بلاغة الواقع

الخميس 2021/04/01

1

إنّ الاهتداء إلى جواب مناسب على سؤالك الأول يمثّل مفتاحاً للأسئلة الأخرى، ترى هل يمثّل الشِعر بالنسبة إليّ أهميّة ما حتى أسأل نفسي لماذا أكتبه؟ أستطيع الإجابة بنعم، وآية ذلك أنّه أصبح صنواً لحياتي، لا يمكن التفكير إلّا به ومن خلاله، وأهميّته تتجلّى أكثر مع ما أكتبه من نصوص وقصائد أراها قد حقّقت جانباً من رسالتي كشاعر وإنسان.

 ما أريده من القصيدة هو ما أعمله في الشِعر حقّاً. وبين هذا وذاك يتشكّل ما أعتقده مشروعاً شعرياً.

ما الذي أريده من القصيدة؟ أن تنجحَ (هيَ) في جعلي خادماً لها، مُنقاداً الى صبواتها، ورعونتها وجنونها، لأنّني باختصار لا خيار لي إزاءها سوى الاستسلام لما تريده هيَ لا ما أريده أنا.

القصائد العظيمة هي التي تكتب نفسها، ولا أجانب الحقيقة هنا. ما ينشده الشاعر ويتعلّمه خلال حياته ليس أكثر من محاولات حثيثة للوصول الى قلب القصيدة.. كي يبقى هناك الى الأبد.

2

منذ البدء وخلال قراءتي لعدد كبير من الشعراء كانت تستهويني قصائد بعينها، يستهويني منها تحديداً: شدّة التماسك في البِنية الفنّية، قوّة الفكرة، طرافة الصورة، وجمال اللغة. وأعرف تماماً صعوبة أن يجتمع كلّ هذا في قصيدة. إلّا أنّه ثمّة قصائد ليست بالقليلة لشعراء عرب وعراقيين حقّقت جانباً كبيراً من ذلك.

وما استهواني في القراءة انتقل شيئاً فشيئاً، وبالرغبة ذاتها، إلى ميدان الكتابة، وأزعم أنّني الآن على الطريق ذاتها. ووحده الرقيب الخفيّ، أو المتخفُي بداخلي، قد تسلّح عبر الزمن بما يكفي من تصوّرات وقناعات، ومع الوقت أخذ يتشدّد في اختياراته وخياراته وأفكاره. ووجدت أنّ التماسك الشكلي في القصيدة لا يتحقّق إلّا عبر تماسك داخلي في بِنيتها العميقة، ويتجلّى ذلك، مع الزمن، في ارتفاع درجة جاهزية الشاعر وعياً وكتابة. وإنّ حضور ظلال مُحدّدة لأجناس أدبية أخرى: قصة، رسم، مسرح، موسيقى، قد أعانتني على اكتشاف خيارات جديدة في الكتابة الشعرية، لهذا تنوّعت عندي أساليب الكتابة: من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر.. إلى النصوص المُختزلَة والقصائد القصار جدّاً.

ولكن هل انتبه النقّاد إلى ذلك؟

أحسب أنّ بعضهم انتبه فعلاً، ولكن دون أن يعطي هذا الملمح في قصائدي الاهتمام المناسب.

3

الشِعر أكبر من أن يُختصَر في شاعر أو مجموعة شعراء. الشِعر لم يمت بموت المتنبي وأبي تمام وأبي نواس.. ولا بموت أحمد شوقي والجواهري وعمر أبوريشة.. ولا حتّى بموت السيّاب والبريكان ودرويش والماغوط وسركون بولص.

الشعر باقٍ على الرغم من ذلك، إلّا أنّ جميع مَن ذكرت قد جعلوا الشِعرَ أجملَ وقعاً وأبلغ تأثيراً في الذائقة العربية. وكلّ هؤلاء، ومعهم آخرون، ساهموا في ترصين ذائقتي الشعرية، وإذا كانت ثمّة تصوّرات ذاتية تخصّني فهي تتجدّد باستمرار مع كلّ قراءةٍ وتجربةٍ جديدَتَين.

4

ما يجعل الكثير ممّا كُتِبَ ويُكتَب الآن يبدو للمتلقّي العام غير المُتخصّص أخرقَ وقليل الأهميّة هو غياب الجدّية والجاهزية المطلوبة لدى الشاعر، والاهتمام المُخلص لدى الناقد.

مع ذلك ثمّة ظواهر شعرية كثيرة مرّت على الجميع ولكن دون مبالاة من أحد. ثمّة شعراء مُضيئون فعلا ًظهروا هنا وهناك، على امتداد الساحة الشعرية في بلادنا العربية، إلّا أنّ تجاربهم الشعرية لم تحظ بالاهتمام اللائق، وقد يذهب الاهتمام غالباً الى تجارب بسيطة وضعيفة الأثر.

إنّ التوقف أو الموت السريري للعديد من المجلات الأدبية والشعرية المهمة كـ”الآداب” و”شعر” اللبنانيّتين، و”الأقلام) العراقية (عددها الأخير يبشّر بعودة أكيدة الى مستواها المعروف)، و”شعر” المصرية و”الموقف الأدبي” السورية وسواها ساعد على تعميق هذا الخلل. وكذلك غياب النقد التطبيقي والاستعاضة عنه بنقد تنظيري لا يمسّ التفاصيل الحيّة في التجربة الشعرية العربية. فضلاً عن تسييس بعض المهرجانات الشعرية أو تفريغ بعضها الآخر من جوهر الشعر الحقيقي بسبب التبعية المالية أو الإدارية لهذه الوزارة أو لتلك المؤسسة. ناهيك عن غياب جائزة مخصّصة للشعر تحتكم في اختياراتها وأحكامها إلى رصانة المنجز الشعري لا إلى اسم الشاعر وشهرته، أو إلى بلده وإثنيته وما إلى ذلك. وكذلك غياب أو ضعف الدعم الأهلي أو الحكومي غير المشروط للنشاطات والمبادرات التي تقوم بها الاتحادات والملتقيات والمنتديات الأدبية. والأبلغ أسفاً من كلّ ما ذكرت هو انحدار العملية التعليمية في أكثر من بلد عربي إن لم يكن في أغلبها، ما ضيّقَ فسحةَ التلقي ووسّع الهوّة بين المتلقّي والشعر عامّة، والحديث منه خاصّة. كلّ ذلك ترك آثاره البليغة على واقع الشعر العربي الآن، لذا يتعذّر معه الحكم على مدى أهميّة هذه القصيدة أو ذلك النصّ، هذا الشاعر أو ذاك.

5

أقرّ سلَفاً بأنّ الوقائع العربية في العقود الأخيرة، ومنها ما جرى في السنوات الأخيرة، وما يجري الآن تحديداً هي الأبلغ تأثيراً والأغرب من كلّ ما سبق، وهي بمجملها تمثّل تحدّياً حقيقياً لقدرات الشاعر العربي، وفي ظنّي أنّ مَن توقّف من الشعراء عن الكتابة كان لأسباب ذاتية في الغالب تتعلّق بمدى إيمانه برسالته الشعرية من جهة، وبمحدودية قدراته الشعرية في المطاولة والتجاوز واجتراح ما هو جديد وطريف ومؤثّر من جهة أخرى. لهذا أرى من العبث أن نحيل ذلك كلّه إلى المواقف السياسية. الشعر الحقيقي عابر للسياسة وما ينتج عنها. والقصيدة، في الصميم، هي موقف وجودي من العالم والأحداث والوقائع بكل خرابها وبؤسها وما تفرزه من مصائر مجهولة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.