تأشيرة‭ ‬عبور‭ ‬إلى‭ ‬الرواية

الاثنين 2016/02/01
لوحة: حسين جمعان

رغم تراجعها إعلاميا فإن القصّة القصيرة ماتزال تحظى بمكانة جيّدة بين الفنون الكتابيّة ولا تزال تستقطب اهتمام القرّاء وتغري الأدباء بالتّجريب والخوض في غمارها‭.‬ ولا ننسى أن أكبر كتّاب الرّواية في عالمنا العربي قد أخذوا تأشيرة عبورهم للرواية من القصّة القصيرة‭.‬ إن الفنون الكتابية تتداخل باستمرار وتأخذ من بعضها البعض وهذا ليس نقيصة بل بالعكس هو ثراء لهذه الفنون، أعتقد أن فكرة التّنافس بين الفنون هي فكرة مغلوطة فالكتابة القصصية لا تنفي الرواية ولا الشعر‭.‬ ولا تطور الرّواية يخفي بريق القصّة وتكثيفها العالي‭.‬ الكتابة غابة استوائية يعيش داخلها الشجر والنباتات والأعشاب المزهرة وغيرها‭.‬ لا ينفي وجود واحدة وجود الأخرى وخصوصيّتها‭.‬

إن أهمّ ما يميّز القصّة القصيرة عن الأجناس الأخرى هو تجدّدها الدّائم وانفتاحها على آفاق التجريب، ما يجعلها جنسا متطوّرا على الدّوام ويمكّنها من التفتّح على الأجناس الأخرى وأن تتغذّى من مشارب شتّى‭.‬ ولعلّ القصة القصيرة جدّا هي التّعبير الأمثل عن هذا التطوّر الدّاخلي الذي عرفته القصة‭.‬

***

إن التّجريب أو التّطوّر سواء ذاك الذي ينبع من داخل الجنس أو الذي ينتج من تلاقح أجناس أخرى يهمّ أوّلا تقنية الكتابة أو شروطها الفنّية فما كان يُعدّ ضروريا في نقد القصّة القصيرة كجملة البداية أو القفلة الصادمة المفاجئة لم يعد الآن كذلك‭.‬ أمّا مواضيعها أو حقل اشتغالها فقد غدا رحبا يكاد لا يُحدّ فلم تعد الواقعيّة هي المجال الوحيد للقصّة القصيرة فقد أنتج خيال القصّاصين القصّة النفسيّة والقصّة الحوارية الممسرحة وقصّة الخيال العلميّ والقصّة المونولوج وغيرها‭.‬

هل تحولت لغة القصة القصيرة لتصبح أقرب إلى الشعر وفضاءاته منها إلى السرد؟

لئن استعارت بعض القصص اللّغة الشّعريّة أو الصّورة الشعرية لإضفاء مسحة شاعرية على الكتابة فإنّ أسس السّرد أو الحكي تظل هي المقوّم الأساسي في فنّ القصّة‭.‬ لا بدّ من الحكاية لتولد القصّة، حتى في نمط حداثيّ كالقصّة القصيرة جدّا (ق‭.‬ق‭.‬ج) نبحث دائما عن الحكاية وإن كانت ومضة أو احتماليّة‭.‬

***

للقصة القصيرة عشّاقها ونقّادها وقرّاؤها الذين يتابعون تطوّرها ولا ننسى أن من بين الفائزين بجائزة نوبل الأخيرة كاتبة قصّة قصيرة وهذا دليل على أهمّيتها بين الأجناس الكتابيّة‭.‬ صحيح أن الرواية جنس مغر ومستوعب لبقيّة الأجناس لكنّ سحر القصّة القصيرة التي تشرب كفنجان قهوة مركّزة لا يمكن الاستغناء عنها‭.‬ نعلم أن الجوائز الأدبية ركّزت في السّنوات الأخيرة على الرّواية وهذا في اعتقادي ما أغرى الكثيرين بالتّوجّه نحو كتابتها، ولعلّنا نرى إحدى المؤسسات العربية الكبرى تبعث مثل هذه الجوائز في فن القصة القصيرة حتى يعود اهتمام الإعلام والكتّاب بها‭.‬

***

لا يمكن لأيّ جنس كتابي أن يعبّر وحده عن عالمنا المجنون، ربّما “مسرح العبث”‭.‬ لكن القصّة القصيرة تظل دائما وفيّة لواقعها تولد منه لتحلم به تنقده لتغّيره تبيّن عيوبه لتأمل بتحسينه‭.‬ القصّة القصيرة لها أساليبها الخاصة في التّعبير عن واقعها ومحلّيتها وتجرّها في بيئتها هما خاصّيتها الأساسيّة ومن هذه الخصوصيّة تواصل نحت كيانها ووجودها في ظل طغيان الرّواية إعلاميّا‭.‬ وحسب قراءاتي فإن أفضل ما عبّر عن الواقع العربي بعد ما سًمّي بالربيع هو القصة القصيرة لأنّها تستقي عيّنات ولا تطلق أحكاما أو شعارات ولا تحتاج ما تحتاجه الرّواية من وقت طويل لاستيعاب الأحداث مهما كانت جليلة‭.‬

***

أعتقد أن إغراءات الرّواية لا تقاوم، إغراء شساعتها وتداخل أساليب الكتابة داخلها، إغراء تعدّد شخوصها ومناخاتها‭.‬ لكن أعيد فأقول إن القصّة القصيرة جنس لا يمكن الاستغناء عنه‭.‬ أنا جرّبت الكتابة في الجنسين، ورغم حبّي للرّواية فإنّ الحنين يعيدني أحيانا لحميميّة القصّة وجرعتها النقديّة المركّزة‭.‬ ومستقبل القصة القصيرة مرتبط أساسا بإرادة كتّابها الذين يمكنهم تطوير أساليبها وبثّ روح جديدة داخلها‭.‬ لا يمكن للقصة القصيرة أن تتطوّر إلاّ إذا آمن من يمارسها بما يمكن للتجريب أن يفتحه داخلها من آفاق رحبة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.