بعيداً عن الباب

السبت 2020/02/01
لوحة لسارة شمة

الهـــارب

حين انطلقت قافلة الجند والبغال بالأحمال والأسلحة، كانت صدور المجندين عنوة تغلي من الغيظ، وكل شيء يتأرجح أمام أعينهم، والريح النفاذة تتقاذفهم، والعواصف الثلجية تصفع وجوههم وهم يتعثرون بالأكمات والحجارة، أو يخوضون في الأوحال إذ يسلكون أراضي ملتوية تملأها الحفر.

كان عليهم أن يحافظوا على مظهرهم وهم المنهكون الذين يكادون يتساقطون من التعب والبرد والجوع.. كل الراضي خالية من الناس، وإذا لاح لهم عابر فسرعان ما يختفي ليحل القفر من جديد، وتظهر لهم أكواخ مهجورة ثم تغيب وهم يعلمون أن نظرات شزراء خفية توجه إليهم خلسة دون غيرهم من الأجانب والزنوج فيزداد سخطهم. لم يكن الدخان ينطلق من أي موقد وهم الذين يتمنون أن يتشمموا أريج الخبز، يتشممونه فقط ليدل على وجود أناس يتحركون في هذا الخلاء غيرهم.

إنهم يقادون صوب المغامرة والمجهول.

إنهم يدفعون إلى نقاط ساخنة قد لا يعودون منها أبدا.

إنهم يقذفون إلى معارك خاسرة لا يجنون منها ربحا. إنهم يبحرون إلى مرافئ باردة لا تمنح دفئا.

وانتابت “حمادي” نوبة غضب تفجرت في حنايا صدره فانتفض منقلبا من فوره، واتجه نحو صخرة في الطريق اقتعدها وأطرق منكس الرأس.

رمقه الحارس بحنق واكتست ملامحه القسوة، فارتد نحوه بعصبية وأشهر المسدس في وجهه وصاح فيه وهو يشير بيد مرتعشة نحو قافلة الجند.

ظلت سحنة “حمادي” محتفظة بملامحها المتجهمة، بينما العسكري يصيح بغضب وقد اتقد غيظ شرس في عينيه.. وتفتحت أبواب الجحيم حين انهالت عليهم قذائف لم يعرف مصدرها فأسرع الجميع يختبئون لكي لا تصيبهم قذائف الثوار.

الليلة سيبيت في العراء حارسا، وستكون أبأس لياليه ليس فيها غير الضوء الخافت المنبعث من خيمة القائد والصمت الموحش والبرد القارس. رفع رأسه المتعب نحو السماء فرآها سوداء قد انطفأت كل نجومها. أعاده إلى واقعه هبوب رياح قاسية تنذر العظام فأخذ يحوم في هذا الصقيع المقفر بخطى قوية ثابتة.. فجأة التمعت في ذهنه كل الصور التي تملأ الخاطر وتهز الوجدان فأخذت ذاكرته تركض نحو مراتع الطفولة ومغامرات الشباب، لكم هو ضائع هنا ووحيد، وحيد. وتسلقت الحيرة صدره وخنقه الأسى فتحرك كل الغل الذي يسكن صدره، وقبل أن يتمكن من إدراك ما يستقر في وعيه، وجد نفسه يصرخ بلا صوت:

وما شأني أنا بحملة مثل هذه؟

ما شأني أنا بحرب الريف؟

إلى متى يظل المسلم يقاتل المسلم على هذه الأرض البائسة؟

لقد جمعوا لها العدة والعتاد والخيل، وجندوا لها أمهر المحاربين المتدفقين حيوية وإقداما، ولكن لأجل من كل هذا؟

وتمنى لو يطير من هذه الأرض، لو يعانق السماء، لو يسكن السحاب، ولو يغير وضعه التعيس. أحس بالنار تسري في دمه، تلتهم بقايا أحلامه، فيتصاعد نبضه وتعلو أمواج رفضه. دهمته رغبة قوية في الهرب، وجمحت الرغبة في صدره، فقصد نحو مربط الخيل وفك قيد أحد الجياد واعتلى صهوته وانطلق كومض خاطف متدحرجا فوق الجليد ينهب المغارات والمسالك والشعاب. ينفتل يمينا وينعطف يسارا. يسقط، ينهض وهو يحاذر أن يقع في أيدي هؤلاء أو أولئك.

ودخل المدينة ليلا فراعه سكونها الموحش، مشى بخطوات وئيدة في طرقات مقفرة لم تقع عيناه خلالها على كائن يتحرك، حث خطاه نحو البيت وقد أطرقت الأحياء كلها صامتة.. عاد الوجه المغيب وومضٌ مرعبٌ يشع من عينيه:

                •             ها قد جئت. قال لزوجه إذ فتحت له الباب، وأسرعت المرأة تعلن عن خوفها:

                •             ولكن الشرطة تداهم البيت ليلا ونهارا بحثا عنك.

وغص بقهره فرمقها بنظرة جانبية وحرك رأسه.

                •             وأين كنت طوال هذه الفترة؟

                •             في إحدى المغارات.

                •             لقد تحروا عنك في كل الأماكن التي كنت ترتادها.. قالت وهي تقوده نحو غرفتها. اقتعد فراشه وأخذ يدير عينيه ببلادة في أرجاء الغرفة.

                •             ولمَ لا تسلم نفسك؟

وكأنها داست على جرحه البليغ، فقد نفضته رعشة اهتز لها كامل جسده. أشعل لفافة تبغ، سحب منها نفسا، ثم قال بصوت جاف:

                •             لقد تخليت عن حراسة المعسكر ليلا، وهربت.

نهض واتجه صوب المرآة، تأمل وجها شاحبا هدّه الإعياء فتداعى على الفراش منهكا، وأخذ يحدق في الجدران، واجتاحه إحساس بالقهر، فهم بأن يتكلم ولكنه لم يجد ما يقوله فسكت.

                •             جو البيت خانق كجو المغارة. قال وهو ييمم صوب مقهى البحارة في آخر الليل. كان يحتسي قهوته بهدوء حين اقتحمت المقهى مجموعة من رجال الشرطة. وخيم على الجميع صمت كثيف، والرجل ينفث دخان سيجارته ويشيح بوجهه عنهم. اتجه نحوه الضابط بخطى ثابتة:

                •             أين كنت كل هذه المدة؟

اتقدت عيناه بجنون مغابي:

                •             في مصح للأمراض العصبية.

                •             عرفت أنك مطارد – طبعا –

                •             أخبرني الأهل حين عدت.

                •             ومع ذلك لم تسلم نفسك؟

                •             لقد جئت للمقهى لأسهل لكم مهمة اعتقالي.

غادر الزنزانة، وحزن مريع يملأ نفسه، فلقد تهدلت كتفاه. وغزا الشيب شعره واسودّ وجهه، فبدا مهدودا لا يطربه صوت، لا يحركه جمال، لا تغريه متعة. وترتجف أعماقه من الألم لأنه لم يستطع أن يغير في الحياة شيئا وهو يمر بتلك الأوقات العصيبة التي لم تزدد إلا صمتا وقد رأى الكثير من الأهوال في هذه المرحلة الشاقة من حياته.

كان الناس ينظرون إليه بعيون الحسرة وهو يدير عينيه ببلادة في كل الأرجاء. تداعى على أول مقعد صادفه حين دخل البيت، كان البعض يمسحون بعيونهم وجهه محاولين فهم ما ينوي فعله، وبعضهم يبحلقون فيه بعيون ذاهلة يتقد فيها الفضول، والبعض الآخر يراقبون كل حركاته وسكناته، وهو ذاهل عنهم يدخن سيجارته بهدوء.

لقد عاد مدمرا، فمَا الذي دمره؟ رفعت زوجته نحوه وجها محزونا ورمقته بنظرة يأس ووجع وقهر، وجالت الدموع في عينيها فأسقطت دقنها على صدرها وغصت بريقها فلم تنطق. مال الرجل إلى العزلة والانطواء، حتى أنكر الناس، وصار كمن فقد عقله، يدخل البيت ليخرج ممعنا في الصمت، وقد أطلت من عينيه نظرة غامضة لا تشجع أحدا على محادثته.. وصار يتغيب عن البيت لساعات طويلة تحولت إلى أيام.

وانشق الباب ذات صباح عن حيوان منكسر متهدل الأذنين لم يره أحد حين دخل غرفة “بوعزيز” طاف جوانبها وتشمم زواياها وخرج، وبمجرد أن توسط فناء الدار حتى أخذ يقلب عينيه الكبيرتين في كل الوجوه، ثم أرسل عواء موجعا نحو السماء وأولى الجميع ظهره وهوى على الأرض.

– إنه كلب. قال أحد الجيران.

– بل ذئب صحح الآخر.

واندفع الجميع نحوه محاولين إخراجه، ولكنه هب واقفا ورفع نحوهم عينين شرستين وهو يثبت قوائمه بالأرض. وأحضر أحدهم عصا واتجه نحوه، فتحفز الحيوان متأهبا للعراك، ولكن الشاب عاجله بضربة على رأسه، فهاج ساكنه وانقض على العصا، فأطبق عليها بين أسنانه وحين ألقاها انتفض وحدجه بنظرة مسعورة.. كان قادرا على الفتك به، فما الذي منعه؟ وعنت لأحدهم فكرة.

                •             لعله جائع، وربما إذا شبع انصرف عنا. قال ذلك وهو يقدم له طعاما.

ولكن الحيوان رمقه بنظرة جانبية حذرة، ثم انكمش حول نفسه دون أن يلقي على الطعام نظرة واحدة. وبغتة تدفق على البيت جمع من الأقارب والمعارف والجيران ينعون “بوعزبز” الذي عثر على جثته عائمة بين الصخور، وارتفع العويل والعواء معا.

ورغم أن كل من دخل الدار تصطدم عيناه بذلك الحيوان ويستولي عليه شعور بالغرابة، إلا أنهم كانوا منشغلين عنه ينتظرون وصول الجثمان من المستشفى.. وتجاهل الحيوان فضول ووقاحة بعض المعزين مستسلما للصمت والحزن محدقا نحو الأرض. اقتنع الجميع أن قوة خفية قادت هذا الوحش الذي استنكر الجميع تواجده في الأول، ثم صارت عيون المعزين تعبره بدون اهتمام، وهو الذي أمضى ثلاثة أيام بلياليها دون أكل أو شرب أو نوم.

ما إن أدخل النعش باحة الدار لإلقاء النظرة الأخيرة عليه حتى انتفض الحيوان واهتز اهتزازا منكرا، ثم استجمع قوائمه وتبع الحشد نحو المقبرة.

المهمة الصعبة

لوحة لسارة شمة
لوحة لسارة شمة

إنها امرأة مغايرة، لا كبقية النساء. أثوابها فاخرة، منتقاة بعناية وقد تعددت ألوانها واختلفت تصاميمها، وشعرها مصفف بذوق رفيع على الدوام، وهي تنشر المرح حواليها سعيدة بزوجها المحب وأطفالها الأصحاء الناجحين في حياتهم. حتى إذا اصطدم سمعها بخبر الموت انقلبت معالم الهدوء في وجهها الجميل إلى توتر وشحوب، وحطت الظلال القاتمة على قسماته، وسرت رجفة عارمة في كامل جسمها، وارتخت كتفاها وتهدلت ذراعاها، فتتوقف عن ممارسة أي عمل، وتطبق على صدرها بذراعيها، وتنزوي في ركن من البيت لا تقوى على الوقوف، ولا المشي، ولا الكلام.. فإذا قال لها زوجها بلهجة المشفق:

– إن العرف يستدعي ذهابك، لوجود عنصر قرابة أو نسب بيننا وبين أهل المرحوم.

هزها هاجس غامض فجفلت واضطرب كيانها، وصارت أشلاء يصعب جمعها، فلا تسمع منها غير نفس يخفق بالرهبة. ويداعبها الأمل في التنصل من هذا البلاء العصي فتسأل زوجها بلهفة:

                •             وهل حضر أهله إذ توفى أبواك؟

ويرد عليها بوقع هادئ:

                •             المرحوم نفسه كان من بين الحضور.

وتغشاها الكآبة فيزداد شحوبها ويزوغ بصرها ويتكسر صوتها. وبعد صمت ممل، وتفكير عميق، وبعد أن تيأس من إيجاد مبرر للتخلف، وتشعر بأن الظرف يستدعي القيام بهذا الواجب المقيت، تعطي موافقتها على أداء هذه المهمة الصعبة، بعد دفن المرحوم – طبعا -، فهي لا تقوى على دخول بيت المتوفى إلا إذا كان الجثمان قد نقل إلى مثواه الأخير.

وتقودها إحدى بناتها نحو غرفتها، فتساعدها على استبدال ثيابها، وإصلاح هندامها وانتعال حذائها، وهي ماثلة كالصنم، وقد أصاب الشلل صوتها فغدا مبحوحا..

تلتف في “حائكها” وتتأبط هلعها وتنزلق بهدوء تجر رجلين أثقلهما الرصاص، وقد أصابها دوار من بركب البحر، وكلما اقتربت من بيت المرحوم توغل الخوف في قلبها فتسارع نبضه وتناثرت الأحداث في ذاكرتها فهي تتمنى ألا يسألها أحد، لأنها لا تستطيع أن تجمع شتات ذهنها الشارد وتجيب إجابة صائبة، وحتى ما تيسر من القرآن يصبح صعبا عليها، فهي تحرص – في مثل هذه الحالات -، أن تتلو بعضا من الآيات، ولكنها تخلط بينها خلطا فظيعا، فتسكت.

ويلوح لها البيت الذي ازدحم الناس حول بابه، فيتعالى وجيب قلبها، وتختلط عليها الوقائع، وتتراقص أمام عينيها المرثيات فتدير رأسها ذات اليمين وذات الشمال قبل أن تدخل.. وبمجرد أن تحط قدميها في الدار حتى تقلب عينيها الزائغتين في أرجائها وزواياها، خوفا من أن تصطدم نظراتها بطيف من أطياف الموت وينبثق من أحد الجدران ويخطف روحها.. وحتى لا تتوغل في البيت تبحث بعينيها عن ركن تحتمي فيه، ثم تقلب بصرها في النساء المتحجبات والسافرات، وقد تكتلت أجسامهن حتى لم يعد هناك فراغ، بل صرن كتلة واحدة من الأجساد، وتتفحص الوجوه التي تضاربت انفعالاتها بين التأوه والحسرة والتأثر والرثاء والاستسلام والوجوم. وتعمل على أن تغطي بعض جزعها بطرد الخوف من قلبها، وأن تسترجع بعض توازنها فتتبادل بعض الهمس مع نساء لا تعرفهن، وتجتهد في أن تشارك أهل الدار لوعتهم، ولكنها لا تستطيع فعل شيء والدموع تستعصي عليها. تظل ملتفة في حائكها حريصة على ألا تلمس يداها شيئا في هذا البيت، فإذا دعيت لتناول الطعام، اهتز كيانها اهتزازا عنيفا، وتقلصت عضلات وجهها، واقشعر بدنها، وغص حلقها، فعجزت عن الاعتذار، وإذا استطاعت فبصوت كالحشرجة، هي التي لو عرفت كيف تنقل معها الهواء لما استنشقت نسمة واحدة هنا.

فإذا عرض عليها مقعدا، فهو من الشوك، إذ تظل تتلوى فوقه من جانب إلى جانب، وهي تحرص على أن تتخذ مجلسها قريبا من الباب الخارجي لكي تتسلل مع أول فرصة تتاح لها، فأول امرأة تبادر بالخروج تنتفض واقفة، وتصر على مرافقتها مدعية بأن طريقهما واحد. وحتى لو أجلست بعيدا عن الباب، فلها قدرة غريبة على اختراق الصفوف من أجل الوصول إلى المخرج، لتندفع نحو الشارع ولتملأ رئتيها هواء.

تتدحرج بعد حين إلى بيتها بخطى منهكة، وقد اختلطت في ذهنها الأفكار والصور والأصوات، فشحب وجهها، ويبست شفتاها، وجف حلقها، فصار نفسها لهاثا، وتدخل بيتها فتسرع نحوها إحدى بناتها لتقودها نحو فراشها، وتلقي عليها بطانية علها ترخي أعصابها المشدودة جراء الانفعالات النفسية التي تعرضت لها بعد هذه المحنة الكبرى التي اجتازتها.. ولا ترمم نفسها من هذا الانهيار الداخلي إلا بمضي أيام طويلة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.