بَيْتُ المطــر

الجمعة 2019/03/01
لوحة: أحمد عنان

هل حدثَ حقًّا كلُّ ذلك؟!

لستُ أدري أيَّ شيء. ذاكرتي مشوّشة.. ثمّة ما يسلبُها قوّتها.. عقلي في كلّ اتجاه، وقلبي ما عاد نبضُه ما كانَه قبل كلّ ذلك. هل قلتُ: “قبل كلّ ذلك”؟! ما هـو هذا الذي دعَوْتُهُ “كلّ ذلك”؟! لستُ أعلم. لا أعلم، كذلك، إنْ كانتْ هذه حيرةً ما، ربّما تيهًا في براري الأسئلة المتوحشة، ربّما حالة لبْسٍ عابرة، ربّما ليس كلّ ذلك. مجدّدًا أقول:”كلّ ذلك”.

الغرفة باردةٌ حدّ التجمّد أو هكذا أحسّ. جسدي هزيلٌ وملابسي القطنية الخفيفة لا تقاوم هذا الجو. أفكّرُ في احتساء كوب من الشاي الأحمر. لا أرى الدلّة في مكانها هناك حيث الزاوية اليسرى من الغرفة. لا شيءَ على الطاولة. لا شيءَ تمامًا وهذا أمرٌ غريب. أتذكّرُ أنني احتسيتُ كوبًا من الشاي. ثمّة علبة بسكويت. لكنها لم تعد موجودة. ربّما رأيتُ برتقالةً بجوارها أو هكذا تخيّلتُ. لا شيء الآن مثلما لا شيءَ يمكنني تذكّره بدقّة. أعطسُ لمرّاتٍ ثلاث بشكل مندفعٍ ومتواصل. يحمرُّ وجهي. يتقلّصُ جسدي ويمتدُّ في ألمٍ مباغت. كيف لتلك العطسات أنْ تجعل جسدي هشًّا إلى هذا الحد؟!

الإضاءة هنا معتدلة. ثمّة مصباحٌ وحيد مطفأ. المرضى الثلاثة على يميني يغطّون في نومٍ عميق. في الجهة المقابلة الأسرّة شاغرة. لا أتذكّر أنَّ أحدًا زارني اليوم. استيقظتُ قبل ساعةٍ ونصفٍ تقريبًا دون أنْ ألمحَ أحدًا هنا، حتى الممرّضة التي قالتْ لي إنها رهنُ إشارتي حين جاءت بي إلى هذا السرير البارد أمس فيما كنتُ أصرخ. هل كان ذلك أمس أم اليوم صباحًا؟

أسمعُ صوتَ المطر، المطر الذي يجعل الأرض في حالة عرسٍ وانتشاء، المطر الذي في قلبي درسَ الأمل والبهاء. أحاولُ الآن النهوض لمعاينة ما يحدثُ خارجًا. أحبّ أنْ أرى في لحظات الهدوء هذه كيف تبدو الحياة حين تمطر السماء. كل مطرٍ يذكّرني بسباق الجري ولعبة “الغمّيْضة” مع إخوتي وأبناء أعمامي. كنّا نخوضُ سباقًا مجنونًا في الساحة المقابلة لبيتنا. نركض في الأرض الموحلة فرحين بوقع أقدامنا المتسخة بالوحل، وبملابسنا التي التصقتْ بنا حين ابتلّتْ بالمطر والجنون. نتسابقُ. يلحقُ أحدنا بالآخر محاولاً تجاوزه. بعضنا يدفعُ بعضه الآخر في محاولة انتصار جبان. نسقط أحيانًا حين نتعثر بغتةً ببعض الحجارة أو حين يستبد بنا التعب.

  جسدي منهكٌ. هذا الوقوف أرهقني رغم الدقائق المعدودة. ظهري تحديدًا يكاد يقصمني. ربما من فرط التمدّد على السرير. ربما بي علّةٌ ما. أقاومُ رغم كلّ ذلك لأقترب من النافذة التي لا تبعد عني كثيرًا. الغرفة في الطابق الثاني مما يتيحُ لي الفرصة لأشاهد بشكلٍ أفضل. أصلُ حيث أرى انهمار المطر حيث تحتفلُ به كلّ العناصر.

المطر!

  تمطرني ذاكرتي الآن. المطر! الأمر ليس بهذه الشاعرية فقط. المطرُ بداخلي يكاد يسحقني. الصورُ تنثال دون توقف. أشعرُ أنّ ذاكرتي تستعيد قوّتها. كيف نسيتُ كلّ ذلك؟!

   ما زلتُ لا أعلمُ لمَ جئتُ إلى المستشفى وما حلَّ بي على وجه الدقة. بيد أنني أتذكر الآن ما حلَّ بنا تلك الليلة حين انهمر المطر دون توقفٍ لمدة ستّ ساعاتٍ متواصلة. كانت الرياح قاسيةً وشديدة، وكان قلبي يهوي في منحدرات الخوف والقلق. كلّ مطرٍ رحمةٌ إلاّ حينما نكون في بيتنا المتهالك، هذا البيت الذي يشعرك دومًا بأنّه يحتضر أو بصدد لفظ أنفاسه الأخيرة. عمره يربو على الثمانين عامًا. أجيالٌ عاشتْ في هذا البيت الطيني البائس. عبثًا ذهبتْ سدى كل محاولات جدي لترميمه، ولا قدرة لأبي ولأعمامي على أنْ يفعلوا ذلك. جدّي فلاح، وأبي وأعمامي يعملون في منجرةٍ بائسةٍ في القرية. لطالما تحدثّوا في الأمر بعدما تنتهي معركة المطر. أعوامٌ طويلةٌ وهذا الحديث لا يتغيّر، والانتظار يلدُ انتظارًا لا يبدو أنّه سينتهي في المدى القريب. منذ أعوامٍ لا أتذكّرها صنّفه المجلس البلدي بأنه آيلٌ إلى السقوط. انهالتْ الوعود الكثيرة بشأنه. أخذتْ الكثير من الصور الفوتوغرافية له ونشرتْ في الصحف المحلية. سمّاه الناس بيتَ المطر! سقط قبل عامين سقف الغرفة الثالثة من غرف بيتنا. كانت غرفة عمي الأصغر. لم يجد حلّاً سوى بوضع الخشب بدل السقف. تداعتْ قدما جدّي من شدّة وقوفه ومراجعاته طيلة السنوات الماضية دون جدوى. كان وما زال أقصى طموحه أنْ تنتقل عائلته إلى بيتٍ جديد.. أنْ يرى الوعد يتحقق ولا يورثُ أسرته الكبيرة البؤسَ الذي ورثه من أبيه. لطالما سمعته يتحسّبُ تارةً، ويندبُ حظّه تارةً أخرى حينما كنّا نهرع إليه تحت المطر لنضع عليه كيسًا بلاستيكيًّا يقيه. كان جدّي يمرض كل بداية شتاءٍ جديد. تفسّر جدّتي الأمر على أنه يعيش قبل الشتاء حالة رعبٍ شديدة فهو أصبح يخاف الشتاء والمطر حيث يعرّيان بيتنا تمامًا فلا جدرانه تصدّ الرياح العاتية، ولا سقوفه تحول دون انهمار الأمطار علينا بشكل مستفز. كل مطرٍ يعني حالة طوارئ لدينا. نهرع جميعًا إلى المطبخ لنتناول ما نجده من مواعين الطبخ ثم نوزّعها في كافة أرجاء بيت الطين والوحل.

المطرُ هنا يهطلُ موسيقى مرئية. يعانق البيوت والمباني ويداعب الشوارع. لكنّه في بيتنا هجومٌ مسلّح. ترى ما حال بيتنا الآن؟

    آه! نعم! ما حال بيتنا الآن؟ أكادُ أتذكّر. هطل المطر بشدّةٍ قبل ليلتيْن. عدوتُ باتجاه المطبخ لكنني لم أصل. انزلقتُ فجأةً قبل أنْ أضع الماعون في مكانٍ مناسب لأسقط على رأسي. كانتْ أصواتُ نحيبٍ تتعالى. ثمّة صراخٌ محموم. لمْ أميّزْ أيّ شيءٍ بوضوح. كلّ شيءٍ مشوّش.. دوائر ترتسم دون توقف.. تكبر وتصغر.. تتجلى وتتلاشى.. ثم لا أعـد أتذكّر أيَّ شيء!

    أسمعُ الآن وقع خطوات أبي. أعرفها جيّدًا: متمهلةً وقويّةً بإيقاعٍ رتيب. لا داعي للعجلة كما يقول أبي عن مشيته. يحادث الممرضة خارجًا بصوتٍ أقرب إلى الصراخ. يسألها عني. تحاولُ تهدئته. أسمع الخطوات مرّةً أخرى تقتربُ مني. أقتربُ أكثر من الباب بابتسامةٍ واسعة. يدخل أبي بقامته الطويلة وجسده الصلب رغم محنة الأيام. يجذبني إليه. يعانقني. قلبه ينبض بقوّةٍ كأنما يزفرُ ألمًا ما. يختطفني شيءٌ بداخلي لا أعرفه. أسأله مندفعًا عن حال أمي وإخوتي. ملامحه متوترة وكأنما يدفع الإجابة دفعًا ليتخلّصَ منها.

“كيف حال جدّي”؟

    يطأطئ أبي رأسه. يصمتُ. لم أستطع أنْ أتحدّث. كان بإمكاني أنْ أرى الدموع تتسلّلُ من عينيه قبل ذلك. كان بوسعي أنْ أسمع دقات قلبه في الصمت الذي يقطعه صوتُ المطر في الخارج، ويقطّعُ قلبي محاولاً في هذه اللحظات عدم استيعاب كلّ ما جرى.. كل ذلك.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.