختلفين” لكن يهتفون “نحن مختلفون جميعًا” الآن الصوت النشاز الذي كان يخرج ويقول أنا لست فردًا تارة، أنا لست مختلفًا، كخروج عن المجموع ذَابَ، وصار الجميع يهتفون “نحن أفراد جميعنا محاصرون ومعزولون”، بعد أن صار براح العالم كله ينحسر داخل المنزل، بل يتقلّص داخل المنزل إلى مساحات ضيقة جدًّا، حالة من التقوقع داخليًّا، بل زاد الأمر سوءًا بالنسبة إليّ كمغترب بعيد عن أهله ووطنه، أنني صرت منعزلا عن عالمين عالمي المعيشي، وعالم الوطن، فبدت فكرة العودة إلى العائلة بعد انتهاء الامتحانات مهددة، وفي عالم الغيب. هنا وقعت في حصارين، الحصار لم يعد حصارًا عن الشارع تفاديا للعدوى، بل صار حصارًا عن الوطن، أشبه بعالق بعدما توقفت حركة الطيران والعبور والمرور من هنا إلى هناك. فلم يعد يُجدي قول محمود درويش وهو يصرخ “حاصر حصارك” أيّ حصار أحاصر الآن، وكيف أحاصره؟ وإن كان لم يبقَ لي سوى الجنون فالشعور بأنّ الذين تحبُّهم بمنأى عنك، بل هناك حواجز تحول دون الوصول إليهم، يقترب من معنى “أنهم ذهبوا”.

الخميس الـ19 من مارس 2020

(ضغوط على اليابان لتأجيل أولمبيادها، والإمارات تعلق جميع الرحلات الجوية – وكلات الأنباء).

في لحظة واحدة توقّف العالم تجمّد كل جزء متحرك فيه، وهو ما يعني تأكيدا لمعنى الحياة السائلة التي اعتبرها البولندي زيجمونت باومان تماثل “تمامًا المجتمع الحديث السائل”، فهي لا يمكن أن تحتفظ بشكلها ولا تظلّ على حالها وقتًا طويلاً. كما أنه يشير إلى أن الحياة السائلة “هي حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم”. كانت نبوءته التي مثلت أشدّ هاجس ساوره في تلك الحياة هو الخوف من أن تأخذه على حين غرّة، وهو ما حدث، غزانا كورونا على حين غفلة، أُصِيبتْ حياتنا الصاخبة بلحظة سكون وصمت وترقُّب رهيبة في إشارة مرور، ظلت الإشارة حمراء، لا تسمح بالعبور، الكل عالق، لا يجتاز الخط الأبيض، صار عالمه مُحدّدًا، ومرتبطًا بتغيّر اللون الأحمر إلى اللون الأخضر، لحظة العبور، لكن مع الأسف، تجمدت الإشارة عند اللون الأحمر، وأعلنت أنها لن تتغير، وعلى الجميع أن يتعامل مع الواقع الجديد، وفق هذه المستجدات.

الجمعة الـ20 من مارس 2020

(بكاء مذيعة برنامج «mbc trending» على الهواء بسبب كورونا – الرأي نيوز).

في البيت حياة

التحوّل من حالة الحركة والمرح إلى السكون والصمت، لم يكن بالأمر السهل، كثيرون لم يتقبّلوا فكرة الانعزال الذاتي، والهجرة إلى الداخل، حتى حدث الانعزال الإجباري، بعد فرض قوانين حظر التجوال الصارمة بالتزام البقاء في المنزل. شركات المحمول أرادت أن تبث رسائل طمأنة، على نحو ما فعلت وسائل الإعلام المختلفة التي اتخذت إجراءات مكثفة؛ للتوعية بمخاطر النزول والتكدُّس في الأماكن العامة كوسائل المواصلات أو الأسواق والمتنزهات. حالات من الرعب اكتست ملامح الناس في الشوارع، ظهر من أسفل الكمامات، رعب محفوف بصمت الترقب عما بعد.

شركات الاتصالات سعت إلى بثِّ رسائل طمأنة، ومؤازرة، فوحدت شعارها وغيرته إلى جملة بقدر ما كان غرضها الطمأنة إلا أن المعنى جاء نقيضا تمامًا. تغيّر شعار شركة “Turksell” إلى شعار جديد هكذا:”Evde Hayat Var” الشعار يشير إلى أن “في البيت حياة، أو الحياة في البيت”. المعنى الإيجابي يخفى معنىً سلبيًّا مضمرًا ومستترًا يُوحي بالرعب، وهو ما وصلني وسط المعنى الإيجابي، الحياة يقابلها الموت والهلاك، الحياة في داخل البيت، إذن الموت والهلاك في الخارج. إلى هذا الحد صار الخطر قريبًا. أيّ رسائل طمأنة هذه التي تقول لي لا تخرج لأن في خروجك موتك.

 4:30  مساء الجمعة الـ20 من مارس 2020

رسالة من رئاسة الجامعة، بتحويل الدروس لطلاب الجامعة إلى دروس إلكترونية، عن طريق التعليم عن بُعد.

السبت الـ21 من مارس 2020: بداية عطلة الأسبوع

(إجراءات حازمة: شراء مستلزمات الأسبوع من الماركت/عدم الخروج من البيت/مشاهدة إعادة المسلسل التركي BARAJ  السد)

الـ21 من مارس 2020

“من الذي يجب أن يخضع لفحوصات الفايروسات التاجية” (فخر الدين كوجا وزير الصحة التركي).

عجوز تركية من مدينة أسكي شهير، تدعو قوات الدعم التركية، لأكل العنب الذي ينمو في حديقتها. (عن موقع com).

انتقلنا من موقع المشاهدين، إلى موقع المفعول فيهم، من قبل كنّا مجرد متفرجين ومشاهدين لما يحدث في العالم من كوارث طبيعية مثل الفيضانات، والسيول، أو حتى الحروب الدائرة بجوارنا بفعل البشر والدكتاتوريات، كما في سوريا واليمن وليبيا، كنا نشاهد مناظر الخراب والدمار التي خلفتها الحروب، بلامبالاة. أحيانًا بعد السأم الذي تذيعه القنوات الإخبارية، نغيّر القناة وننتقل إلى البرامج الترفيهية، لحظة واحدة فاصلة بين حالتين؛ حالة رعب ممّا نشاهد، قد يقابلها تعاطف على نحو ما، لكن لن تتجاوزه إلى ردة فعل، أو عمل حقيقي. ثم لحظة استرخاء ولامبالاة وانغماس في الترفيه. فالشيء المطمئن أن الكارثة بعيدة عنّا.

اختلف الأمر هذه المرة تمامًا، الكارثة صارت تلاحق الجميع، تساوت الدول الرأسماليّة مع ضحايا الرأسماليّة، الأثرياء مع الفقراء، الرؤساء مع المرؤوسين. المعنى الإيجابي الوحيد لهذه الأزمة، أنّنا جميعا في مركب نوح (مع الفارق) فالسفينة “تيتانيك” كان ركابها من الصفوة فقط. حالة الهلع التي أفرزتها العولمة، صارت تؤكد ما أعلنه كارل بوبر عن “المجتمع المفتوح”، لكن انفتاح العالم هذه المرة كان على الخوف والرعب. هنا يتحقق الانفتاح الفاسد للمجتمعات بفعل العولمة السلبيّة. فلأول مرة يصير معنى الوحدة البشرية التي جلبتها العولمة كما يقول ميلان كونديرا في أنه “لم يعد هناك مكان للهروب”. ولم يعد بمقدورنا إلا أن نردّد ما كان يقوله سارتر “أيّا كان ما نفعله، فإننا نتحمل المسؤولية عن شيء، لكننا لا نعلم ماذا يكون هذا الشيء”، فلا صوت براين مُجديًا هذه المرة، ولا الصوت النشاز الذي أراد أن يعلن عن استقلاليته!

انكماش

الأحد الـ22 من مارس 2020

فنانو المغرب يغنون النشيد الوطني، ويطلقون حملة #معاك_يا_بلادي لمحاربة فايروس كورونا

فتاة أردنية، تخرق حظر التجوال بالرقص في الشارع.

حقيقة لم نكن مُستعدّين لهذا الواقع، لأوّل مرّة نفشل مع التعامل مع الواقع الأرضي لا الواقع الافتراضي، الواقع الجديد الذي صار افتراضيًّا، بدخولنا جميعًا غرفة محكمة، مراقبة وكأننا في دولة الأخ الكبير عند جورج أورويل. يكفي أنك ترى كل شيء أمامك، لكنك محروم منه، لا تستطيع أن تلمسه، ممنوع أن تقبِّلَ أحبتك، أو حتى تشاركهم فرحتهم بالأحضان. مثل العالم الافتراضي، مع دخولنا عصر الثورة الرابعة، وهيمنة وسائل التكنولوجيا على حياتنا، كم من الأصدقاء لدينا على صفحاتنا الشخصيّة، على فيسبوك أو إنستغرام وغيرها، لكن أصدقاء عن بعد، وظائف الافتراضي – مع الأسف – انتقلت إلى الواقع، فصارت سياسة التعامُّل عن بُعْد، هي السائدة، الأهل والأبناء والأصدقاء حولك، وبجوارك، لكن ثمة شرائطَ جديدة في التعامل، ثمة مسافة فاصلة أثناء الجلوس، ممنوع الاقتراب، ممنوع إظهار الإعجاب، والحبّ، صرنا نتعامل بالرموز، التي كانت محورَ علاقتنا بالآخر الافتراضي، صارت الإيماءة دليلاً على المشاركة الوجدانية، والتربيت باليد على الكتف بديل عن المصافحة، وضم قبضتي اليد، دليل على المؤازرة، وإرسال قبلة هوائية تعبير عن مشاعر الحبّ الفياضة.

في تلك اللحظات صار لكلمات أمل دنقل، معاني أخرى غير تلك التي وردت في سياقها:

“أترك كل شيء في مكانه:

الكتاب، والقنبلة الموقوتة

وقدح القهوة ساخنا،

وصيدلية المنزل،

وأسطوانة الغناء

والباب.. وعين القطة الياقوتة

أترك كل شيء في مكانه،

وأعبر الشوارع الضوضاء

مخلفا خلفي: زحام السوق..

والنافورة الحمراء

والهياكل الصخرية المنحوتة

أخرج للصحراء!“.

كارثة تلاحق الجميع
كارثة تلاحق الجميع

مساء الأحد الـ22 من مارس 2020

الأوبزرفر: كيف وقف الغرب “مرتجفا” أمام أزمة فايروس كورونا مقارنة ببعض دول آسيا؟

في الفترة القليلة الماضية، ولكن المهمة جدًّا، فما قبل ليس كما بعد، تغيّرت الوظائف، وعلاقاتنا بالأشياء فلم تعد كما قبل، فعلاقتنا بأجهزتنا وبأدواتنا الشخصية الحميمية، تحولت إلى ارتياب في الاقتراب منها بعد أن كانت الأُلفة هي قوامها، مجرد لمسها الآن يتمُّ عبر حاجز كقفازات نرتديها في أيدينا. تقلص كل شيء إلى حدّ الانكماش، العالم الكبير صار في حجم غرفة في بيت، أو بحجم “راحة اليد” كما صوّر أمجد ناصر اختزال الأوطان، والسماوات ضاقت بالطائرات، فلم تعد تحلق بعد. همينة الفايروس أشبه بفكرة الغزو، الفايروس صار يغزو بلدانًا، ويجرد عواصم من سكانها، ويصيبها بالفراغ. في لحظة فارقة وفاصلة انتقلنا من العوالم الافتراضية التي كنا نعيش فيها، إلى العالم الأرضي، صرنا أكثر اقترابنا بمن هجرناهم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، لكن عودتنا جاءت بمحاذير، ممنوع الاقتراب، ممنوع اللمس، ممنوع الأحضان. كل شيء كما هو لكن مفتقد لروحه، حتى الأيام لم يعد ما يميزها.

الإثنين 23 مارس 2020

(الخشت: 25 عالمًا من جامعة القاهرة يشاركون في اكتشاف علاج لـ”كورونا” – موقع مصراوي).

حالة الغزو التي صار عليها فايروس كورونا لواقعنا، وتغلغله فيه حتى أصابنا الشلل، تشبه أحداث مسرحية “حالة طوارئ” لألبير كامي، التي تدور في مينا قادش في الأندلس، الميناء ليس له وجود الآن، انقلاب يقوده رجل يهبط على المدينة وهي في حالة تأهُّب لحدوث نيزك، الرجل يُدعى الطاعون، يأتي دخوله إلى المدينة بشكل مباغت، ويجبر الحاكم على التنازل عن الحكم، تصاحبه في اقتحامه سكرتيرته وتدعى الموت، وهي لا تقل عنه قوة وقسوة. بكل سهولة تخضع لهما المدينة، وعندئذ يأمران بإغلاق أبواب المدينة، ومنع الدخول إليها، والخروج منها.

تهيمن على المدينة حالة من الرّعب، فخلت شوارعها وحلّ الصمت محل الكلام. تأخذ وتيرة الأحداث في المسرحية شكلاً آخر، حيث المسرحية في جملتها رمزية ضدّ السلطات الفاشيّة، ومن ثم كانت رمزية الشاب دييجو الذي يرفض هذه الإجراءات، ومع خروجه تبدأ ثورة ضد هؤلاء الحكام الطواغيت… إلخ.  التشابه هنا أن مع انتشار الفايروس الذي صار أشبه بالطاعون الشخصية المستبدة في المسرحية، قام بتغيير هوية الأماكن، وعزل الناس، هو أشبه بدكتاتور فرض سطوته على الجميع. وصار الجميع في انتظار المخلّص، على نحو ما حدث مع الشاب دييجو، الذي اندفع من نواح وطنية لأن يتصدى للدكتاتور، فـأطلق شرارة المقاومة ضدّ الطغاة.

إعلامي مصري يحاور فايروس كورونا ويثير سخرية!

في قصة بعنوان “انكماش” للكاتبة المصرية ابتهال الشايب ضمن مجموعتها “نصف حالة” القصة تُحكى بلسان فايروس عن كيفية اقتحامه للجسد، التي هي أشبه بالغزو، عبر رذاذة حملته إلى داخل الجسد وتكاثره داخله، وصولاً إلى اقتحامه المناطق التي لا يشعر بوجوده فيها داخل الجسد. لا تكتفي القصة بوصف لحظات الاقتحام، والتوغل في الجسد، بل ترصد لنا الجزء المهم وهو عجز الجسد عن المقاومة واستسلامه لزحف الفايروس داخل الجسد، ومحاولته السيطرة الكاملة من أجل الوصول إلى المخ. يتغلغل في كل ثنايا الجسد، ويفتش في ذاكرته، بل يقول “بعثرت أفكاره، ومزقتها ووضعت بعض الأشياء، وحذفت منها البعض”.

الثلاثاء الـ24 من مارس 2020

تقرير.. “كورونا” يضاهي الحرب العالمية ويضرب تسلسل الدورات الأولمبية.

القصة تصوُّر لضعف الإنسان إزاء ما يواجهه من أزمات، وأبسطها هذا الفايروس الذي سيطر على جسده. هنا في حالة كورونا لم تكن الأزمة بسيطة بل على العكس تمامًا، أشبه بجائحة. فالفايروس تجاوز الجسد للسيطرة على العالم أجمع، سلبنا حريتنا، وإرادتنا، صرنا أسرى له، كبّلنا في غرفنا المعزولة، حجّم أفعالنا، فهذه المرة هو الغازي (الطاعون في مسرحية كامي) أو العدوّ غير المرئي، نتحايل عليه بالمقاومة، ولكن نخشى من غدره، لذا صار حالنا ونحن نتتبع تعليمات الأطباء من أجل الالتزام بسبل الوقاية، أشبه ببطل قصة «سخرية» لابتهال الشايب، وهذه المرة ويا للعجب البطل طبيب مريض بهاجس النظافة والتلوُّث والخوف منه، لدرجة أنه يرتدي القفازات لحماية نفسه من الأمراض.

حالة الهوس بالنظافة جعلته أشبه بقائد في مهمة انتحارية لإنقاذ هذا الكوكب من مخاطر التلوث، فيبدأ مهمته في المحاربة بتنظيف ماء النيل إلى قطع أسلاك السيارات حتى لا تنتشر العوادم، ينتهي به الحال «في غرفة منعزلة لإحدى مستشفيات الأمراض العصبية» دون أن يتناسى دوره، فيصرخ أين أدوات التعقيم في محاولة منه للتنظيف؟ القصّة بأبعادها ترمز إلى صراع ضد الفساد الذي هو أشبه بمحاربة طواحين الهواء في صورة التلوث. نهاية القصة مؤسفة لأنها في واقع الأمر تدعو إلى الإحباط حيث تشير إلى مآل كل مَن يقاوم القبح والفساد أو ما يخالف نواميس الكون يكون مصيره هكذا، إلا أنها مع الأسف هي الحقيقة في أبسط صورها، قديما كان فقط يحارب طواحين الهواء. الآن صار الجميع مثل هذا الطبيب، ولكن لن يحال الجميع إلى «غرفة منعزلة لإحدى مستشفيات الأمراض العصبية» الجميع يشارك في حمالات التنظيف، داخل بيته، وفي خارجه، الهوس بالنظافة لم يعد مرضًا، كما كان يشار إلى الشخص الموسوس بالنظافة. تلبدتنا حالة واحدة من الهوس بالنظافة، بل بابتكار طرق نظافة وحماية، قد تكون قاتلة، ومن ثم جاءت التحذيرات، بعدم الإفراط في الكلور والمواد الكحولية في التنظيف. لكن الخوف يدفعنا إلى فعل كل شيء، حتى لو كنا نجهل ضرره. ثقافة جديدة انتشرت، هي ثقافة الخوف، وهي تعكس رغبة وحبّ في الحياة، فالصور والفيديوهات التي نقلت عن إيطاليا وإسبانيا ولبنان، بخروج الجموع في الليل في البلكونات للرقص والعزف، ما يؤكد أننا نحب الحياة، ومن الموت نبحث عن الحياة، فنحن شعوب أشبه بالعنقاء، تموت لتولد من جديد.

الأربعاء الـ25 من مارس 2020

فرض حظر تجوال بمصر وتطبيق قانون الطوارئ على المخالفين.. قرارات جديدة لمواجهة كورونا.

المدن المعزولة

لوحة الفنان فؤاد حمدي
ارتكان للمجهول (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

حالة التقوقع التي صرنا عليها لم تقتصر علينا كبشر، بل شملت جميع المدن، فقد صارت خالية من الحركة وزخم البشر، والأسواق خلت من مرتاديها، وشاغليها. لكن كان على الجميع أن يخلق حياة جديدة تكون بديلاً أو متنفسًا عن تلك الحياة التي سُلبت منه على غير إرادته. المسجون في غرفة يعرف مسبقًا متي سيخرج، لذا يتعامل مع تاريخ معلوم، يوظِّف حياته من أجل هذا اليوم. فبعده ستتغير حياته كليةً. لكن في حالتنا صار الوضع غير معلوم، والقادم مجهول، فالتوتر هو رهين الموقف، بل يزداد مع ازدياد حالات الإصابات في العالم، التي تزداد في بعض الأماكن بشكل هيستيري، كما في إيطاليا وإيران وألمانيا وأميركا.

الارتكان للمجهول، وانتظار القادم، صارت من المفردات الجديدة، التي أضحى الجميع يتحدثون عنها وهم في الانعزال الذاتي. كلنا صرنا متعلقين بالعلم والأمل في إيجاد حل لهذه الغمة، التي أسدلت ستارة سوداء كبيرة على الحياة التي كنا نعيشها قبل تفشي الفايروس، وبتوقيف  الحياة، صرنا نجلس في طريق مقفر، تحت شجرة جرداء مثل بطلي مسرحية بيكيت “في انتظار غودو”، “استراجون” المهرج، الذي يقع دائمًا ضحية عدوان في الليل، لا يشغله شيء سوى الطعام والشراب ونومه، و”فلاديمير” الرجل المفكّر ذو عقل مشغول بمناقشة الآراء والمقترحات. بطلا بيكيت مرتبطان ببعضهما، مثلنا الآن في ارتباطنا بمصير واحد، وإن كان من قبل كانا يفكّران في الانفصال، يجلسان مثلنا في حالة انتظار شخص ما في يده خلاصهما مما يعانيان من ألوان الشقاء، هما في انتظار وعده وأمله بالمجيء، لكن دون أن يحدد وقتًا، ومن ثم فهما متأهبان لانتظاره في أيّ لحظة.

مشكلتهما الحقيقية، وهي توازي مشكلتنا الآن؟ كيف يقضيان الوقت حتى مجيء المخلّص، ونحن الآن نجلس في البيت، ونفكّر كيف نقضي الوقت، حتى تنزاح الغمة. الخوف الحقيقي من أن هذه العزلة الإجبارية تسبب لنا حالة من الجنون والتمرّد على نحو ما حدث مع بطل رواية “خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء” للنمساوي بيتر هاندكه، يوزف بلوخ عامل التركيبات، الذي كان حارسَ مرمى فيما مضى، ولكن عندما فُصل من عمله فجأة، انتابته حالة من الذعر، فبدأ بالتنقل من مكان إلى آخر تارة، وتارة أخرى راح يُدير حوارات مع آخرين تشبه حديث الطرشان، كما أخذ يقوم بأفعال عبثية. تأمّل ما ينشر من مقاطع فيديو لممارسات البعض داخل البيوت، تعكس حالة من الذعر، وصلت إلى العبث في ردة الفعل. مقاطع هزلية، أسرة جماعية ترقص في هيستيريا، لاعب كرة قدم يلعب مباراة داخل المنزل، صراخ الزوجات من بقاء الأزواج داخل المنزل.

الخميس الـ26 من مارس 2020

الصين تعلن عدم تسجيل أي حالات جديدة بكورونا وتستأنف بناء مطار دولي.

بسبب كورونا… شاب يمني يلغي عرسه ويكتفي بالاحتفال عبر البث المباشر.

في اختياراتي للشقق محل الإقامة، كنت أختار تلك التي لها نافذة أو شرفة تطل على الشارع، لا حبًّا في الوقوف في النافذة لمراقبة الشارع، وإنما توسُّلاً بالآخر في عزلتي داخل الغرفة وليست الأقبية المقبضة كما كان يصفها عبدالحكيم قاسم في رواية “قدر الغرف المقبضة”، على العكس تمامًا لم تكن ريحها كابسة على النفس أو مقبضة، بل كانت تعج بالحياة. السبب الثاني من وراء اختياري للشقق التي تطل نوافذها على الشارع هو تأثّري بحكاية الصيني الذي قررت المرأة التي يُحبّها اختبار جَلَدِهِ وصبره، بأن اهتدت إلى ألاّ تمنحه حبّها إن لم يقضِ الليل، مدة ثلاث سنوات، تحت نافذتها. ما هذا الشرط المُجحف، دون مراعاة لصعوبة الطقوس واختلافها من موسم إلى آخر؟ المحبّ لم يجزع أو يجادل أو حتى ساومها على شيء، بل امتثل للأمر، وكان يحضر في المساء، يجلس على مقعده، وهي ترقبه من خلف نافذتها، ولا يتحرك من مكانه إلا عند الفجر. في حين كانت الحبيبة الجميلة أثناء سهره، تنام وراء نافذتها المغلقة. لم يدر المُحبّ الوله بأمر هذه الخيانة. ومع انقضاء السنة الثالثة، كانت المفاجأة أنه لم ينتظر المكافأة، وإنما حَمَلَ مقعده، وذهب دون نظرة واحدة إلى الوراء. أسباب كثيرة جعلته يفعل فعلته ولا ينتظر المكافأة. لكن السؤال الذي كان يراودني بعد قراءة هذه الحكاية: هل هناك فعلاً شخصيّة تفعل هذا، وفي النهاية تُغادر دون أن تحظى بالمكافأة؟ لو اعتبرنا أنه فعل إرضاءً لذاته هو كما برر البعض وليس لها، لربما اقتنعنا بفعله. في الأيام العادية قبل الحظر، والانعزال الذاتي، خاصة في المساءات الممطرة، المصحوبة بالرعد والبرق، كنت أتطلع وأسترق النظر إلى الشارع خلسة من وراء النافذة، متقمصًّا دور الحبيبة المعاقبة، علّي أجد أحدًا يجلس في الانتظار.

 بعد حالة العُزلة، صارت من عاداتي المسائية، أن أنظرَ من النافذة ولكن ليس بحثًا عن شخصية الصيني الطيّع (فلقد مات الفضول منذ زمن طويل) علّه عاد في مكان وزمان غير اللذين عاش فيهما، ولكن كنت أنظر في الحقيقة إلى خواء الشارع في المساء، الشارع الصاخب الذي كان لا يهمد صار ميتًا، أصاب طرقاته الخرس، لم تعد تطرقه أرجل السابلة، بل لم يعد أهله يجلسون في رحابه كما كان من قبل. أنظر من النافذة، كل مساء المدينة تحتي، بعض نوافذ بناياتها مظلمة والبعض الآخر مضاء، ولكن لا صمت، وكأن المدينة صارت معزولة.

ماذا تفعل في البيت؟ هذا سؤال الجديد!

الجواب كنت أتابع نشرات الأخبار والمواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي؛ للاطلاع على كل جديد من أخبار متعلقة بكورونا. وفي نفس الوقت كنت أقرأ كثيرًا وأكتب، وأواصل دروسي للطلاب عن بُعد. ما هو أعلى صياغتي ليومياتي كما كانت تحدث، وإن كانت بشيء من التفصيل.

عزلة عالمية
عزلة عالمية

نص

وحدة مفتقدة

م.ف.ن

كانت حركتي محدودة لا تتجاوز نطاق الغرفة إلا نادرًا، كانت الطرود تأتي عليها بمجرد ما يلمح البوسطجي اسمي الأجنبي، لا يخطئ فيّ أبدًا، وفي كثيرٍ من الأحيان عندما لا يعثر على صاحب الطرد، يأتي إلي لأتسلّمه نيابة عن صاحبه، أوقّع له بالاستلام، ويغادر وعلى وجهه ابتسامه لم تفارقه مطلقًا. في مرة كشف لي أنني صاحب أكثر التوقيعات في دفتر استلامه، كان هذا الكشف محاولة إغراء لسؤال أجهضته من على طرف لسانه.

كان البترون في المطعم بمجرد ما أنطق بلغتي الركيكة التي كُلمّا تصنّعْتُ إجادتها أسقطُ في فخاخ صوائت حرفيّ (Ü/ Ö) فيعرف أن الطلب لهذه الغرفة. مَلّت عاملة النظافة من بقايا الطعام والأوراق التي أعبئ بها سلة القمامة أسفل المكتب، لم تشتكِ، ولكن نظرتها كلما بدلت الأكياس تقول ما عَجَزَ لسانها عليه، رشوتها كثيرًا بعبوات الشّاي الأخضر التي يحضرها الطلاب كهدايا بعد عودتهم من إجازاتهم، وبقليل من البندق والجوز، ولكن لم تستطع أن تمنع نظرات الضيق، ولكن دون أن تجأر بالشكوى، كان ثمة تواطؤ بيننا وهي التي وشت من قبل بصديقي الذي دخّن في الغرفة، فما أن شمّت الرائحة عند التنظيف، حتى بحثت عن أثر فعثرت على مطفأة السجائر التي صنعها صديقي من فوارغ علبة كنز.

كانت الأصوات غائبة، وكذلك الحديث مفتقد… ثم ظلال تطل لا تقول سوى كلمة أو كلمتين وترحل، كل أضواء البناء تغلق بالتدريج إلا ضوء غرفتي التي تستمر إضاءتها حتى بعد منتصف الليل. ثم صدر القرار بإخلاء المكان. كان عزائي في أصوات ما يأتيني من طرود الصامتين على أرفف المكتبة وفي الصوت الداخلي الذي يأتي دائمًا: أكتب كي لا تكون وحيدًا… أصغي إليه لكن الكلمات كانت تهرب هي الأخرى، في لحظات معينة كانت فريحة تطل دون توقع أو موعد سابق، لكنها كانت تبدّد الوحشة التي سرت في روحي، لكنها كانت أيضًا تذهب فجأة، دون أن أتحقق من حضورها حدث أم كان توهّمات، ويوم أن جاءت في المرة الأخيرة وقبلتني قبلة خاطفة على غير عادتها، ثمّ ودعتني، وقالت وهي تبعد بخطواتها سأفتقدكَ، لم أنتبه لِمَا تردّد في أذني من بقايا كلامها سوى كلمة “تعبت” أؤكّد عليها أنا أيضًا.

وكان أيضًا توهّمات…

– لقد تعبت!

ثمة أصوات كانت تتردد بين الحين والآخر، كنت أجيبها، دائمًا بأفندم.

إلا صوت واحد كان يتردد في لحظات صمتي ولم أستطع أن أجيبه مطلقًا، كنت أقول أفندم؟ وما أن أهمّ بالذهاب إليه يكون اختفى.

صارت المدينة صامتة والبناء قبرًا.

لوحة الفنان فؤاد حمدي
صارت المدينة صامتة والبناء قبرًا (​​​​​لوحة الفنان فؤاد حمدي)

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.