تأخُّر الشعر القوي
في كتابه “خريطة للقراءة الضالة” (1975) يطرح هارولد بلوم تساؤلا مهمّا حول ما إذا كان شعراء الرومانسية مثل بليك ووردزورث وكيتس وشيلي – رغم خصوصيتهم – يرجعون جميعا بشكل مباشر أو غير مباشر لميلتون بوصفه مرجعية في الشعر؟ وتتجلى إجابته في الفصل الذي حمل عنوان “تأخر الشعر القوي”؛ حيث تجربة الحضور بعد الحدث، فيرى بلوم أن السبب وراء عدم قدرة شعراء الرومانسية على تخليص شعرهم من الإحالات الواعية والإيماءات غير الواعية لميلتون كونهم متأخرين عن الحدث؛ فشعر ميلتون بالنسبة إلى بلوم هو الحدث؛ ومن ثم يجعل جميع الشعراء من بعده متأخرين عنه.
ويوظف بلوم مفردات “السلف” (الأب) و”الخلف” (الابن) لوصف العلاقة بين ميلتون وجميع الشعراء الذين يأتون بعده في تراث الشعر البريطاني؛ فالشاعر لا يجرؤ أن يعتبر نفسه متأخرا، لكنه لا يستطيع أن ينكر كذلك كون رؤيته يمكن اعتبارها انعكاسا لرؤية سلفه.
فيرى بلوم أن الشعر في فترة ما بعد ميلتون ينبع من محركين أساسيين: الأول يتعلق بالرغبة في تقليد شعر السلف الذي تعلم منه الشاعر أولا ما الشعر، والثاني أن تكون الرغبة أصيلة والدفاع عن تلك الرغبة ضد الرأي القائل بأن ما يقوم به الشاعر هو تقليد أو محاكاة وليس إبداعا جديدا. فرؤيته للشعر والأدب بشكل عام تناصية ومن ثم يصّوب بلوم – بتعبيره – في كتابه الأكثر شهرة “قلق التأثير” (1973) المناهج النقدية التي تفترض على نحو خاطئ أن النص الأدبي يمتلك وحدة ذاتية.
فما يقره بلوم في نظريته “قلق التأثر” هو عودة الشاعر الحديث إلى القديم ليستمد منه معاني وجدت في سياق معيّن ويطوعها في سياق جديد، مشيرا إلى عمق العلاقة بين نص الشاعر المعاصر وبين نصوص السلف، قائلا بضرورة عدم قراءة الشعراء لآبائهم قراءة ضالة، تلك القراءة الخاطئة التي تؤدي إلى انحرافات في الأسلوب أجملها في ست مراحل، كل مرحلة تخص ما يسميه بنسب التنقيح، وهي: الانحراف الشعري، والتكامل والتضاد، والتكرار والقطيعة، والسمو المضاد، والتطهر والنرجسية، وعودة الموتى.
فبالنسبة إليه يوظف الشعراء الصور المجازية الرئيسة من الشعر السابق لكنهم يعيدون توجيهها وتفسيرها بطرق جديدة، ومن ثم يخلقون الوهم بأن شعرهم لم يتأثر بقصيدة السلف وبالتالي فهو ليس قراءة خاطئة له، فـ”النص الواحد به جزء من المعنى، وهو في حد ذاته مجاز لكل أكبر يشمل النصوص الأخرى، فهو حدث علائقي وليس مادة للتحليل”.
والتعدد الذي يدافع عنه بلوم تحت مفاهيم القراءة الخاطئة وقلق التأثر، تحتفى به جوليا كريستيفا ومن قبلها ميخائيل باختين في درسه عن الحوارية، فقد طرح باختين في وقت مبكر فكرة الحوارية التي تفرض أن الكلمات مواضع للصراع وأنها تمثل طبقات اجتماعية أو إيديولوجيات متعددة أو فترات مختلفة. وتضيف كريستيفا مفاهيم الإنتاجية والتحول، فالنصوص لا تستخدم فقط صور النص السابق ووحداته، ولكن تحولها وتعيد إنتاجها وتمنحها ما تسميه بالمواقف الأطروحية الجديدة.
كما أن السياقات الاجتماعية والثقافية التي ينكرها بلوم مقابل تعريفه للتاريخ الأدبي على أنه “التاريخية التي تُختزل عمدا في التفاعل بين الشخصيات”، يؤكدها كل من كريستيفا وباختين؛ حيث اشتركا في أن اللغة لا وجود لها – حياتيا وأدبيا – دون السياقات الاجتماعية التي تُنتج داخلها وفي الإصرار على أن النصوص لا يمكن فصلها عن النصية الثقافية أو الاجتماعية التي تم بناؤها منها، ولذلك تحتوي النصوص في داخلها على الأبنية الاجتماعية والنضالات الايديولوجية التي عُبر عنها في المجتمع من خلال الخطاب. فالنصوص الأدبية – وفق باختين وكريستيفا – تجري حوارا مع بعضها البعض، ومع جمهور المتلقين المحتملين، ومع السياق الثقافي المعاصر لها أو السابق عليها، وبهذا يكون كل نص هو استيعاب لنصوص أخرى وامتصاص لها وإعادة إنتاجها من جديد.
يهتم تناول بلوم للتناص بالدوافع أو الأسباب التي تجعل الأديب أو الشاعر يكتب في ثقافة ما، يبدو فيها أن كل شيء قد تم الكتابة عنه بالفعل، أو التي لا توجد فيها طريقة لإنتاج كتابة تمثل العالم أكثر من إعادة كتابة ما سبق الكتابة عنه؛ فيواجه بصورة مباشرة الطريقة التي قد يؤثر فيها البعد التناصي للكتابة على الرغبة في الكتابة، ويختزل التناص في النص والنص الرئيس، ومن ثم ينتج استراتيجية مقنعة للقراءة بالعودة إلى النص الرئيس وتتبع نسبة تنقيحه في النص الجديد.
لذلك كان مفهوم التناص هو المنتَج الأساسي لنظرية القلق من التأثر بتعبير بلوم؛ الذي يرى أن الدافع الوحيد الذي يفسر لماذا استمرت الكتابة، رغم الاعتراف بأن هناك دائما من سبقنا في كلماتنا ومشاعرنا وحتى في تجاربنا الذاتية، هو الرغبة في التأثير، وأن يصبح الشخص ذا تأثير معناه أن يقف هذا الشخص ضد الزمن ليحقق شعور التبكير بدلا من التأخر عن الحدث.
وحول السؤال الذي اقترحته “الجديد” على عدد من الشاعرات والشعراء حول مدى تأثر تصوراتهم للواقع ودوافعهم في الكتابة بالصور التعبيرية والتراكيب الشعرية لدى الشعراء السابقين، وعن وجود بعض الشعراء العرب لا يمكن تصور الشعر من دونهم؛ تعددت الإجابات التي تتفق مع المفاهيم السابقة أو التي تخالفها وتعلي من قيمة الأثر الشعري نفسه مقابل أسماء الشعراء أو تلك التي تضيف عليها أبعادا خاصة بالتلقي ودوره في تحديد مفهوم إعادة القراءة والكتابة الشعرية.
تحطيم الأصنام الشعرية
إن الحداثة بوصفها نمطا من أنماط التجديد في الحياة عامة وفي الأدب والفن خاصة، لا تعني بأي حال التناقض مع الموروث، بل تطويره وتنظيمه، حتى يحدث التناغم بين القديم والجديد أو بين الأصالة والمعاصرة.
وقد حملت بعض الإجابات موقف التصارع بين الأصالة والمعاصرة، ومشاعر القلق من التأثر وحاول أصحابها الدفاع على تجاربهم الشعرية ضد التأثر من شعر “السلف” أو من محاولة محاكاته؛ فينفي عبده وازن كون الريادة مقتصرة على الأسماء السابقة التي تحول معظمها إلى أصنام، بسبب الحديث عن “الصنمية الشعرية”، ويرى علي نوير أن “الشعر أكبر من أن يختصر بشاعر أو مجموعة من الشعراء”، ورغم ذلك لا ينكرون كون الشعراء أبناء عصرهم كما هم أبناء تراثهم.
أما الخضر شودار فيعتقد بأن “الغائب هو الشعر لا الشعراء”، ويحذر من “خطر الوقوع في محاكاة الآخرين؛ ومن محاكاة الشاعر لنفسه وعبوديته لنموذجه الخاص”. فالقلق ينشأ من تلك الرؤية التي خلالها يصبح الشاعر نسخة مكررة من السلف، الذي يعتبر هو المؤثر على المشهد الشعري، بل المستحوذ على كل شيء والذي لم يترك شيئا للاحق كي يتناوله فيحاكيه، فـ “التأخر في التاريخ الشعري” يرهب الشعراء ويحثهم على إبراز هويتهم الخاصة.
ويبدو أن الإصرار الأكبر على الأصالة قد أفرز بشكل عكسي قلقا من التأثر، مما جعل بعض الشعراء يميلون للتخلص من ذلك التأثر إما برفضه أو التفلت منه؛ فيرفض نجيب مبارك أن “يكون هناك تأثيرا للآخرين” في كتاباته، وهو ما نجده متعارضا مع مفهوم القراءة؛ فباعتبار الشاعر في المقام الأول قارئا للنصوص الأخرى فإنه لا يمر عليها مرورا عابرا، فالقراءة – بتعبير نبيلة إبراهيم – ليست ذلك الفعل السطحي بل هي فعل خلاق يتغلل داخل القارئ، ويشعره بالإشباع النفسي والنصي، وعندئذ تكون عملية القراءة قد أدت دورها، ليس فقط من ناحية استقبال النص بل من ناحية تأثيره في القارئ كذلك.
لذلك يؤكد بول ريكور على أنه لا يوجد نص بلا إحالة، فالإحالة ما هي إلا تقنية يتفاوت حضورها حسب الاستراتيجية التي يستخدمها الشاعر. فالنص الأدبي خارج التفاعل النصي يصبح ببساطة غير قابل للإدراك؛ لأننا لا ندرك المعنى إلا في علاقته بأنماط عليا، هي بدورها مجرد متوالية طويلة من النصوص.
فيرى لوران جيني أنه يجب في المقام الأول إدراك دينامية العمل وانتمائه إلى ديمومة متجددة/مجددة ومتحولة/محولة، تجعله يمتلك ما هو مشترك مع غيره من الأعمال الأدبية الأخرى التي سبقته إلى الظهور؛ فيسعى إلى نفيها ليحقق صورته ومقرؤيته، دون أن يتخلص من الصدى المتروك فيه أو يتملص من حساسية السياق الثقافي الذي يتحكم بدوره في إنتاج النصوص وفهرسة الأجناس الأدبية أو الأشكال بصفة عامة. فالتناصية لديه تتجلى في ثلاثة مظاهر: التحقيق والتحويل والخرق، وتتجاوز الممارسة المعهودة للاستشهاد وتتخطاها إلى إجراءات أكثر تعقيدا تقوم على التشرب والتحويل اللذين يرى فيهما جيني – ومن قبله كريستيفا – جوهر التفاعل النصي.
حوار النصوص
النص – كما عبر رولان بارت – هو نسيج من الاقتباسات المستمدة من عددٍ لا يحصى من مراكز الثقافة؛ فالنصوص مصنوعة مما يسمى في بعض الأحيان بالنص الثقافي الاجتماعي؛ أي تلك الخطابات المختلفة والأبنية المصرح بها مؤسسيا والنظم التي تشكل ما نسميه بالثقافة، من هنا يكون النص، ليس إنتاجا فرديا ومعزولا بل هو تجميع للنصية الثقافية.
وقد أكد عدد غير قليل من الشعراء المشاركين على البعد الحواري والعلائقي للنصوص، فيطلق الشاعر عبد اللطيف الوراري على تلك العلائقية اسم “سياسات الشعر” حيث اهتدى عبر رهان الغيرية إلى “متنبّي آخر، وشابّي آخر، وسيّاب آخر، ولوركا آخر، ودرويش آخر، وماغوط آخر، وموريسون أخرى”؛ ففضاء الغيرية يؤكد حوارية شعرية الكتابة؛ وترجيع أصوات الآخرين يهيئ للخطاب كفالة نصية خاصة، ويكشف كذلك عن مرجعيات الشاعر الثقافية ومخزونه عن المقروء سلفًا، وكيفية توظيفه في المبنى الجديد.
كما تؤكد عائشة الحاج أنه “لا تتناقض الدوافع الذاتية مع الالتقاء بتجارب أخرى؛ فلا أحد يبني بيتا حقيقيًا من فراغ، وما من شعر حقيقي ومتطوّر من دون تجارب سابقة”، ويضيف على هذا الطرح الشاعر علال الحجام الذي يرى أن الكتابة ” ليست مجرد نزوع شخصي ودوافع ذاتية، فهي بالإضافة إلى تفاعلات السير ذاتي والمعيش اليومي والتجارب الشخصية وانصهارها في بعضها البعض بما هي روافد تشحن مخيال الكتابة، تعدّ أيضا جهدا تناصيا لا تكف القراءة عن تخصيبه”؛ فاليومي والمعيش هما البنية النصية الغائبة المتعالقة مع البنيات النصية الأخرى التي تشكل الخطاب الشعري للشاعر المعاصر في صورته النهائية.
وعلى الرغم من الارتباط البديهي بين كلمة “أدب” وكلمة “نص”، فلم تقتصر العلاقة بين النصوص على الفنون الأدبية، حيث انتقل مصطلح التناص إلى مجالات الفنون السمعية والبصرية، كالرسم والموسيقى والعمارة، وأصبح بديلا معترف به لمصطلحات مثل التقليد والاستعارة. ليمكننا الحديث عن لغات السينما والرسم والهندسة المعمارية، وهي لغات تتضمن إنتاج أنماط معقدة من التشفير وإعادة التشفير، والإشارة والأثر، وتحويل للنظم السابقة وشفراتها المختلفة؛ فالعملية التي تتم من خلالها تفسير العلاقات بين النظم السابقة لرسم أو لتصميم ما، هي العملية ذاتها التي تُستخدم لتفسير العلاقات بين النصوص الأدبية.
فيقول حسن نجمي “لكم تعلمتُ من هوامش وظواهر أخرى متعددة، سوسيوثقافية أساسًا، مما لا نَعْثُرُ عليه في مُتُونِ الشّعْر العربي” مؤكدا على ضرورة تعدد المرجعيات خارج المدونة الشعرية العربية، ومشيرا إلى أهمية تجاوز فضاءات الإبداع الشعري لفضاءات الأجناس الأدبية الأخرى غير الشعر كالفنون السردية مثل الرواية والمسرح، ولفضاءات الفنون السمعية والبصرية كالسينما والكوريغرافيا والموسيقى والفنون التشكيلية.
حسن نجمي يشدّد على ضرورة تعدد المرجعيات خارج المدونة الشعرية العربية
وهو الرأي الذي يتفق مع الطرح السيميوطيقي في دراسات ما بعد البينوية وما بعد الحداثة، الذي يرى أن التناص ظاهرة اجتماعية عامة، ويرفض الانغلاق البنيوي الذي اختصر التناص في المجالات الأدبية دون الفنون الأخرى. فلإمكانية تداخل الفنون وانزياح الفواصل بينها؛ لم يصبح غريبا أن يستدعي النص الأدبي نصًا أو نظاما أو شفرة من الفنون الأخرى ويوظفها في متنه الخاص؛ فأصبح استدعاء الفنون البصرية والسمعية معتادا في الفنون الأدبية شعرية أو نثرية.
وكما تميل الدراسات ما بعد البنيوية إلى التحرر الراديكالي من الدلالة الثابتة في ثقافة تهيمن عليها شفرات لغوية متكررة وصور تعبيرية نمطية، تميل نظريات ما بعد الحداثة إلى القضاء على ما يسميه فريدريك جيمسون بـ”العمق؛ حيث يتم استبدال السطح بالعمق، مشيرا إلى الطريقة التي يتم بها دمج الانقسام السابق بين الإنتاج الثقافي المعياري والإنتاج الثقافي غير المعياري بالتحديدات الحاكمة للمؤسسات الثقافية.
فالخطاب السائد الآن هو عدم التجانس الأسلوبي، ففي مرحلة ما بعد القراءة والكتابة لم يعد هناك وجود لمشروع جماعي كبير أو للغة قياسية. ومن هذا المنطلق يكون استخدام الصور والأساليب دون التمسك بأي قاعدة ثقافية أو طبقة اجتماعية معترف بها، ظاهرة حوارية مزدوجة الصوت تمزج بين لغة قياسية أو نمط رسمي ولغة غير قياسية أو نمط غير رسمي، وتجسد البعد التناصي مزدوج التشفير للخطاب ما بعد الحداثي.
البعد الرابع
تتطلب عملية القراءة شراكة فعّالة من القارئ، الذي يصبح مطالبا باستغلال مجمل معارفه السابقة لفهم النص، حيث يربط بين التفاصيل الموجودة بالنص والروافد اللغوية والثقافية والأدبية التي تكونت لديه من قراءات سابقة لنصوص أخرى، وأثقلت عالمه بالأفكار والخطابات والسياقات التي حولت النص إلى مجموعة من الإحالات.
وهكذا نجد أن التناص بجانب كونه مفهوما سيميائيا؛ لأن النص دائمٍا ما يحيل إلى نص آخر، فهو كذلك مفهوما قرائِيًا؛ لأن القراءة تختلف باختلاف الإطار التاريخي والمكون الثقافي للمتلقي؛ فلا توجد قراءة نهائية لأن النص مفتوح ولا يرتبط بمركز معين.
وفي حديث عبدالله الريامي الذي أجمل رأيه الخاص القائل بأن الشاعر “تجربة داخلية، وخبرة عامة، تتحول إلى خاصة، ومستقلة، ينظر منها إلى الآفاق، وإلى ذاته وتبادلاتها مع العالم والوجود كله، فهو مزيج من الفطري والمكتسب، من العفوي والقصدي” يلمح إلى ما أسماه بالبعد الرابع لمعمار القصيدة التي تتكون من ثلاثة أبعاد رئيسة هي البعد الشعري، والبعد الإيقاعي النسقي والبعد الدلالي، والبعد الرابع لديه تحدد في القارئ، وهو البعد “الذي لم يُكتشف بعد كالأبعاد الأخرى التي في طور الاكتشاف”.
فالنص الشعري لديه يتشكل من كتابات متعددة ومستمدة من العديد من الثقافات والدخول في علاقات متبادلة من الحوار والمحاكاة، ولكن يوجد مكان واحد يتركز فيه هذا التعدد، وهذا المكان هو القارئ، وليس المؤلف؛ فالقارئ هو الفضاء الذي تكتب فيه جميع الاقتباسات التي تشكل الكتابة دون أن يقفد أي منها، فوحدة النص لا تكمن في أصله ولكن في وجهته.
ويوجه وليد علاءالدين الجهد الأكبر لإدراك الفعل العلائقي للنصوص، والوقوف على العلاقات الموجودة بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت عليه، إلى كفاءة القارئ؛ الذي عليه أن “يُدرك أنه يجوس في عالم وحشى من العلاقات اللغوية، وعليه أن يتسلح بكل ما في جعبته من حسّ المغامرة لكى يستمر في هذا الصراع بينه وبين هذا النص الذي لن يسلم نفسه بسهولة للمتلقي”.
وهنا نؤكد على حضور موقف جاك دريدا التفكيكي وطرحه بشأن إعادة القراءة وإعادة الكتابة، فالمعنى في النص هو انفجار وانتشار لمعنى قائم بالفعل، فلا يؤمن دريدا بأن النص سيكون له معنى نهائي أيا كان؛ لأن النص لا يطلق تعدد المعاني فقط، ولكنه يُنسج من خطابات عديدة ويغزل من معانٍ موجودة بالفعل من شأنها أن تقدم طريقة جديدة للقراءة تدمر خطية النص.
فالقراءة هي عملية تنظيم فعّال للعناصر المختلفة بالنص تتم في وعي القارئ؛ فيفترض النص وجود شبكة كاملة من العلاقات بين عناصره يجب على القارئ اتباعها لتقوده إلى بناء معنى النص، ويقصد بمعنى النص كل ما يقال داخله ويمكن أن يكون له مدلول لدى القارئ؛ فوحدات المعنى لا تتطابق مع الوحدات اللغوية، رغم تموضعها داخل الجمل والتراكيب، والنص لا يخبر بالأشياء صراحة بل هو نسيج مليء بالفجوات التي يجب أن يسدها القارئ، وزاخر بالخطابات غير المتصلة التي يجب أن تنتظم علاقاتها داخل وعي القارئ.
ويبقى أن نشير إلى أنه رغم الاعتراف بعدم وجود نص لا يحيل لنصوص أخرى، وبأن النص هو فسيفساء من النصوص السابقة، يظل لكل شاعر صوته الشعري الذي يميزه وبصمته التعبيرية التي يعرف بها؛ ذلك بسبب خصوصية التجارب التي يختبرها الشعراء واختلاف مشاربهم الذاتية وعلاقتهم مع اللغة، وكذلك تعدد تحزبهم الأيديولوجي والفكري والجمالي.