بيت الجداول الجغرافيا والتاريخ والعمران
تشغل مدينة البَصْرة أقصى زاوية من نهايات العراق الجنوبية الشرقية، تتسع ولايتها وتتقلص من زمن إلى آخر. ففي العهود الأموية والعباسية المستقرة يصل ظل أميرها إلى الهند والسند، وفي يوم من الأيام عُدّت من برّ وماء الهند، وذلك للامتداد المائي المفتوح من جرفها وحتى السواحل الهندية، ولعلَّ فكرة ما لمعت في بال بعض أعيانها بالانتماء إلى الهند، يوم كانت الأخيرة تحت السيطرة البريطانية. وكونها مدينة ساحلية، مفتوحة على إيران وما وراء النهر، ومن الماء على عُمان والهند، أمست مركزا أمميا، إلى جانب أُصولها الآرامية، تداخلت فيها الألسن، وتشابكت على أرضها الحركات والأحزاب السياسية والفكرية، وبالجملة ليست هناك حركة فكرية أو كلامية لم يكن لها جذر بالبصرة.
مازالت أسامي العديد من المدن العراقية تُنطق بأُصولها السريانية أو الآرامية ألفاظا وتنكر معانٍ، فالقاموسيون العرب لا يذهبون في تحريهم للأسماء أبعد من الفتح الإسلامي العربي، ولعلَّ البَصْرة أكثرها غيابا في البحث والدراسة. ولا يتداول الاسم إلا بالمعنى الذي نجده في كتب البلدانيين والمؤرخين المسلمين: الحِجارة الغليظة، أو الحِجارة الرخوة المائلة للبياض. وأن العرب أطلقوا عليها هذا الاسم “لأنه كان فيها حجارة رخوة، والبَصْرة الحِجارة الرخوة تضرب إلى البياض، فإذا حذفوا الهاء قالوا: بِصْر بكسر الباء” (ابن الفقيه الهمداني (ت. 365هـ 975 ميلادية). مختصر كتاب البلدان. ليدن: مطبعة بريل 1884 ص187). ولا نجد لدى غيره من البلدانيين وسواهم غير هذا المعنى والسبب في تسمية حاضرة من حواضر العراق القديمة.
هناك مَنْ يحاول إعادة اسم البَصْرة إلى أصله الآرامي، وارتباطه شأن العديد من المدن والقرى العراقية بحرف الباء، وهي اختزال مفردة بيث (بيت) الآرامية أو السريانية، ولعلَّ لصاحب كتاب “مباحث عراقية” يعقوب سركيس (ت. 1959)، السبق في هذا المبحث. قال “زادني الاطلاع على كلمة بصرياثا في الذهاب إلى كون الكلمة بَصْرة آرامية، فسألت أحد عارفي اللغة الكلدانية فقال: بَصْر الجزء الضعيف، وبَصْريا، بصريى: الأقنية. وبيث صريى وباصريى وباصرا: محل الأكواخ. فليس من الغريب أن سمع الفاتحون العرب كلمة تقرب من كلمة بَصْرة واستساغوها، ثم أخذ اللغويون وغيرهم في بيان معناها حاسبيها عربية” (يعقوب سركيس، البَصْرة هل أصل الكلمة آرامي، مجلة سومر 1948، المجلد 4 ص136- 141). وبعد حذف الألف من باصريى أو باصرا تصبح الكلمة بَصْرة بكل يُسر.
لكن الأقرب لجغرافية أو بيئة البَصْرة أن باصرا أو باصريى أو بصريا تعني القناة، أو بيث صريا وتعني الشق أو الصدع (روفائيل بابو إسحق، مدارس العراق قبل الإسلام، بيروت: دار الوراق 2006 ص55، عن دليل الراغبين). وفي رأي أقرب إلى وضع البَصْرة أنها تعني بيت الجداول فحسب. وحتى لا يُحسب الأمر تعصبا للأُصول من قِبل سركيس وإسحق فهذا اللغوي إبراهيم السامرائي (ت. 2001) يتردد “قليلا في أن تكون حاضرة البَصْرة قد سميت بدلالة هذه الكلمة العربية، أي الحجارة الرخوة” (ماسينيون، خطط البصرة وبغداد، ترجمة إبراهيم السامرائي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1981 ملحق السامرائي: أشتات بصرية، ص70). ويبدو السامرائي تعالى على بحث سركيس ولم يذكره مع أنه صدح بالرأي، عندما نجده يقول “من المفيد أن أُشير إلى أن الكثير من الحواضر العراقية قد احتفظت بأسمائها الآرامية مثل: بعقوبا، وديالى، وبقسايا، وعكبرا، وباصيدا، وبعشيقا، وبرطلا، وكُوثا، وباجرمي، وباجسرا.. ولعل البَصْرة من هذه الأُصول الآرامية” (المصدر نفسه، ص72).
ما يتصل بالاسم بدلالة الماء، وليس هناك أكثر من ماء البَصْرة، المالح والعذب، يُذكر قول لصاحب كتاب “تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء” حمزة بن الحسن الأصبهاني (توفى قبل 360هـ 970 ميلادية) قال “سمعت مُوبذ بن أسوهشت يقول: البَصْرة تعريب بسَ راه، لأنها كانت ذات طُرق كثيرة، وانشعبت منها إلى أماكن مختلفة” (ياقوت الحموي، ت. 626هـ، معجم البلدان، بيروت: دار صادر 1995 ج1 ص431). وبدلالة الماء، وكونها بيت الجداول شاهد ابن حوقل النصيبي (ت. نحو 367هـ 975 ميلادية) فيها “مياه الأنهار مفترشة… فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في جميعها السُمَيْريات، ولكل نهر اسم ينسب به صاحبه” (ابن حوقل، أبوالقاسم النصيبي، صورة الأرض. بيروت: دار مكتبة الحياة، ص212).
هذا، والسميريات ضرب من ضروب السفن ببغداد والبصرة “ولا يمكن التأكد من صحة قول الجواليقي في المسالك والممالك… بأن السفينة سُميت باسم بَنائها سُمَيْر من البَصْرة، والنسبة ترجع إليه، وهو حتما من أقوال مؤلفي المعاجم التي لا يمكن الاعتماد عليها”. (هانس كندرمان، مصطلح السفينة عند العرب، ترجمة نجم عبدالله مصطفى، أبوظبي: المجمع الثقافي 2002 ص132- 133). لهذا اعتبار في شأن أسامي المدن والأنهار العراقية، “حيث جرت العادة أن تُنسب إلى شخص، مع أن وجود السُفن قبل الفتح الإسلامي بآلاف السنين! وهكذا تحول معنى بابل من لغتها الأصلية الأكدية، من لفظ باب أيلو، أي باب الله إلى بلبلة الألسن!”. (بابل في معجم الكتاب المقدس، القاهرة: دار الثقافة 1994 ص152) قارن بما أورده الحموي وبقية البلدانيين والمؤرخين “انقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل، وكان اللسان يومئذ بابليا” (الحموي، معجم البلدان ج1 ص310).
مداها العراقي
لا يصعب على أي مقاطعة أو مدينة، أو حتى واحة في عرض الصحراء على إقامة كيان دولة أو إمارة، فكيف إذا كانت البَصْرة ذات نهايات المياه المالحة، حيْق امتداد الأفق صوب الهند، ونهايات المياه العذبة حيث الاتصال بجهة الغرب والشمال عبر ممرين مائيين عظيمين: دجلة والفرات. لكن، حقيقة الأمر لم تنزع البَصْرة إلى الاستقلال في كيانها السياسي عن الإمبراطوريات التي خضع لها العراق حتى نهاية الدولة العثمانية. والأمر لا يخلو بطبيعة الحال من نشوء إمارات عليها، مرتبطة مرة بالإدارة العثمانية وأخرى بالإدارة الإيرانية.
هذا، ولا يُعلم شيء عن البَصْرة قبل الفتح الإسلامي، لكن من التواريخ التي كُتبت باللغات الحية آنذاك ببلاد ما بين النهرين، مثل السريانية، وأشارت إلى فرات ميشان، حيث البَصرة الحالية، من مقاطعات الكنيسة الشرقية، أي أبرشية البَصْرة، امتدت حتى بيث قطراي في الخليج والهند، في القرن الرابع الميلادي، أي قبل الفتح الإسلامي بقرنين من الزمن وقد ورد في الفتوح عن فتح مدينة الفرات قريبا من الأبلة، وكل تلك الديار مرتبطة بعاصمة الإمبراطورية الفارسية الشتوية طيسفون أو المدائن (ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية، الموصل: المطبعة العصرية 1973، الجزء الأول، ص57. وروفائي بابو إسحق، مدارس العراق قبل الإسلام، ص55).
ونستطيع تحديد امتداد البَصْرة العراقي السياسي أثناء العهد الأموي (40-132هـ/ 660- 749 ميلادية)، حيث جُمع العراق تحت يد أمير واحد، بداية من زياد بن أبيه (ت. 53هـ 672 ميلادية)، ثم الحجاج بن يوسف الثقفي (ت. 95هـ 713 ميلادية)، وهما أشهر أميرين عانا من قسوتهما العراق، وعدد كبير من الأمراء. أما في قرون العهد العباسي الخمسة (132- 656هـ/ 749- 1258 ميلادية) فكانت البَصْرة إمارة من إمارات الدولة تابعة لبغداد أو سامراء. وخضعت في العهد المغولي لمركز العراق بغداد، مثلها مثل الموصل وأربيل.
أما في الدولة العثمانية، فنجد حكومتها تتراوح بين ولاية متصلة مباشرة بالأستانة، وهذا لفترة محدودة، وبين فترة متصلة بولاية بغداد، على أن بغداد كانت تحل كثيرا محل تسمية العراق، وهي تمتد من عبادان وحتى شهرزور أو كوردستان حاليا. وما يؤكد خطأ مَنْ يعتقد أن العراق حديث النشأة والتسمية، وأنه حصيلة جمع ثلاث ولايات من قِبل بريطانيا نأتي بقانون الولايات العثمانية، الذي طُبق بالعراق في العام 1869، وقسم العراق إلى عشرة سناجق (ألوية)، من الشمال إلى الجنوب بما فيها المنطقة الشمالية، والبَصْرة أحدها، وهي: سنجق بغداد، سنجق شهرزور، سنجق السليمانية، سنجق الموصل، سنجق الدليم، سنجق كربلاء، سنجق الديوانية، سنجق البَصْرة، سنجق العِمارة، سنجق المنتفك (جميل موسى النجار، الإدارة العثمانية في ولاية بغداد، القاهرة: مكتبة مدبولي 1991 ص130 عن جريدة الزوراء العدد2، 12 ربيع الأول 1286هـ 1869).
وهنا نأتي بشهادة مطران بغداد الكاثوليكي والفرنسي الجنسية، كتبها عام 1728. قال «بغداد من المدن الشهيرة جدا إذ كانت عاصمة دولة. أما الآن فهي ولاية خاضعة للسلطنة العثمانية. وهي واسعة جدا إذ تشمل مناطق عديدة هي كلدة وما بين النهرين، وقسما من البادية العربية، وتمتد حدودها إلى بلاد فارس وإلى ديار بكر شمالا، وتشمل منطقة مادي شرقا، وهي المعروفة بكردستان» (تقرير المطران باييه عمانوئيل، أسقف بغداد (1742) إلى البابا، مجلة بين النهرين العدد 43 السنة 1983).
هذا ويكفينا أن نأتي بتأكيد واحد على عمق العراق الجغرافي بالبَصْرة. قال المؤرخ والجغرافي أبوالحسن المسعودي (ت. 346هـ 957 ميلادية) «السواد وهو العراق، فقالوا حدّه مما يلي المغرب، وأعلى دجلة من ناحية آثور. وهي الموصل القريتان. القريتان المعروفة إحداهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن. ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي المعروفة بميان روذان من كورة بهمن أردشير وراء البصرة» (المسعودي، التنبيه والإشراف، تحقيق: عبد الله الصاوي، المكتبة التاريخية 1938 ص32-38)، ومعلوم وراء البَصْرة تأتي الأهواز وهي عراقية حتى 1925 حيث احتلتها إيران، بعد أن رشح أميرها خزعل الكعبي (ت. 1936 سجينا بطهران) نفسه ملكا على العراق.
الجغرافيا والتاريخ
تكاد تتشابه كتب البلدانيين القدماء حول البَصْرة، وبقية البلدان، ومنهم مَنْ كتب واصفا عن رؤية مباشرة، ومنهم مَنْ أخذ عن غيره، ونسب ذلك لنفسه، والمجال البلداني شأنه شأن المجالات الأخرى يكثر فيه النسخ، وقلما تجد رأيا أو معلومة مختلفة. وهنا نذكر عن الأقدم من الجغرافيين، ومَنْ وقف على أحوال البَصْرة معاينة، كما ادّعى، لا سمعا. مع علمنا أن هذا الصنف من التأليف لم يبدأ، كعلم مختص ومجال منفرد، إلا في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، من دون إغفال ما ورد في “كتاب البلدان” لعمرو بن بحر الجاحظ (ت. 255هـ 868 ميلادية) وهو بين الأدب والجغرافيا، وإلى الأدب أقرب، وما خص البَصْرة جاء ضمن دفاع عن مدينته حتى قال بتفضيلها على بغداد والكوفة “أما دجلة فإن ماءها يقطع شهوة الرجال، ويذهب بصهيل الخيل… وعامة الكوفة خراب يباب، ومَنْ بات فيها أنعي في قرية من القُرى، ورستاق من الرساتيق بما يسمع من صياح بنات أوى” (مجلة كلية الآداب، الجاحظ، كتاب البلدان، نشره مع مقدمة صالح أحمد العلي، بغداد: مطبعة الحكومة 1970 ص496 و501). وإذ يمتدح الجاحظ ماء ونخل البصرة بالقول “وقد تعلمون كثرة عدد أنهار البَصْرة، وغلبة الماء، وتطفح الأنهار، وتبقى النخلة عشرين ومئة سنة وكأنها قدح (ونراه يذم الكوفة) إلى أقصى أنهار الكوفة نخلة طالت شيئا إلا وهي معوجة كالمنجل”. (المصدر نفسه، ص501).
كانت البَصْرة القديمة هي الزبير حاليا، وذلك بدلالة الأضرحة القائمة فيها، للصحابة مثل: طلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام (قُتلا 36هـ 656 ميلادية)، حيث دارت معركة الجمل بين جيش الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ 660 ميلادية) والجيش الآخر بقيادة الثلاثة: أم المؤمنين عائشة (ت. 58هـ 677 ميلادية)، والمذكورين. كذلك هناك ضريح الحسن البصري (ت. 110هـ 728 ميلادية)، ومحمد بن سيرين (ت. 110هـ 728 ميلادية). ومن هناك توسع السكن بالبصرة وانتشر حول دار الإمارة، وتشكلت الأحياء حسب ترتيب القبائل العربية الفاتحة.
والرواية المعروفة أن المسلمين اختطوها، أو مصروها، بعد فتحها مباشرة (السنة 14 أو 16هـ 637 ميلادية)، بعد أن وجدوها عامرة بالماء والنخيل، لكنها لا يأتون بذكر على البناء السابق فيها، والأمر أن البصرة المعنية في كتبهم هي التي مساحتها حوالي الفرسخين طولا وفرسخين عرضا، أي مربعة الشكل، وإذا علمنا أن الفرسخ الواحد يُعادل ثلاثة أميال، فتكون مساحتها حسب القياس الحاضر: 36 ميلا مربعا، وهي مساحة ليست بالقليلة. هذا من غير الأبُلة التي تعاملت معها كتب البلدانيين كمنطقة خارج البَصْرة المعنية.
كثر القول إن البصْرَة لم تكن موجودة قبل الفتح العربي، لكن من البداهة أن الفتح لا يجري للصحارى والبوادي أو الديار المهجورات، بل لا بد هناك من مدن وقصبات ينتفع الفاتح بخيرها، وإلا كيف وصل القائد عتبة بن غزوان (ت. 17هـ 638 ميلادية) حتى أطراف البَصْرة، حيث الأهوار. قال غُنيم “كنا مع عتبة بن غزوان غلما انتهى البرُّ وراء منابت القصب قال: ليست هذه من منازل العرب” (ابن الخياط خليفة العصفري، ت. 240هـ، تاريخ خليفة بن الخياط، تحقيق: مصطفى فواز، بيروت: دار الكتب العلمية 1ج ص115). وإن زوجته أزدة بنت الحارث استفزت جيش زوجها، وهو يُقاتل على مدينة الفرات بالقول “إن يهزموكم يُولجوا فينا الغلف”! (الحموي، معجم البلدان، ص432). فلعلهم كانوا على دين المندائيين، فمن أسس ديانتهم عدم الختان! وما لا يذكره التاريخ أن العرب عندما فتحوا البَصْرة لم يكونوا يعرفون نبات الأرز (التمن)، ولما هرب حراس بأجمة البَصْرة تركوا زنبيلين فيهما تمر وأرز، فأكل المقاتلون العرب التمر وتركوا الأرز على أنه سم تركه لهم الأعداء، ولم يأكلوه حتى أكله الحصان قبلهم، وبات ليلته معافى، فأقبلوا عليه وطبخوه (راجع القصة مفصلة لدى ابن الفقيه، مختصر البلدان، ص187- 188. الحموي، معجم البلدان 1ج ص431). لهذا وصفها أحد القادمين من يثرب “خير بلاد للجائع والغريب، فأما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحيناء، ولا ينفق في الشهر إلا درهمين” (ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان البلدان، ص 190).
قال ابن حوقل، وهو تاجر من أهل الموصل قادته التجارة إلى كشف البلدان وتسجيل خواطره حولها، في عدد أنهارها وخصوبة تُربتها “زادت على مئة وألف نهر وعشرين ألف نهر، تجري في أكثرها الزواريق، وكنت أنكرت ما ذكره من هذا العدد في أيام بلال (ابن ردة القاضي) حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع… فجوَّزت أن يكون ذلك كذلك في طول هذه المسافة وعرضها ولن أستكثره” (ابن حوقل، صورة الأرض، ص212). وقال في بساتينها، وكذلك ورد لدى البلدانيين الآخرين “وهي من بين سائر العراق مدينة عُشرية، ولها نخيل متصلة من عبداسي إلى عبدان نيف وخمسين فرسخا متصلة، لا يكون الإنسان منها بمكان إلى وهي في نهر ونخيل، أو يكون بحيث يراهما” (المصدر نفسه). ولنترك النيف ونعد الخمسين فرسخ فندها تعادل (150) ميلا ممتدة بساتين عامرة على شواطئ ما عُرف في ما بعد بشط العرب وبقية الأنهار المتفرعة منه.
إلا أنه بعد مئتي سنة من مشاهدة ابن حوقل للبصرة يحشي ناسخ كتابه “صورة الأرض” (السنة 537هـ 1143 ميلادية) ووجدها على غير ما تركها صاحب الكتاب، ويقصد خراب عمارتها بعد ما مرَّ عليها من الإهمال وحرب ثورة الزنج (255-270هـ/868 – 883 ميلادية)، وثورات القرامطة، وما خلفته الطواعين من خراب فيها. قال “دخلتها سنة سبع وخمسمئة، وقد خُربت ولم يبق من آثارها إلا الأقل، طمست محالها، فلم يبق منها إلا محال معلومة، وكالنحاسين وقساميل وهُذيل والمربد وقبر طلحة، وقد بقي في نحله بيوت معدودة، وباقي بيوتها إما خراب وإما غير مسكونة، وجامعها باقٍ في وسط خراب كأنه سفينة وسط بحر لجيٍّ” (المصدر نفسه، ص213).
أما المغول (656هـ 1258ميلادية) فلم تجتاحها جيوشهم، وبذلك لم يتركوا خرابا فيها، مثلما حصل لبغداد، فبعد حصار الأخيرة واجتياحها في شهر صفر من التاريخ المذكور دخلت الكوفة والحلة بالصلح “استقبل أهل الحلة الجند وأقاموا جسرا على الفرات، وأقاموا الأفراح ابتهاجا بقدومهم” (الهمداني رشيدالدين فضل الله، قُتل 718، جامع التواريخ- تاريخ المغول، تحقيق: محمد صادق نشأت وآخرين، مصر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي ص296). إلا أنه بعد معاندة واسط واجتياحها من قبل جيش المغول “وشرع في القتل والنهب، فقُتل ما يُقارب أربعين ألف شخص”، دخلت البَصْرة في الطاعة من دون حرب (المصدر نفسه). بل إن الهاربين من واسط، من “الولاة والنقباء وأكابر الناس قد انحدروا بأهلهم وأموالهم إلى البَصْرة والبطائح (الأهوار) فسلموا” (ابن الفَوطي عبدالرزاق البغدادي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة، تحقيق: مصطفى جواد، بغداد: المكتبة العربية 1351هـ ص331. ملاحظة الكتاب ليس لابن القوطي إنما مازال مؤلفه مجهولا إلا أنه ينتمي إلى ذلك العصر).
زائر من المغرب
وبعد مئتي عام أخرى، من مشاهدة ناسخ كتاب “صورة الأرض” ينزل بها ابن بطوطة (ت. 779هـ) يجد فيها بناء متجددا، ومسجدها عامرا، وهو مسجد الإمام علي بن أبي طالب، وإذا لم يتحدث السابقون عن الطوائف الدينية فترى ابن بطوطة يذكر سكانها أنهم من أهل السُنَّة، وذلك لأن في زمن ابن حوقل لم يكن الناس قد انفلقوا بتلك الشدة الطائفية. قال ابن بطوطة، وقد قَدم إليها من جهة الناصرية اليوم، بعد زيارة السيد الرفاعي في تلك الأطراف “نزلنا بها… وكانت البَصْرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها، وبينه وبينها الآن ميلان… إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة والأرجاء المونقة الأفناء ذات البساتين الكثيرة، والفواكه الأثيرة” (ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، بيروت: دار صادر 1998 ص185-186).
وكانت هدية قاضي البَصْرة لابن بطوطة قَوْصَّرة تمر حملها له حمال بالسوق فباعها وسلم الحمال أجرته. ويبدو أنه لم تكن البّصْرة شديدة التدين، آنذاك، فبعد أن يمدح الرحالة أهل البَصْرة وكرمهم وأناسهم للغريب يقول “هم يصلون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي (رض) الذي ذكرته ثم يُسد فلا يأتونه إلا الجمعة” (المصدر نفسه، ص186). ووجد ابن بطوطة بمسجد البَصْرة “المصحف الكريم الذي كان عثمان (رض) يقرأ فيه لما قُتل، وأثر تغييره الدم في الورقة” (المصدر نفسه).
إذا كان هذا صحيحا، فقد حُمل المصحف إلى البَصْرة إما مع طلحة والزبير، حيث معركة الجمل، وإما نقله الأمويون ليشدوا به أزر أهل البَصرة ضد علي بن أبي طالب! والله أعلم. ومسافة بساتين النخيل نجدها تقل كثيرا، ولعلَّ هناك مبالغة من ابن حوقل أو خطأ في تقدير من ابن بطوطة، وبينهما زمن يُقدر بأربعة قرون. قال “ركبت من ساحل البَصْرة في صُنبوق، وهو القارب الصغير، إلى الأبُلة وبينها وبين البَصْرة عشرة أميال، بساتين متصلة ونخيل مظلة عن اليمين واليسار، والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه”. (المصدر نفسه، ص189). وشاهد ابن بطوطة الأبُلة في زمنه (728هـ) “قرية بها آثار قصور وغيرها دالة على عظمتها” (المصدر نفسه).
في العهد العثماني
كانت الحروب الطاحنة بين أسرة آل أفراسياب (1596- 1668) بالبَصْرة، وعلى ولايتها أثيرا كبيرا في خرابها، وكلما عُمّرت، كانت الطواعين تتوالى عليها بين سنة وأخرى، بما يأتيها من الشرق ومن الجنوب عبر البحر من أمراض قواتل، إضافة إلى بيئتها الحارة والرطبة. إلا أن ماءها وتربتها الخصبة عاندت خرابها وأبتت تجددها كلما غزاها غازٍ أو ابتلاها طاعون. فنجد شاهد عيان وصلها بعد ابن بطوطة بقرون عديدة وجدها مثلما وصفها ابن حوقل النصيبي، في القرن العاشر الميلادي.
بعد ابن بطوطة بحوالى خمسة قرون، أمها إبراهيم صبغة الله الحيدري (ت. 1882)، وهو من عائلة فقهاء الشافعيين، وجده كان مفتيا لبغداد، وصنف كتابه في العام 1869. وكتب قائلا “لما وردتها ورأيت ما فيها من عجائب الأنهار، وغرائب النخيل الأشجار، الممتنعة العدِّ والحصرِ، مع ما فيها من المدِّ والجزر في اليوم مرتين، بحيث تمالئ الأنهار والسواقي، وكل عين، وقد آلت إلى الخراب، فلم يبق منها إلا الاسم، واندرس أثرها، فلم يبق منها إلا الرسم والوسم، وأحببت أن أؤلف كتابا في أنهارها ونخيلها وأشجارها وبيان بيوتها القديمة” (إبراهيم صبغة الله الحيدري، عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبَصْرة ونجد. لندن: دار الحكمة 1998 ، ص5. الكتاب مستنسخ طبعة الكتاب الأولى، دار منشورات البصري 1962).
تجد تناقضا في ما كتبه الحيدري عن البَصْرة، فمن جهة وجدها عامرة بالأنهار والزراعة الممتدة، حسب وصفه “من القرنة إلى رأس البحر، المسمى بالفاو، ويبلغ مقدارها ثلاثين ساعة بسير الفارس″ (المصدر نفسه، ص163). إلا أن الخراب كان في المدينة أما الريف فظل عامرا، برواية الجغرافيين والرحالة، من القرن العاشر وحتى القرن التاسع عشر الميلاديين. ويغلب على الظن أن مَنْ يهيمن على المدينة يهمه ما يُجبيه من البساتين والأطيان، وما يأتي من جهة البحر من تجارة وضرائب ومكوس وصيد. فليس من مصلحة غازٍ أن يُخرب الريف المحيط بها، لكن لا شأن له بالبناء داخل المدينة، وربما اكتفى بالمسجد ودار الإمارة.
أما الحيدري فيعزو الخراب الذي شهده بالبَصْرة المدينة إلى “تسلط الأجانب عليها وعلى أهلها، وفي عدم وجود أهل العلم فيها، وانهدام جوامعها ومدارسها… وقد زاد خرابها متصرفها سليمان بك، فإنه ظلم أهلها” (المصدر نفسه). كذلك تراه عزا تحول عشائر وأُسر من أهل البَصْرة، من المذهب السُنَّي إلى المذهب الشيعي للسبب نفسه، وهو قلة أو انعدام علماء الدين (المصدر نفسه، ص161). أما أساس الحضارة والخروج من الخراب وهو الماء فقد حافظ الجغرافيون والمؤرخون على ذكره بمستوى واحد، من الجاحظ في كتاب “البلدان” مثلما تقدم، وحتى الحيدري من القرن التاسع عشر. فقد ذكر الأخير أسماء مئات الأنهار “يجري فيها الماء من شط العرب”، ومن كبارها: نهر العشار، ونهر المناوي، ونهر اليهودي، ونهر فجة العرب، ونهر الراضعية الكبيرة، ونهر الراضعية الصغيرة، ونهر المحاويل، وغيرها، وكل نهر يتفرع إلى عدة أفرع، منها التسعة ومنها الأقل.
زار البصرة عدة رحالة أجانب في القرون السادس عشر، والسابع عشر والتاسع عشر، ووجدوا فيها التجارة عامرة عبر مضيق هرمز، وكثرة الحمامات فيها، تلك التي ذكرها الجغرافيون العرب، واستحم فيها أمراؤها الأولون وقادة الجيوش، وشاهدوا الشرفات في بنيانها، الشناشيل، والمقاهي والأسواق والمطاعم، مع طرق قذرة ومتعرجة. ويعزون خرابها إلى “الحكم التركي الفاسد”، وشهد بعضهم معارك أميرها مغامس السعدون مع الأتراك (راجع: رحالة أوربيون إلى العراق، بيروت: شركة دار الوراق 2007).
ولأنهم من الدارسين وربما من الباحثين الاجتماعيين، أتى الرحالون الغربيون على ذكر طبيعتها الاجتماعية، أو تركيبتها الاجتماعية، فأحدهم حدد العام 1630 سكان المدينة بأنهم خليط من العرب والأتراك العسكريين، وفرس يعملون في التجارة، لذا تجد اللغتين التركية والفارسية منتشرة فيها، ومسيحيين: نساطرة ويعاقبة. وصابئة مندائيين. قال “نصارى القديس يوحنا المعمدان… وهم ليسوا بنصارى، إذ يسمون أنفسهم مندائيين، ويعرفهم الآخرون باسم الصابئة” (المصدر نفسه، ص62. رحلة الأب فيليب الكرملي 1630).
لعل الصابئة بسبب وجود البرتغاليين، وغزو المدينة المستمر من قبل عدة أقوام جعل المندائيين يلوذون بتلك التسمية، لكنهم مع أنفسهم يتسمون بحقيقتهم مندائيين، مع علاقتهم المعروفة بيوحنا المعمدان، أو حسب اسمه عندهم يهيا يهانا، واللفظ العربي مأخوذ من لفظتهم الآرامية فهو عربي: يحيى. ومما يُذكر أن المندائيين وهم من أضعف الأقوام وأقلهم عددا لاذوا باسم نصارى يوحنا المعمدان في بواكير السيطرة البريطانية على العراق. أما الطبقات التي تعيش حول المدينة فهي: عرب الصحراء من البدو، والزراع، وقطاع الطرق والمتشردون، وهم أقل الطبقات عددا. ويتصف القاطنون على ضفاف الشواطئ، بشكل عام، بالقسوة وانتهاز الفرصة لسرقة الغرباء، بينما يغلب على سكان المدينة الاعتداد والاعتقاد بالخرافات والتظاهر بالتقوى. لكن هذا الرأي ليس قياسا، فلعلَّ رحالة آخر أكرمه هؤلاء فستجده يصفهم برأي آخر. لكن دبلوماسي روسي كان قنصلا بالبصرة حتى نهاية القرن التاسع عشر وما بعدها أكد منزلة المسيحيين لدى الولاة العثمانيين هناك وهو يتحدث عن إدارة شؤون المالية أو منصب الدفتردار «كان يفترض أن لا يشغل هذا المنصب إلا المسيحيون» (ألكسندر آداموف، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها، ترجمة: هاشم صالح التكريتي، البصرة: جامعة البصرة، مركز دراسات الخليج العربي 1982 ص76).
اختلاط ديني وفكري
نجد هذا الاختلاط أقدم من هذا بكثير، سجله الرحالة أبوسعيد الأندلسي (ت. 685هـ)، عندما زار البَصْرة أيام آخر خلفاء بني العباس عبدالله المعتصم (656هـ)، برفقة قاضي القضاة بالعراق، في غضون (العام 648هـ 1250 ميلادية)، أي قُبيل الغزو المغولي. قال في التهيؤ للسفر من عاصمة البلاد، وفي ما شاهد من ملل ونحل وحيوية نهر الأبُلة بالبَصْرة «حللنا بين نهر الأبلة، ونهر المعقل، وضرب الصاحب هناك خيمة، وفيها ماء يرتفع، ويدور كالأهلة برسم الجلوس للناس، وجاءه الوافدون من المسلمين والنصارى والمجوس والصابئة» (ابن سعيد الأندلسي، ت. 685هـ، المقتطف من أزاهر الطرف، تحقيق: سيد حنفي حسنين، مصر: الهيئة العامة المصرية 1983 ص155)، حرك المشهد الأندلسي فأنشد:
مـا بـين نهـر الأبـلة
ونهـر معقـل حلـةْ
قـد حلـها كلُّ جودٍ
وأمّـها كــلُّ ملّـةْ
ليس أكثر من البَصْرة علما ولغة، ويكفيها أنها دار الجماعتين في علم الكلام والفكر والفسلفة: المعتزلة (بدايتهم القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي)، وإخوان الصفا وخلان الوفا (القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي). الأولى كان وراء وجود فلسفة إسلامية، وتثبيت الفكر عبر المناظرات، وأنتجت عقولا جبارة في شتى نواحي المعرفة. ولا نغالي إذا قلنا إنها ناقشت، بل توصلت إلى مفهوم، ما يُعادل الجاذبية، قبل إسحق نيوتن بحوالي ثمانية قرون، واستخدمت ثمرة التفاحة بالذات، لكنها شاعت بتفاحة نيوتن، وخبت تفاحة المعتزلة. وأتت بمثل أو مجرد إشارة نقلها أحد مؤرخي المعتزلة الأوائل عن شيخ المعتزلة البغداديين أبي القاسم الكعبي أو البلخي (ت. 321هـ) قوله في «عيون المسائل»، الذي لم يصل إلينا «لو أن رجلا قبض على تفاحة في الهواء بإصبعه، ثم باعد إصبعه عنها تهوى إلى الأرض». (أبورشيد النيسابوري المعتزلي، القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. مسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين. تحقيق: معن زيادة ورضوان السيد، بيروت: معهد الإنماء العربي 1979 ص207. ورد في كتابنا لا إسلام بلا مذاهب وطروس أُخر من تراث الإسلام فصلا تحت عنوان: تفاحة المعتزلة).
أما إخوان الصفا، الذين كشف عن وجودهم أبوحيان التوحيدي (ت. 414هـ 1023 ميلادية) في كتابه المقابسات، وقد ظُن أنهم يتصل بهم، فجاءت رسائلهم، وهم الجماعة البَصْرية، متجاوزة عصر البَصْرة، وعصر المنطقة ككل، في الليبرالية الفكرية، والتحرر من المفاهيم الدينية المتشددة. فإذا كان أهل القرن الحادي والعشرين، والألفية الثالثة، يعيشون بفاقة فكرية وحضارية مريعة، فإن إخوان الصفا توصلوا في القرن العاشر الميلادي إلى الرأي الآتي “وبالجملة ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب. لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعا، وذلك هو النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها”. (الرسائل، الهند – بمباي: مطبعة الأخبار 1305- 1306هـ رسالة عِشرة إخوان الصفا ج4 ص124، أربعة أجزاء).
تجد في رسائل إخوان الصفا جمهرة من الأفكار، لو قارنتها بحاضر البَصْرة، لأخذك العجب العجاب، تجد فيها: كيفية معالجتهم قضية عاشوراء وأن لا تتحول الأحوال إلى أحاسيس للانتقام، وقضية الإرث أنهم قالوا ولم يفصحوا لكن على أهل العصور المتأخرة أن يكشفوا ما أراد به إخوان الصفا في هذا الأمر، وتحدثوا عن الدولة وكيف لها بداية ونهاية، قوة وانحطاط. وأفكار وآراء متقدمة أخرى يضيق المقال بتفصيلها. عموما نجد لدى ابن المعتز (قتل 296هـ 908 ميلادية) ما يُلخص به شأن البَصْرة العلمي والأدبي، ذلك الذي فاجأ ابن بطوطة عندما سمع لحن خطيب مسجد البَصْرة وهي أم اللغة. قال الأمير العباسي عبدالله بن المعتز في دفاعه عن الشاعر أبي نواس (ت. نحو 198هـ) “وقد تأدب بالبصْرة وهي يومذاك أكثر بلاد الله علما وفقها وأدبا”. (ابن المعتز، طبقات الشعراء، تحقيق: عبدالستار أحمد فراج، مصر: دار المعارف 1956 ص20).
خراب البصرة
ختاما نأتي على الصفة التي رافقت وجود البَصْرة منذ تمصيرها، وربما قبل ذلك، وهي الخراب، حتى ذهب مثلا “بعد خراب البَصْرة”! وقد لاحظ المستشرق الفرنسي ماسينيون (ت. 1962) الآتي “وتبدو البَصْرة من المدن العربية كأنها والإشارة الرمزية التي تنذر بدمار هذه المدن. ومنذ أن كان اسم خُريبة (قرية من قرى البَصْرة نزلها الفاتحون أول الأمر)، ومنذ أن أُرسل المثل: بعد خراب البَصْرة، ومنذ أن أُطلق عليها علي بن أبي طالب اللعنة المسجوعة من فوق المنابر”. (ماسينيون، خطط البَصْرة وبغداد، ص 35).
كم مرَّ على البّصْرة أو بيث صري، مثلما كان اسمها الآرامي، من خراب ودمار، حتى استحق المثل عليها “بعد خراب البَصْرة”، إلا أن محيطها الزراعي ظل سليما معافى، إلا بعد حرب الثمانينات والتسعينات وما جاء بعد 2003، وآخرها مطاردة المنادين بجعل البصرة بمستوى ثروتها، واغتيالهم من قِبل الميليشيات التي تهيمن على مقدراتها، فما بين بَصرة الجاحظ وأبي نواس، والعام الذي نحن فيه، وقد هيمن عليها الماء الآسن، أخذت رؤوس النخيل مع تساقط رؤوس شبابها المتظاهرين (2018)، حتى أضحى المثل «يُهدى لوالي البَصْرَةِ التَّمْرُ» حقيقة!