بلاغة اللاشعور.. التحليل النفسي للشعر
ومن ثم، إذا كان بإمكان التحليل النفسي قراءة العرض، فذلك لأنه سبق له أن انكتب، هو نفسه، ضمن صيرورة للكتابة، وباعتباره تشكلا معينا للاشعور. من هذا المنطلق، وجد المحلل النفسي نفسه مدعوّا إلى تعلم لغات عديدة -فالذات توجد ضمن عناصر اللغة التي تتكلّمها- بدءا بلغة الصمت وهي لغتنا الأم، فالكلام يمكن أن ينبثق عن الصمت. هذا على الأقل ما توصل له المحلل النفسي الراحل جون برتراند بونتاليس بعدما أرهقته متاهات المهنة، ليخبر بدوره تجربة الفناء والغياب (أي الموت). إن الصمت في التحليل النفسي هو شرط الكلام، هو بمثابة خلفية لا بد منها حتى ينطلق المحلل ممّا هو غير متوقع، أو ما يسميه بونتاليس الفكرة الطارئة. إنها الفكرة التي تأتيك رأساً، وبمنأى عن الخطاب المنظّم للمحادثات العادية. فالصمت كلام، ولغة. إنه أحيانا الأبلغ، والأشد توترا؛ والمولّد الأكبر للخواف والتّخلخل. فهو خطاب في حد ذاته؛ وهو موقف؛ وهو قلق وتوتر. وتلك الرسالة، ذلك الصمت، تؤدي وظيفتين: الإرسال والتلقي أو التعبير (الأداء) والفهم. إنها في بنية النطق، وهي نطق أو نوع منه، وتتمركز حول تلك الوحدة التي صارت تحوي على نحو مدروس بارز اللغة التحت لفظيّة أيضا (أورده علي زيعور، التحليل النفسي والإناسي للذات العربية-اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية، ص 88).
أما بالنسبة إلى الشاعر، فهناك دوما شيء ما يتكرر، يستعاد، يوشوش، يعبّر هامسا على أطراف الأصابع في موكب من الدوال/الظلال، متقطع السلاسل ومترامي الأطراف. ومن هذه الفجوة تحديدا يلفت جاك لاكان الانتباه إلى أهمية الكلمة في مضمار البحث عن المعنى الذي يلحّ ضمن سلسلة الدلالة دون أن يتمثل أيّ أحد منها. هذا الأخير الذي ألح طيلة مشواره على ضرورة إقامة الفرق أو الحدّ بين المنطوق من الكلام والمسموع منه. بمعنى ليس كل الكلام يجد آذانا صاغية لدى المرسل إليه (ثنائية الاستماع والإنصات). لقد أضحت وظيفة الكلمة في التحليل النفسي هي أن تتعقل ما أمكن ما يتكرر كعرض، بمعنى الرسالة المكبوتة التي تصّر على أن يتم التعرف عليها من قبل الموضوع. فالكلمة هي حضور الشيء الذي تدل عليه وغيابه في آن معا، أو بتعبير ديدرو «الكلمة ليست الشيء ولكن وميض ندرك من خلاله الشيء». بمعنى آخر، إن الغياب الذي يكمن في العلاقة القائمة بين الكلمة والشيء هو الذي يضمن الرغبة، لكن، لا يمكن لهذه الرغبة أن توجد إلا بغياب الشيء المرغوب فيه. إن هذا الإفصاح المتردّد للاشعور، يكتم المقال في الوقت الذي يصرّح به، جعل التحليل النفسي يقدّم نفسه ولازال كفن الإصغاء (إيريك فروم)، فالكلمات قد تكون نوافذ كما يمكنها أن تصير جدرانا. على هذا النحو يدخل المحللون النفسانيون في عداد مفهوم اللاشعور ما داموا يعتبرون هم المرسل إليهم، الذين يتوجه إليهم اللاشعور (لاكان، كتابات).
وبما أن التجاسر بين الشعر واللاوعي متين لهذه الدرجة، كان لزوما على المحلل النفسي إعارة بالغ اهتمامه لما يأتي على ألسن الشعراء، بل قبله، عليه أن يلتفت إلى تفاصيل حياتهم، بيئتهم، طفولتهم، طبائعهم، أمزجتهم وباقي العوامل المؤثرة في نفسياتهم والحوافز التي تقف وراء إبداعهم، والتي تكون دون أن يساورنا أدنى ريب من المحركات الباطنية المحرضة في انسيابية القيء الذي تلفظه أقلامهم المتنفّسة من فجوات الثقوب التعبيرية داخل اللغة. كما قد لا يخفى على أهل الأدب كتّابا ونقّادا وقرّاء، أن النص الشعري من منظور تحليلي نفسي ألسني هو أقرب ما يكون بنص مخطوط بقلم اللاشعور «القصيدة بما هي زلّة أو فلتة قلم. فالقصيد هو ذلك المحترف في تقديم الغموض بوضوح، أو دعونا نقل لمس ما لا يفسّر بشكل لا يفسّر» مقتبسا العبارة من لسان الشاعر الايطالي جوزيف أنغرتي.
لهذه الأسباب وغيرها، قد يحسن التحليل النفسي توجيه الأدب في ارتياد المسارات الملتبسة ذات الوجهات المجهولة التي يحرثها التعبير الشعري. إذ لا يكفي مثلا أن يكون الناقد الأدبي متمرسا في تقنيات البلاغة وقواعد النحو والصرف أو لنقل علم اللغة بشكل عام، لكي يستطيع ولوج مكنون النص الروائي أو تفكيك طلاسم القصيدة الشعرية، بقدر ما ينبغي عليه الاتكال على معول التحليل النفسي، كي يحيط علما بملابسات إنتاج النص ودفائنه، وينفذ منها إلى المطمور والظلّي والمستور في الحديقة الخلفية للكاتب. لقد أمكنت القراءة التّحليلية النّفسية للنتاج الأدبي من توقيد المشعل إذا جاز التعبير، لإنارة هذا النفق المزدوج الذي يمكّن الناقد/المحلل سلكه، الانتقال من أدب الأديب إلى نفسيته، أو العكس العبور من نفسيته إلى أدبه. (راجع كتاب: التحليل النفسي والأدب، جان بيلمان نويل، ترجمة حسن مودن).
أفتح قوسا في هذا الباب للإشارة إلى صدى النقد النفسي المعاصر ومجالات تطبيقاته التي تحفل بمجموعة من النماذج المنجزة، يراهن الناقد النفسي من خلالها تجاوز المنظور الكلاسيكي بتطبيقه الأدب على التحليل النفسي، انطلاقا من تسخير ميكانيزمات رؤيوية تستهدف في جوانب منها الكشف عن البنيات المجازية ذات العلاقة مع التوهمات؛ وعن الإيقاع وتقطعات النصوص والآثار المتبقية، وتنعش من زاوية نظره حقل التحليل النفسي عندما تضيف إليه -من مخزون الأدب- بدل أن تسحب منه.
حيث هناك أصوات أحدث في هذا المجال، لعلّ أبرزها الناقد البريطاني آدم فيلبس. فبالرغم أن التحليل النفسي هو حقل اختصاصه المهنيّ، إلا أنه، ومن خلال إقباله على كتابة المقالة الأدبية، أفلح في الانعتاق من القيود التقليدية لهذا الضرب من المعرفة. فكتابة المقالة عند آدم فيلبس ليست مجرد نشاط إضافي منفصل، وإنما هي محاولة لفتح نوافذ التحليل النفسي على ميادين واهتمامات ثقافية أخرى ولا سيما الأدب. الأمر كذلك ينطبق على ميشال ليريس الذي يجمع بين التحليل النفسي والكتابة، وهو يكتب أحلامه وتحليله لنفسه.
وتصويبا للمرمى نحو هذا الهدف بالتحديد، نجد فرويد قد انتبه باكرا لهذه الحقيقة الذاتية المتوارية والكامنة في تلافيف الخطاب الشعري، حينما صرح قائلا «كلما وصلت إلى اكتشاف شيء حيال اللاشعور وجدت الشعراء قد سبقوني إليه». ويضيف مطريا أهل الشعر «إن الشعراء والروائيين هم أعز حلفائنا وينبغي أن نقدر شهادتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في معرفة النفس شيوخنا، نحن الناس العاديون، لأنهم يرتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها».
وبما أن التجاسر بين الشعر واللاوعي متين لهذه الدرجة، كان لزوما على المحلل النفسي إعارة بالغ اهتمامه لما يأتي على ألسن الشعراء
ليعرب فرويد عن إمكانية تقويض التحليل النفسي والعثور على مادته من خارج أسوار العيادة والجلسات الاستماعية العلاجية (التحليل النفسي كعلاج بالكلام، مادام الكلام نفسه مفتاح اللاشعور)، بهذا القدر من التواضع غير المعهود على شخص فرويد، يكون قد أقرّ للشعراء ولو بشكل ضمني بأسبقية اكتشافهم السبيل للاشعور -عبر بوابة الكلام وقنوات ذات صلة كالوهم الفني- قبل أن تحظى بهذه الفرصة في القادم من الزمن كشوفات التحليل النفسي. هذا وإن كان الناقد الأميركي ليونيل ترلينغ على سبيل الطرافة قد اعتبر فرويد بطل الشعراء. فهذا الأخير والحقيقة تقال قد رسم عمارة متاهية للكائن الإنساني حسب تعبير جورج باتاي.
لقد كان عراب التحليل النفسي جدّ متبصر بالقرابة الوثقى القائمة بين الشعر ومبحثه، أو بمعنى آخر بين مخيلة الشاعر مأوى الهوامات، الكلمات، والصور، ونطاق اللاشعور أين يجري ترميزها وتنحيتها، وبما هو أيضا الحصن المنيع الذي تحافظ فيه الحروف على قوتها وسلطانها. أما القاسم المشترك الذي يوحّد المسعى بين كلّ منهم، فهو المضيّ قدما نحو اكتشاف المجهول ومعرفة حقيقة الذات والدوافع التي تخترقها، مع ترسيخ فكرة أن الإنسان محكوم عليه بقدره التاريخي ومدفوع بقوى مجهولة لاواعية تحركها حبائل خفية ملتفّة من وراء المشهد القناعي البارزة فيه «الأنا « أمام العالم.
استمساكا بهذا الحبل السميك الذي ربط به فرويد التحليل النفسي بالشعر، مصدر الحديث فيما بعد عن شاعرية اللاشعور لدى جاك لاكان. فالقصيدة الشعرية هي حلم أو حتى هذيان، يكتنفه حشو دلالي مفرط، مستند على مجموعة من الميكانيزمات يأتي في مقدمتها: التكثيف، الاستعارة، الرمزنة، الإزاحة، المجاز (…) الخ، إذ يحصل لدى الشاعر إنجاز متنكر أو تعويض إعلائي لرغبات محظورة ومنفية في مجاهل النفس، لينزلق به «الهوام» في لحظات من التداعي الحرّ للأفكار وإطلاق صراح الانفعالات التي تأتيه مزدحمة في شكل تخيلات، ذكريات، خواطر، كلمات وصور مبتورة في بعض الأحيان عن سياقاتها، تعبّر عن تلك الصراعات الداخلية الكتيمة في نفسيته والتي لم يحسم فيها بشكل نهائي، طالما أن الرغبة هي ذاتها تعيش حالة سراح مؤقت.
فالشاعر يحاول تمويه رغباته الحقيقية وإلجامها في طوق اللغة، لهذا جاءت القصيدة في انتظاماتها وتراكيبها شبيهة بلغة الحلم. من جهة أخرى تظل الحالة الشعرية من وجهة نظر التحليل النفسي محكومة بمتلازمات نفسية تجد تعبيرها في الثلاثية التالية: التنفيس وهي حالة من «الكاتارسيس» أو التطهير المفضي إلى بلسمة المشاعر. لتأتي بعد ذلك الإثارة ويقصد بها المبالغة إما في استعراض المتع والملذات التي تنغمس فيها الذات سواء عبر تجربة حسية-حية أو خيالية مصطنعة، أو بالمقابل تضخيم للألم وتهويل حجم المعاناة. وآخرها الإشباع وهو القاضي إلى الانشراح و الارتياح الذي تخمد معه وطأة القلق.
ومن اللافت للانتباه مسألة لطالما راودتنا ونحن نقرأ لبعض الأشعار الخالدة من باب الاضطلاع المغني لمخيّلة الباحث في حقل التحليل النفسي. حيث لمن المعهود على أهل الشعر ردّ الحالة الشعرية إلى ما يصطلحون عليه بـ»الدّفقة الشعورية»، وهي اللحظة الأثيرة التي تنتاب الشاعر قبل أن يمسك قلمه ويبدأ في اقتناص الكلمات. إن هذا التوصيف قد يقابل بتفسير معكوس في تجربة التحليل النفسي مع الكلام، نقصد أن الحالة الشعرية منظور إليها في بعض الأحيان كونها ناتجة عن «دفقة لاشعورية» هي بالأساس، وليدة، أو نابعة على الأقل من هزّات حاصلة على المستوى الباطني للنفس. فالشاعر غالبا ما يدّقق عقارب ساعته على زمنه النفسي اللاشعوري، والذي يظلّ في الحقيقة زمن اللازمنّ؛ أو بتعبير آخر «لازمنية اللاشعور». وعبر هذا التشويش النفسي والسفر الفجائي بين الأزمنة لدى القصيد، يحضرنا مفهوم الأثر، كما بلوره جاك دريدا «الجوال المحترف في جسد المتن، والمولع بخبايا الكتابة الأوّابة إلى الأصل، والتحقق اللّحظي للغياب».
إنّ القصيدة ليست فقط مجال سماع ما هو جمالي، متناسق، موزون، مؤثر، جامح وساحر (…) الخ ، لأن وراء كل نظام نحوي أو بلاغي تتمفصل الكلمات بالأشياء قبل أن تصير منطوقا مرصّنا في قالب لغوي. يجب علينا إذن قراءة ما بين السطور، ليس لمعرفة اللغة التي تتكلّمها الذات، وإنما اللغة التي تتكّلم فيها. ما دامت الذات ليست هي التي تملك اللغة، وإنما اللغة هي التي تملك الذات. وتلكم من خواص القوة الميتاشعرية للغة.
ونغتنم الفرصة في ختام هذا العمل، لنحيل ولو بإيجاز على بعض الشخصيات الشعرية المرموقة التي أخضعت للتحليل النفسي، نذكر من ضمنهم أبو نواس، المتنبي، نزار القباني، أدونيس، جبران خليل جبران، خليل حاوي، محمود درويش، هولدرلينغ، ألفرد دوفيني الذي كان يعاني من مزاج تشاؤمي حاد، ولا ننسى ذكر الشاعر المتمرد شارل بودلير (1821-1867) إذ يعد منجزه ديوان «أزهار الشر» كما درسه رينيه لافورغ من الإبداعات الحبلى بالبقع السوداء الملطوخة في نفسية الشاعر الفرنسي، إلى جانب تجليات أعراض السوداوية على متنه، وكذلك منسوب العقدة الأوديبية البادية في حبّه وكرهه المزدوج لأمهّ؛ ومشاعره المتناقضة تجاه زوج أمه المنافس، المهيمن على موضوع الرغبة. هذه الخيانة المشعور بها من قبل أقرب الناس إليه قد تسببت له في وحشة وغربة عن العالم، حملته على الهجرة إلى ذلك الطرف الأقصى من ذاته، كما لو أن قدره قد كان مخبوءا في شعره الذي لم يبح به بعد.