بيروت "السورية"

الثلاثاء 2020/09/01

كثيراً ما يطلق على بيروت توصيفات ثقافية وحتى سياسية مثل “بيروت العثمانية” و”بيروت الفرنسية” و”بيروت العربية” و”بيروت البيروتية” و”بيروت الفينيقية” على اعتبار أنها تراكم ثقافات وحضارات، واكتسبت من كل حضارة شيئاً أو وجهاً، سواء في الحكاية أم العمران أم الثقافة.

وتراودني فكرة أن أطلق عليها توصيف “بيروت السورية”، وليس القصد بالسورية، هيمنة الجيش السوري الأسدي على لبنان وعاصمته على مدى ثلاثة عقود، واغتيال بعض صحافييه أو خطفهم أو منعهم، من ميشال أبوجودة إلى سليم اللوزي، بل هدفنا الكلام عن حضور الشعراء والكتاب والمثقفين السوريين في العاصمة اللبنانية ومقاهيها، ومشاركتهم في أنشطتها ومواعيدها ودور نشرها ومناخها وفضائها، خصوصاً في الخمسينات والستينات، يوم كان “لبنان الملجأ” الذي لجأ إليه هؤلاء الشعراء والكتاب والكثير من المضطهدين السوريين الهاربين من الانقلابات العسكرية والأجهزة الأمنية والملاحقة بسبب الانتماء السياسي أو التفكير المخالف لتفكير السلطة البعث وغيره.

بيروت التي قتل فيها مدة نحو أربعين مواطناً سوريا في انفجار المرفأ، لا يمكن التعاطي معها من منطلق التشفي والشماتة والكيدية، وإن كان بعض “الساسة” يمارسون الحقد على المواطنين السوريين، فما أصاب بيروت أصاب السوريين قبل اللبنانيين. بيروت السورية هي بيروت ياسين الحافظ الذي أفرد مساحة من اهتمامه للمعضلات الشائكة التي يمكن أن تترتب عن اختلال التوازنات الطائفية والمذهبية اللبنانية، ومسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما يستدعي تغليب لغة الحوار على لغة الحسم الحربية. فقد وصف الحرب الأهلية اللبنانية بـ”الحرب الطائفية القذرة”، معارضاً بذلك اتجاهات بعض “التقدميين” السوريين واللبنانيين والعرب، واعتبر إيقاف الحرب على قاعدة الحفاظ على وحدة الدولة اللبنانية واستقلالها من المهمات الأولى لكل ديموقراطي علماني وقومي عربي.

وأدرك الحافظ حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبّر عن شعوره أمام فاجعة الحرب الأهلية بقوله “أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن فاجعة لبنان كانت مجانية، كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيّل إليّ أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة وملوثة، كانت لا تزال مفتوحة فيه، هذه النافذة، التي تفد منها رياح الثقافة الحديثة، والتي جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت مُستهدفة بلا شك”.

كان موقف ياسين الحافظ، الآتي من دير  الزور، متقدماً على الكثير من المثقفين اللبنانيين الذين نظّروا للحرب واعتبروها ثورية مثل مهدي عامل وغيره، أو الكثير من الكتاب السوريين الذي غضوا النظر عن تدخل الجيش السوري في لبنان باسم العروبة والأمة. وبيروت هي نفسها كانت “واحة حرية”، ففي صبيحة الـ8 من آذار 1963، هرب إلى بيروت جملة من السياسيين والصحافيين والمفكرين السوريين، بينهم خالد العظم وأكرم الحوراني وهاني السباعي. وإليها أيضا لجأ المثقف السوري جورج طرابيشي، ورئس تحرير “دراسات عربية” التي لعبت دورا هائلا في تشكيل وعي جيل بأكمله من السوريين. وفيها عاش صادق جلال العظم وعلّم في جامعاتها ونشر كتابه “نقد الفكر الديني”، وفيها تعرّض للمحاكمة وتمّت تبرئته وفصل من الجامعة بعد تحريض شارل مالك. ويمكن اعتبار “بيروت السورية” جزءاً من بيروت الليبرالية المتعددة والكوزمبوليتية، أو بيروت الطبيعية التي تستقبل الجميع سواء من التيارات الغربية أو الجماعات اللبنانية والعربية، وتتسع لثقافات الجميع من دون استثناء، وكانت مقاهيها في يوم من الأيام تزعج جمال عبدالناصر، وأقلامها تقلق حافظ الأسد، وبعض أصواتها مثل عبد الله القصيمي تربك الخليج.

وأهمية بيروت السورية أنه لما عاشت بلاد الشام تقلبات في السياسة، غلب عليها الطابع الاستبدادي، تحولت بيروت التي فيها شيء من الحرية، فعندها كانت الثقافة، ومن ضمنها الشعر والأدب، تتقهقر فلا يجد الكثير أمامهم من حل سوى مغادرة سوريا، بصورة نهائية أو شبه نهائية، إلى الخارج. ومن بين السوريين الذين عاشوا في بيروت واحبوها، الشعراء عمر أبو ريشة ونزار قباني وأدونيس محمد الماغوط ونذير العظمة ويوسف الخال وسنية صالح وفؤاد رفقة وبدوي الجبل ونوري الجراح وسعدالله ونوس ورياض الريس وفؤاد م فؤاد وحسان عباس وغادة السمان وياسين رفاعية.

بيروت

في بيروت أسس الشاعر اللبناني يوسف الخال مجلة “شعر” الفصلية (مع مجموعة من الشعراء والكتاب اللبنانيين والعرب) التي كرسها لنقد الشعر والأدب والترجمة، وصدر أول أعدادها شتاء 1957، وقبل ذلك بعامين كان الخال قد عاد من الولايات المتحدة متأثراً بالشعر الأميركي الذي كان مسحوراً به، وحمل معه فكرة تأسيس مجلة للشعر الجديد سماها على اسم مجلة شعر الأميركية. وبدأ تيار مجلة شعر الذي تجاوز شعر التفعيلة العربي لرؤية حداثية جديدة. تماهى يوسف الخال مع الغرب ولبنان الى درجة أنه أصبح، هو والشاعر فؤاد رفقة يحضران ندوات وجلسات مع بشير الجميل، الرئيس اللبناني الكتائبي اليميني الذي كان يرفع شعارات ضد “الغرباء”، هل كان ذلك لأسباب طائفية في زمن الحرب الأهلية؟ واستقطبت مجلة يوسف الخال عددا من الشعراء السوريين الهاربين من دمشق بعد ملاحقة السلطات للحزب السوري القومي الاجتماعي ومنهم أدونيس ومحمد الماغوط، وكانت المجلة مركز حركتهم ونشاطهم وصعودهم.

 في بيروت، كتب أدونيس أهمّ مؤلفاته. لكن علاقته ببيروت بقيت في دائرة الالتباس، بين هجاء المدينة ومحاولة إسقاط نظرة خيالية شعرية عليها، ألقى ذات مرة محاضرة بعنوان “بيروت اليوم أهي مدينة حقا أم أنها مجرد اسم تاريخي؟”. وصف الشاعر بيروت بأنها مشهد لا مدينة وأن هندستها العمرانية تقتصر على الحد الأدنى من الإبداع وأنه لا حاضر لها غير التقليد ومحاكاة الغرب. وقد أثار ما كتبه أدونيس سلسلة من المقالات تراوحت بين النقاش والتفكيك والرد القاسي إلى درجة الشوفينية، وبعد السجال كتب “لا أحد يعلمني حب بيروت” قائلا “ما يمكن استنتاجه وهذا هو الفاجع أن حرية الرأي والنقد ليست مهددة من قبل السلطة بقدر ما هي مهددة من المواقع التي يفترض فيها الكفاح من أجل حرية الاختلاف والنقد”، وقدم أدونيس عملاً ضخمًا حمل عنوان “بيروت ثديًا للضوء” (2018) جمع فيه كتابات وحوارات عديدة كتبت وعقدت على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فكانت بيروت حاضرة فيها أمكنة وأنشطة وشخصيات، ويعتبر أن فهم للحداثة اقترنت به بيروت دون غيرها، وهي صارت مكانا للسؤال.

علاقة محمد الماغوط ببيروت فيها شيء من الدراما وشيء من الفجائعية، شيء من سيرة المظلومين السوريين، فهو دخل إلى لبنان هرباً وسيراً على الأقدام. “لم يكن معي أجرة سرفيس لأصل إلى مجلة ‘شعر’ في رأس بيروت”. هناك انضمّ إلى جماعة مجلة “شعر” حيث تعرّف إلى يوسف الخال الذي احتضنه بعد أن قدّمه أدونيس.  كان الماغوط يردّد “بين الحمراء وجاندارك مشينا آلاف الاميال”. وفي بيروت تعرّف إلى الشاعرة سنية صالح (شقيقة خالدة سعيد) وغدت زوجته. وكتب غير مرة “بيروت موجودة في داخلي، بيروت احتضنتني أكثر من أمّي. أخذت بيدي عندما كنت شريداً ومفلساً. أحنّ إلى بيروت الخمسينات إلى مقاهيها، إلى شارع الحمرا حيث تعرّفت إلى يوسف الخال وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وفيروز وعاصي ومنصور رحباني. بيروت مثل أم منهكة في الغسيل وإذا بان فخذاها قالوا عنها عاهرة”. نشر الماغوط مجموعته الشعرية الأولى “حزن في ضوء القمر” في بيروت، (عن دار مجلة شعر 1959) فيها قصائد منها “جنازة النسر” التي يقول في بعض سطورها “ضمّني بقوة يا لبنان – أحبك أكثر من التبغ والحدائق – أكثر من جندي عاري القدمين يشعل لفافته بين الأنقاض. إن ملايين السنين الدموية – تقف ذليلة أمام الحانات -كجيوش حزينة تجلس القرفصاء”.

 ثم نشر مجموعته الثانية “غرفة بملايين الجدران” (1960). ولبثت بيروت في أحلامه تتردَّد. يقول “أجد نفسي تائهاً وقد أضعت عنوان منزلي وأتجوّل خائفاً أفتش عنه، وغالباً يكون المكان هو بيروت.. بيروت قارة في داخلي. أدور في الشوارع. شرطة ورجال امنٍ ورجال دين وكلاب يطاردونني، فأستيقظ مذعوراً، متقطّع الأنفاس..”.

وفي بيروت عاش وأبدع الشاعر السوري نزار قبّاني، وبيروت عنده تُدعى “ست الدنيا” في قصيدة له تغنيها ماجدة الرومي، وقد أشاد قباني كثيراً بالدور اللبناني في حياته، وبخاصة بأثر الشعراء اللبنانيين وموضوعات شعره مستقاة من حياته في بيروت، وفي المدينة نفسها اغتيلت زوجته بلقيس ابان تفجير السفارة العراقية.

وفي بيروت عاش الروائي السوري حيدر حيدر وفيها كتب “وليمة لأعشاب البحر”، وغادة السمان التي حملت مجموعتها القصصية عام 1963 هذا العنوان “لا بحر في بيروت” يمنعها ضابط في الاستخبارات من السفر إلى لبنان إن لم تمتّعه بسهرة، فتهرب إلى بيروت، التحقت بالجامعة الأميركية، ونالت الماجستير سنة 1966، عاشت بين 1966 و1969 متنقلة بين لبنان والدول الأوروبية، واختلفت مع عائلتها لإصرارها على استقلاليتها الفردية والمادية. حكمت بالسجن ثلاثة أشهر لأنها، بحسب القانون السوري، غادرت سوريا وهي موظفة من غير إذن. وأبلغت غيابياً بينما كانت في لندن. وباتت واحدة من أبرز الروائيات العربيات.

مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وتدهور الأوضاع الأمنية في العاصمة غادرت بيروت سنة 1976 إلى باريس، وكانت الحرب سببا لمغادرة معظم المثقفين بيروت من نوري الجراح إلى حيدر حيدر وجورج طرابيشي ونزار قباني وأدونيس، وحليم بركات، المقيم في الولايات المتحدة، الذي كتب سيرته “المدينة الملونة” (دار الساقي) وهو جاء إلى بيروت العام 1942 من بلدة الكفرون الحمصية السورية، بعد وفاة الأب وهو في العاشرة، تقدمته أمه، هو، وشقيقته ندى وشقيقه كمال. وعثرت الأم على عمل في فرن، وعلى غرفة للعائلة في قبو في رأس بيروت. أما هو، حليم بركات، فكان يعمل في الصيف صبي مصبغة في شارع المكحول. سردية بركات عن بيروت هي سردية المدينة نفسها كما كتب في سيرية “المدينة الملونة” – 2004.  من القبو الذي آوى الأسرة الفقيرة المهاجرة، في حيّ راس بيروت، تبدأ النوستالجيا. وقد تقنّع الكاتب باسم نادر الكفروني. ومن العقود الطويلة التي تمور بها الرواية، يرجّ السؤال نادر/ حليم “هل دخلت بيروت من بوابة ألف ليلة وليلة، أم دخلت عالم حكايات ألف ليلة وليلة من بوابة بيروت..”.

وأبرز الكتاب السوريين الذي آثروا البقاء في بيروت برغم الحرب، الروائي  ياسين رفاعيَّة، ابن مدينة دمشق الذي ظلَّ يعيشُ في “بيروت”، منذ منتصف ستينات القرن العشرين، إلى أنْ وافته المنيَّة سنة 2016. وفي بيروت، تحديداً، وضع ياسين معظم أعماله الرِّوائيَّة وقصائده الشِّعريَّة؛ في روايته “رأس بيروت” يتناول الحرب اللبنانية ومرحلة الغزو الصهيوني للعاصمة بيروت، عبر بطله عبدالقادر “طفلاً” الذي يدخل إلى المدينة كموزع صحف، يوزع الأخبار والأفكار من تحت الأبواب كل يوم لسكان العمارات، وفجأة يختفي عبدالقادر الذي ورث المهنة عن أبيه، لا بل هناك تواصل في الإمداد من الجد إلى الأب والابن. ويقول الكاتب عن الرواية “في روايتي ‘رأس بيروت’ أخذت أتتبع بشكل شامل مصائر الناس في رأس بيروت، وما الذي حصل لهم. لم يكن في رأس بيروت مقاتلون، ولكن الحرب حوَّلت حياتهم إلى جحيم بسبب انقطاع الماء والكهرباء. كانت أياماً صعبة جداً. ما هو رأس بيروت الذي سيصبح عنواناً لرواية من روايات الحرب الأهلية. إنه مساحة ضيقة تمثِّل الخليط الاجتماعي الذي أراد المتحاربون أن تمتدَّ الحرب إليه..”.

في السنوات القليلة المضية، كانت الفرق الموسيقية والفنية السورية جزءا مهما من نهضة بيروت، قبل أن تغادر بسبب التضييق والضيق.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.