بعيدا عن نزوة الطاووس
خلال قرون مضت، وفي بعض مراحلها المؤرخة بوصفها الأكثر سوءاً، ظلَّت علاقة الفيلسوف بالمعرفة علاقة ذاتية مغلقة، إلا أن ذلك فقط لا يمثِّل سبباً لوجود الفيلسوف في العالم؛ فهو ليس ذلك الطاووس(2) الذي يسعد بذاته وجسده الجميل مفتوناً بهما على نحو نرجسي ماتع، ولا يحيا الفيلسوف فقط من أجل وطن معرفي يعزله عن العالم من حوله كمحيط أنطولوجي وانشغال وجودي حتى يردِّد نشيد وجوده الذاتي على نحو ببغاوي تكراري لا دلالة موضوعية له.
نعم، قد يعيش الفيلسوف بالمعرفة الفلسفية ويحيا بها، ويتيقَّظ أسوارها صائناً لها، لكن تلك المعرفة/الوطن تبقى غير بالغةٍ إنْ لم يجعلها الفيلسوف طريقاً مثمرةً لغاية سامية بحيث يراها ونراها معه تترجَّل لتمشي بين الناس حتى تلامِس واقعهم في نمائه وصيرورته اليومية بكل ما فيهما من تحوّلات عرضية وتبدُّلات جوهرية ملامسة ومفكَّر فيها للعالم والأشياء والإنسان والمجتمع.
وكل ذلك يُلقي على وزر الفيلسوف وعاتقه مَهمة فتح منظورات معرفية جديدة تسأل الواقع اليومي الذي يعيشه مع مجتمع ما؛ مجتمع شاء الفيلسوف أم أبى نراه يمكث فيه ولا مهرب وجودي للفرار منه، ويتعاضد معه وجودياً وأنطولوجياً بالضرورة كونه منشغلاً به ليس على نحو تأمُّلي مجرَّد فحسب، بل محايث خلاق؛ منظورات معرفية تسأل مسارات الواقع اليومي غير الاستهلاكي، تسال منحنياته وتحوّلاته وتقلُّباته كواقع إنساني، خصوصاً أن وجود الإنسان في هذا العالم يعدُّ علامة نيرة دالة على هيبة وقيمة هذا العالم المُعاش بكل كيانه المادي والروحي، التاريخي والمعرفي. فالفيلسوف نفسه، وبالمعرفة الفلسفية غير المنفصلة عن حراك الوجود اليومي؛ المعرفة المحكومة، بل الواجب أن تكون محكومة، بملاقاة ما هو يومي، يبقى الفيلسوف ذلك الإنسان الأقدر على فتح أفق يطلُّ على عالمنا الذي يجب أن يلاقيه على نحو غير مفارق ولا متعال على صيرورات “العالم هنا بوصفه مأخوذاً بعين الانشغال كعالم محيط، كوسط محيط”(3)، خصوصاً تلك الصيرورات المأساوية منها، الصيرورات التي تتأرَّب بقدر ما تكتنز نزعة عدمية كلية أو شاملة (Universal nihilism) وقد أمسى صراخها الدَّموي علامة هائجة الأثر في مجمل حياة الإنسان المعاصر.
قد نتفق بأن “الشر” هو خاصَّة أساسية في الموجود البشري، وهذا ما تخبرنا به الأديان السماوية، بل حتى البشرية، وفقاً لتجارب التأريخ. لكنّه (الشر)، وإذ أخذ يتحوَّل إلى رؤية منظَّمة تفتك بالنوع البشري، رؤية سرعان ما تتحوَّل إلى مؤسَّسة، فإن الشر البشري لحظتها سيُمسي ظاهرة غير معتادة، ويصبح غاية عدمية كلية مُطلقة فوق العادة، غاية تمثل تحدياً كارثياً يهدِّد مصائر البشر.
في القرن العشرين، وهو تأريخ قريب، عاش الإنسان العراقي ويلات حروب منظَّمة، فكان احتلال البريطانيين للعراق مطالع ذلك القرن بداية مرحلية سوداء(4)، تبعتها حروب أخرى مع جمهورية إيران الإسلامية، ومن ثم دولة الكويت، وبالتالي الحرب العالمية القذرة التي تحالفت على قتل الإنسان العراقي وتدمير وطنه عام 1991، وبالتالي احتلال العراق وتدميره المضاعف على نحو سافر في عام 2003، رغم إزالة نظامه الدكتاتوري سيء الصيت، وتداعيات ذلك التغيير الإجرامية؛ كحرب “تنظيم القاعدة”، ومن ثم حرب (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) البشعة على الوطن العراقي الذي بات منتهك الأوصال جهوياً دون استثناء.
على الفيلسوف الحق أن يوجِّه طاقته المعرفية صوب تفكيك كيان هذا العنف بكل تأويلات خطابه المتطرِّفة، وعلى الدولة أن تفكِّك القدرة المادية لهذا العنف
في كل تلك الحروب الدَّموية القذرة، كان الإنسان العراقي، بوصفه موجوداً بشرياً، الضحية الأولى والأساسية في تدمير موجوديته الذاتية الخاصَّة به، وتدمير مقدّراته الموضوعية من حوله، وبالتالي إهدار دمه وقتله بطرق شيطانية يندى لها الجبين البشري. ما يعني أن هذا الإنسان أصبح الكائن المبتلى بين فكي عنف جذروي فادح التطرُّف (Ex- Radical violence)(5)، ذلك العنف الذي بات يندفع برؤية عدمية شاملة؛ رؤية تقضي على الوجود البشري المتكشَّف كيانه، هنا أو هناك، قضاء مبرماً حدَّ العدم المطلق.
نحن إذن بإزاء عنف يمكن وصفه بأنه “فوق العادة”، مقارنة بصور العنف الأخرى الأقل فداحة، رغم أن العنف، وفي كل صوره، يمثِّل حالة ممقوتة لدى البشر. إن عنفاً جذروياً من هذا النوع لا بدَّ له أن يدخل إلى باحة التساؤل الفلسفي الخلاق، يدخل إلى مقام التساؤل لكي يستوطن حضرة تساؤلات الفيلسوف له، تساؤلات الفيلسوف الحق باعتباره راعياً للوجود، تساؤلاته عن حالة هذا العنف في بطانته الجذروية وتمظهراته الفادحة، وكل تشكُّلات حضوره غير المرغوب بها؛ فنحن يجب أن نفرِّق بين عنف فردي هو خاصَّة بشرية لأفراد يمارسونه بحكم التربية اليومية، وعنف آخر جماعي منظَّم هو خاصَّة لمجموعة بشرية تتسلَّح برؤية عدمية شاملة، رؤية غير مألوفة، رؤية يمكن تصنيفها بأنها فوق العادة؛ فوق عادة العنف اليومي الفردي الشخصي، رؤية ينبغي على الفيلسوف المعاصر أن يتصدّى لنظامها المعرفي بأنْ يخترق مقولاتها ومسائلها ونظرياتها، وبالمرة خطابها بغية تفكيكه وتقويضه للحدِّ من تأثيره السلبي المجحف في عمران الفكر البشري، الروحي والمادي، في حاضره وماضيه، ضماناً لمستقبل مأمول تتربَّع عرشه أولويات الصُّحبة الكونية؛ أليس الإنسان هو بنيان الله في الأرض؟
يستندُ خطاب العنف التدميري الشامل في ثوبه الإسلاموي التكفيري الجذروي (Anti – Islami)(6) الذي يواجه الإنسان العراقي والعربي والعالمي المعاصر، يستندُ على عقل أداتي تدميري، وينطلق بدوره من رؤية فكرية تستندُ، هي الأخرى، على تأويلية لاهوتية إسلاموية مارقة هي أكثر مفارقة وتعال على قيم الأرض والسماء كما يتبدّى خطابها فعلاً وممارسةً في الراهن اليومي الذي نعيشه.
لقد كان الفيلسوف العراقي الحديث سبّاقاً إلى تفكيك بينة هذا اللاهوت الإسلاموي الزائف، كان ذلك في مطلع القرن العشرين؛ عندما تصدّى الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (1863 – 1936)، وتحديداً في كتابه “الفجر الصادق”، الصادر في إسطنبول عام 1905، إلى تعرية التأويلية السَّلفية بوصفها تأويلية تكفيرية لا تراعي جوهر الإنسان كإنسان، تلك التأويلية التي يرجع إليها دعاة اللاهوت التدميري المعاصر بكل بشاعته لقتل الناس على نحو منهجيٍّ منظَّم، ومنها تجربتهم في أفغانستان، والجزائر سابقاً، وفي العراق منذ أغسطس 2003، وتالياً في تونس، وسوريا، وليبيا، ومصر، واليمن.
منذ مطلع القرن العشرين أدرك الزهاوي، وبحسِّه الفلسفي العميق، فداحة تلك الـتأويلية التدميرية الجذروية القاتلة حتى جاء إلى تفكيك خطابها، وهي مهمة الفيلسوف العراقي والعربي المعاصر الذي لا بدَّ أن يستند على تلك التجربة النَّقدية الفلسفية الباكرة في ظلِّ ما يجري حوله، خصوصاً أن التأويلية السَّلفية الراهنة (القاعدة+ داعش) تستعيد مجدها العدواني مرَّة أخرى مدفوعة بشتى السُّبل غير الشرعية ولا الأخلاقية، دينياً وعرفياً، في عنفها وتدميرها للوجود الإنساني المعاصر تحت سطوة ضعف الدولة الوطنية العربية القاتم، بل هزيمتها، هذه الدولة الطرية، أمام مخطَّطات كونية باتت تمسخ الإنسان العربي، وتحطُّ من كرامته، وتنهب مقدراته، وتشوّه تأريخه الثقافي والديني، وتقضي على منجزه الحضاري المادي والعمراني، فضلاً على نحره بطرق سفاحة دميمة لا هوادة لها.
لوحة: أمل بشير
إن حالة العنف الدَّموي الجذروي في ثوبه الإسلاموي الرقيع لا تستمدُّ طاقة كيانها التعبوي الراهن من مداد التأويلية السَّلفية الحديثة ولا المعاصرة في أنموذجها الماضوي فقط بوصفها نحلة جهوية (Sect/ Secte)(7)، إنما من اتجاهات تأويلية أخرى حبلى بما هو عدمي مطلق يمكن وصفها بالبشاعة نفسها التي وصفنا بها اللاهوت الإسلاموي الجذروي؛ فرُعاة العنف الدَّموي الإفنائي تراهم يلونون خطابهم وظهورهم اليومي بحسب مصالح الشر الثاوية في عقر غرائزهم الخبيثة، وبحسب منافع نظرائهم غير الإسلامويين، وكذلك بحسب تنوُّع مرجعياتهم الروحية والمادية، وكل ذلك ينعكسُ على فعلهم اليومي الدميم.
إن سياسات الغرب الصهيوني التدميرية غالباً ما تلجأ إلى جذب نظائر متشابهة لمشروعاتها العدوانية على الشعوب والأمم؛ فحركة داعش الإسلاموية التدميرية هي ليست بناءً عربياً أو إسلاموياً خالص التكوين، بل هي بنية هجينة من حيث الإنشاء والدعم المالي واللوجستي؛ إنها أداة تنفيذ لمخطّطات تقسيم البلدان العربية، وتفتيت بنية المجتمعات الإسلامية بتفكيك صميمها وكيانها المحلي والوطني والقومي والكوني إلى مجرَّد جهويات فرعية متناحرة؛ جهويَّات مناطقية، ومذهبية – دينية، وعرقية، وثقافية، وحضارية متصادمة متقاتلة متحاربة. وتلك دعوة شرّع بالتنظير لها صموئيل هنتنغتون (1927 – 2008) منذ عام 1993(8)، وتالياً في كتابه “صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي” الصادر عام 1996، لإضرام ذبالة الاشتباك الدَّموي الجحود بين الشعوب والأمم في العالم، وهو ما جرى بالفعل منذ حادث الحادي عشر من سبتمبر 2011، بل قبله وحتى الآن؛ حيث شهدنا سلسة من الاختلالات الكونية المتصادمة على أساس جهوي باهظ التفكُّك. وكل ذلك يمثِّل اليوم الاستثناء التدميري الذي لا بدَّ من مداهمة حصونه الفكرية، وتلك مَهمة الفيلسوف، والقضاء على بنيته المادية، وتلك هي مأمورية الدولة الوطنية العربية الجديدة، دولة التحديات الكونية الكبرى.
وهنا، وهنا فقط، لا بدَّ للعلاقة بين الفيلسوف والدولة أن تعمل في حقل واحد يتم فيه تقويض الوجود الملموس غير العادي للعنف البشري الجسيم؛ وجود العنف الإسلاموي التدميري الجذروي المتطرِّف الذي يمثل شكلاً من أشكال النزعة التدميرية الجديدة في راهن الحال العالمي.
لهذا، نعتقدُ بأن على الفيلسوف الحق أن يوجِّه طاقته المعرفية صوب تفكيك كيان هذا العنف بكل تأويلات خطابه المتطرِّفة، وعلى الدولة أن تفكِّك القدرة المادية لهذا العنف في كل أشكال ظهورها. إلاّ أن المَهمة الكونية الأولى، مَهمة الفيلسوف الراهن، تبقى ذات شأن بارز كونها الممر الحقيقي المؤدِّي إلى فتح الموالج أمام مُساءلة خطابات هذه النَّزعة التهديمية في أكثر صورها بشاعة وقتلاً للحياة، ونحراً حياً للمستقبل؛ فبقدر ما تكون هذه النزعة فكرية لاهوتية نراها تتمأسس عسكرياً (تتحوَّل إلى مؤسسة عسكرية) كبنيان مادي ملموس يعبر الجغرافيات المحلية والوطنية والقومية كما يروم ويشتهي، ليبقى الأهم في تقويض كيانها الكلي، الفكري والتداولي، ومن حيث الأولوية، هو مساءلتها الجذرية بكشف تناقضاتها، وتعرية طروحاتها وفضح مسارات تفكيرها؛ أليس الإنسان هو الكائن التساؤلي الوحيد بين الخلق؟
قد تكون مَهمة من هذا النوع ذات طابع أيديولوجي، لكنّها تبقى ممارسة فكرية وفلسفية إنسانية لا يمتلك ناصيتها إلاّ الفيلسوف الحق، الفيلسوف غير الطاووسي ولا الببغاوي، فيلسوف التنوير الجديد الذي لا يملُّ من فتح آفاق السؤال على ما يجري من حوله، وما يحدث في عالمه المعيش، خصوصاً “عندما ينبثق في اليومي حدثٌ استثنائي”، كما يقول الشاعر الفرنسي برنار نويل(9)، ويتحوَّل هذا “الاستثنائي العدمي” إلى ظاهرة تدميرية مقيتة تُخرج اليومي المسالم من زمانيته المعتادة إلى زمانية استثنائية مميتة للحياة والوجود، فلا ينبغي للفيلسوف أنْ يدع كل ذلك يمرُّ دون مساءلةٍ معرفية تأريخية أصيلة تنقذهُ وقومه الإنساني من الاستسلام لنرجسية الذات المتعالية ضارة الأثر.
لهذا، لا بدَّ للفيلسوف من تجديد دوره على نحو مزدوج ومتزامن؛ تجديد دوره المعرفي الخلاق، وتجديد دوره الوجودي اليقظ معاً، ومعاودة ذلك الدور بأصالة خلاقة فائقة في انهماكها التاريخاني، وذلك عبْرَ تبديد عزلته -عزلة الفيلسوف الصامتة عمّا يجري حوله في الواقع المُعاش-، بل استعجال مُساءلة ذلك (الما- يجري ويحدث) في الواقع على نحو متروٍّ. وبذلك، يتحوَّل الفيلسوف المأمول من مجرَّد كائن طاووسي مفتون بذاته وبمعرفته الفلسفية التي له دون غيره، من باب الاحتكار النرجسي لا غير، إلى مُتفلسف تاريخاني أصيل ينفتح على الوجود اليومي غير الاستهلاكي ليضيء دروبه بحيث يجعل من نظامه المعرفي الذي لا بدَّ أن يكونه الفيلسوف وهو يلاقي العالم من حوله، نظام معرفي مُوطَّد العلاقة مع حراك التأريخ الجاري، ومع حركيته التاريخانية المعيشة فعلاً، على نحو تعاضدي مُتزامن في حضوره وانشغاله بما يحدث ويجري حوله.