بوب ديلان الكذبة الكبرى
تلك عن شعره، فحسبنا أن نقرأ “وقائع» الصادر عن غاليمار عام 2005 في ترجمته الفرنسية، وهو الكتاب الأول الذي ضمّ مذكراته، وأعيد نشره منذ شهر عن فايار، وفيه لا حديث عن الشعر إلا عرضا، حيث ذكر أنه قرأ الشعر صغيرا، وأعجب بسونيتة لميلتون تشبه أغنية فولك حسب قوله، مثلما أعجب بمقولة رامبو “أنا هو شخص آخر”، وما عدا ذلك لا شيء تقريبا، فهو لا يعتبر نفسه شاعرا إطلاقا، بل إنه يكره لفظة “شاعر”. فمن أقواله مثلا “ليس من الضروري أن تكتب كي تكون شاعرا. يمكن أن تعمل في محطة بنزين وتكون شاعرا”. وفي رأيه أن “الأغنية” تظل “أغنية”، ولكن عباقرة لجنة نوبل يعتبرون أغانيه كـ”جوي” (Joey)، و”المطر المدرار” (A hard rain)، و”أغنية هوليس براون” (The ballad of Hallis Brown) قصائد ملحمية. وهو ما جعل بيير أسولين عضو أكاديمية غونكور ورئيس تحرير الـ”مغازين ليترير” يصرح ساخرا “إذا كان بوب ديلان شاعرا، فإن بودلير كرونر Crooner. ولكم، قراءنا الكرام، أن تقرؤوا كلمات أغانيه، في لغتها، أو مترجمة، كي تقفوا بأنفسكم على شعرية هذا الذي تحرر كلماته العقل”، تلك “الكلمات التي ارتبطت بالشعور الإنساني العميق” على رأي أحدهم.
وأما عن نضاله الذي ألصق به قسرا، حتى أن بعضهم كتب يقول إنه “كان جزءا من تيار عريض ساهم في إنهاء حرب فيتنام وإخراج أميركا من هذا المستنقع»، وإنه “قاوم بكلمات أغانيه التي لا تزال ترمز إلى رفض الظلم وتدعو إلى المساواة وإلى ممارسة ثقافة الحياة”، بل بشّر بوصول رجل أسود إلى سدة الحكم في أميركا، فهو كلام درج هواة أغانيه على ترديده دون تمحيص. وحسبنا أن نقف عند المرحلة التي صنعت أسطورته كفنان ملتزم ممانع، أي ما بين 1961 سنة وصوله إلى نيويورك و1966 سنة صدور ألبومه المزدوج “شقراء في شقراء” (Blonde on Blonde)، وهي الفترة التي عبرت فيها شهرته الآفاق، وحاز صفة الفنان الملتزم، والمغني المحتج (protest-singer)، والتي فرضت عليه فرضا رغم محاولاته اليائسة للتنصل منها.
أسطورة الفنان الملتزم
قد تنطبق كل الصفات على روبرت ألن زيمرمان (الاسم الحقيقي لديلان) إلا صفات المناضل والمقاوم والمحتج، رغم أن كثيرين لا يزالون يعدّونه أحد بناة التيار المناهض لحرب فيتنام، ووريث وودي غيثري، مستشهدين بأغنيتين من ألبومه الثاني “بوب ديلان العجلة الطليقة” (The Freewhellin Bob Dylan – 1963) وهما “أسياد الحرب” و”مطر مدرار سوف يهطل”.
ففي رأي بعض المتخصصين، مثل الفرنسي بريس تيات، أن الأغنية الأولى كتبت قبل الحرب الأميركية على فيتنام، وكانت تدين المركب العسكري الصناعي الأميركي، أما الثانية فكانت تتحدث عن الرعب النووي بعد هيروشيما وليس عن الأسلحة الفتاكة التي استعملها الأميركان في فيتنام كالنبالم والعامل البرتقالي أو عَامل أورانج -الاسم الحركي لمبيد أعشاب ونازع ورق الشجر كان استخدمه الجيش الأميركي في تلك الحرب كجزء من برنامج الحرب السامة ما بين عام 1961 و 1971-. دليلهم على ذلك أن النزاع الأميركي الفيتنامي لم يكن يرد على لسان ديلان في أحاديثه الصحافية ولو مرة واحدة.
كما أن هذا الفتى (لم يكن قد جاوز وقتئذ الثانية والعشرين من عمره) القادم من مينيسوتاه الأصلية، لم يكن يملك روح الفنان المتمرد، فهو وإن شارك في العام نفسه، أي سنة 1963، في حركة المطالبة بالحقوق المدنية، وغنّى بالمناسبة في مسيرة واشنطن، فلم يكن زعيمها وقائدها، بل كان ذلك بتأثير من صديقته الفنانة المناضلة جون بايز، لم يلبث أن غادر تلك الحركة، كما هو ثابت في مسيرته. ذلك أن بوب ديلان ليس من نوع الفنانين الذين يجندون الجماهير لخدمة قضية، بل كان يوثر العمل وحيدا، فهو أقرب إلى صورة راعي البقر السائر في البراري بمفرده.
وقد حاول التخلص من تلك الصورة التي ألصقت به، بداية من العام 1964، فقطع مع تقاليد الفولك، ونحا إلى أغان تمتح من السريالية، وتميل إلى هلوسة الأعماق (وهي حالة من الهذيان الناجم عن تعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة). ولم يقدم على نشر أغان محتجة وملتزمة بحق إلا لاحقا، ولكنها لا تتعدى الثلاث أغنيات: أولاها “جورج جاكسون” (1971) تكريما لروح أحد أعضاء النمور السود الذي اغتاله الحراس في السجن.
والثانية هي “هاريكان” (1976) الذي طالب فيها بتحرير الملاكم روبين كارتر المحكوم عليه عن ثلاث جرائم قتل. والثالثة “مرهب الحيّ” (1983) وهي إعلان انتماء إلى الحركة الصهيونية وتأييد واضح لإسرائيل، بعد سنتين من ضرب المفاعل النووي العراقي أوزيراك وسنة من اجتياح لبنان. (انظر مقالتنا بجريدة العرب “بوب ديلان المتصهين”، في 8 ديسمبر 2016). أي أنها كلها كتبت ونشرت بعد الفترة 1961-1966، التي شهدت مولد أسطورته كفنان ملتزم معارض يشيد به الصحافيون، حتى العرب منهم.
أسطورة المغني المتمرد
وإذا كان بعضهم يرى أن ديلان، وإن لم يكن فنانا ملتزما بالمعنى السياسي المتداول اليوم، فإنه كان متمردا على السائد بفكره وسلوكه. وهذا أيضا مردود عليه. ذلك أنه منذ ألبومه الأول الصادر عام 1962، سار على خطى مشاهير مغنّي الفولك الأميركان الذين كانوا يتغنون بملحمة “تكوين” بلادهم، ببناتها المجهولين وقطاع طرقها المشهورين، على طريقة التروبادور الذين كانوا يشدون ملاحم الأبطال في القرون الوسطى. وفي العام 1966، في أوج حركات الاحتجاج الطلابية بخاصة، اختار ديلان أن يهجر الفولك وينحو إلى الروك والبوب، فكان أن اعتنقت فنَّه الشبيبةُ الأوروبية واعتبرته نبيا لها.
وفي صيف العام نفسه، اضطر إلى الانسحاب بعد حادث دراجة نارية يشك المتابعون في صحته. ويعتبرون أنه إنما ادعى ذلك لينسحب من الحياة العامة، ومن تلك الصورة التي يرفض التماهي معها. واختار أن يعيش في بيته الريفي بوودستوك صحبة زوجته وأبنائه الأربعة، بعيدا عن صخب نيويورك وهوس المعجبين وملاحقة وسائل الإعلام. هناك سجل مع بعض أصدقائه ألبومه الثامن “جون ويسلي هاردينغ” من نوع الفولك والروك، وهو أبعد ما يكون عن “قوة الزهور” شعار الهيبيز في ستينات القرن العشرين.
فأين الفنان المتمرد؟ والجواب أنه لم يوجد قط. والدليل ما رواه هو نفسه في كتابه المذكور أعلاه حينما اكتشف المعجبون ملاذه بوودستوك وجاؤوه من كل حدب وصوب، حيث قال “أعطاني بيتر لافارج، أحد مغني الفولك من أصحابي مسدسين، وكانت لي بندقية ونشستر أوتوماتيكية. فظيع أن نفكر فيما يمكن أن نفعل بها. كانت السلطات، أي رئيس الشرطة في وودستوك وشرطيان أو ثلاثة، قد حذرتني بأني سأقاد إلى المخفر لو جرح أحد أو أصيب. تصور: لو يسقط أحد المجانين الذين يجرّون أحذيتهم فوق سقف بيتي، فسوف أُتّهَم وأمثل أمام المحكمة. شيء مربك حقا. كنت أرغب في حرق أولئك الناس. أولئك الفضوليون، المرضى، الطامعون في طعامي، تلك الغوغاء، كانوا يدخلون الاضطراب على حياتنا، ولو طردتهم، فسوف أكون أنا المتهَم”.
الجدير ذكره أيضا أنه رفض المساهمة لاحقا في مهرجان أقيم عام 1969 على أرضه، وفضل أن يهجر المنطقة مؤقتا. كان يقول صراحة “لم أكن ناطقا باسم شيء أو أحد.. كنت فقط فنانا”.