تأنيب ضمير
الملف العاطفيّ لآدم لم يعرف الجنة
قرأ الكثير من النّاس نعيه، وشاهد بعضهم جنازته في التّلفزيون: أصدقاء، وأقارب وأعداء لم يكن يظهر لهم العداء الذي يشعر به، فهو من الدهاء بحيث أتقن عدم كشفه، بل أكثر من ذلك لقد وجده أعداء كثيرون في محنهم يشدّ من أزرهم؛ فردّوا جميله بحضور جنازته، بل إنّ بعضهم بكاه متأثّرا أنّ رجلا مثله خسارة للوطن بما قدّم من خدمات وتضحيّات، إنّنا فقدنا بوفاته صديقا، وأخا، وشجاعا لن يتكرّر في تاريخنا.
بكته زوجته وأولاده. ومع ذلك فرح كثيرون لوفاته، فقد أزاحته أخيرا عن طموحاتهم، كنائبه في العمل، الذي ما إن تلقّى الخبر حتى اِتّصل بقريبه ليبدأ إزاحاته، وترتيباته من أجل أن يكون أحقّ واحد بهذا المنصب الذي وحده يُسقط مطر مفاتيح أبواب الخدمات والعلاقات فتنبلج بتمتمات لا يفكّ طلاسمها سواه، ليكون بعد اِتّصاله هذا، أوّل من شدّ على يد زوجته وأولاده بأنّه لن يتوانى عن خدمتهم ما طالت حياته.
بعض الذين يعرفونه عن قرب، اِلتزموا الصّمت فلا شيء بعد سيفرض عليهم ذكر ما فعل، أو تملّقه من أجل ما اِستفادوا من اِمتيازات، واِغترفوا من مزايا أظهرت لهم بعض زوايا طيبته أو سذاجته تحديدا، سذاجة ظهرت في سلوكه، وظلّت تحيل إلى ينابيعه الريفيّة – لم تمحها غطرسته -، لتحدّث أيّ متعمق أو مترصّد لسيرته عن بقايا رجل كانه!
أمّا ما لا يعرفه الجميع هو ما حدث له لاحقا:
فما إن واروه قبره حتى سئل عن الحب الذي أعطى في حياته!.. وكان ممّن لا يتوقعون أن يحاسبهم أحد، والأدهى أن يحاسب بسبب من أحبّ وكره، ويعترف، وقبل ذلك، يقرّ لنفسه وأمامها بالنّاس الذين صدقا اِرتعش قلبه لرؤيتهم، واِشتاق إليهم يوما.
حار جوابا فتحديد الحب هنا مختلف، معنىً لم يتعرّف عليه يوما ولم يصله: حب بذل فيه روحه فتألّمت ورقّت للبكاء، فحصد الحنين والشّوق براريها، حتى أحسّت بوجع تلك العصافير التي كان يستمتع بصيدها، والورود التي يمرّ عليها متعاليا فلا يفهم الغبيّ الذي يرضي بها هدية!.. بل وضحك من كثيرين فعلوا ذلك!.. لم يكن السّائلون يجهلون تفاصيله العاطفيّة فقد ذكّروه بكلّ اللواتي عرف وعدّد أسماءهن. لكنّهم لم يعتبروا ذلك حبّا؟
– هكذا أنتم لا حبّ عندكم غير ما تلمسون!
بل أصرّوا على أن يسمي كائنا أحبّه حتى رقّ قلبه للبكاء. لم يرضوا حتى بزوجته التي قال: أعطاها اِسمه وحظيت بكلّ نعيم سلطته.
ليلعنها بينه وبين نفسه معتقدا أنْ لا جدار بينهما كما تعوّد، فإذا اِختناق يشبه حشرجة الموت التي آلمته قبل ساعات تعاوده ثانية، ليتأكّد أخيرا أنّ مفاهيم كثيرة خانه الوقوف عليها واِستكناه حقيقتها وعمقها في نفسه وقلبه الذي لم ينشغل به أبدا مقابل أشياء لا أهميّة لها، الآن، كان أعطاها كلّ قوّته ووقته كالعقاقير التي كان يأخذها لنفسه بأسماء مختلفة، أو السّيارات التي جمعها في مرآب بيته الرّيفيّ، أو قطع السّلاح التي كثيرا ما تباهى بها على معارفه فهو لا يحب اِستعمال كلمة صديق مؤكّدا، وسيجاره في يد، وكأس خمرته في يده الأخرى: أن لا صداقة في هذا العالم، “ناس بكري قالو خوك ذرعك”.. فالجميع يبحث عن مصلحته!
فها هو يتأكّد أنّ كلّ تلك المباهج التي تصارع من أجل الحصول عليها، لن تفيده الآن ولن تسعف حيرته التي ألف يشكّل بعض أرقامٍ فينجلي عنها كلّ غموض!
– يكفيك ألف عام لتجد من ينطبق عليه مفهوم هذا الحب الذي كنت تمرّ عليه صباح مساء لتحب الحياة كلّها بعد هذا؟
– لديك كلّ الوقت لتحفر ذاكرة قلبك!
أجيب عن سؤال طرحه بينه وبين نفسه.
اِنزوى في تلك الظلمة حيث لا شعاع ولا قبس، أين برودة طفولته حيث كان يعيش محاطا برعاية أبيه وأمه تحصره فلا يقدر على الحركة. يرى أمه: فكم قبّلها واِسترضاها. فهل كان ذلك حبّا؟.. بينه وبين قلبه قال دائما: إنّه لم يطلب منها أن تلده، فما أنا إلاّ اِستجابة لرغبة كهربت إحساسها أو كما عرف والده مرغمة أنجبته. فإذا بنافذة ثلج تفتح على مصارعيها دفعة واحدة تزيد المكان برودة ووحشة لتنكشف صورتها الوديعة تناديه من بعيد، ولا تقدر أن ترمي له وشاحها ليتدفّأ به، كما فعلت دوما.
فتناثرت دموعه وذاق طعمها الذي اِنساب على شواربه لأوّل مرّة، فإذا الحرمان يستقطب وجوها نسيها، مرّت دون أن يتوقّف معها. صوّر، مجرّد صور لم يعد له إلاّ أن يستدرّ عطفها علّه خدمها يوما.
– أنت! أنسيت يوم جئت مستعطفا تطلب عملا لاِبنتك؟
– بالمقابل فتحت حسابا بنكيّا لابنك الذي لم يدخل المدرسة بعد!
عاجزا يتهاوى إلى زاويته الضيّقة والصوّر تهرب منه (وعادة الصوّر وهي لا تستوطن إلاّ الذاكرة أن تكون أبعد بعيد عن الفهم والإحساس)، فلا يفلح في إيقاف واحدة منها علّها تؤنس هذه الظلمة وتفرّجها، وهي تدور من حوله، لولبيّة لا يمسك بنهايتها. ليعرف الخجل، وهو يرى الكثير من الوجوه التي تفنّن في تقزيمها تجاهلا وقسوة، واِحتقارا، واِنتقاما، وعقابا، وتكبّرا، وتلذّذا. ومع ذلك حاول أن يستجديها لكن لا أحد أبه له.
-فمن هذا الوجه المشيح عكس كلّ الوجوه؟
– من أنتِ؟
لا مجيب غير صدى صوته الذي فقد هنا المعاني التي أعطته سابقا قوّة الأوامر والنهي.
– من أنت؟
لا تلتفت الصّورة وهو يحاول أن يتحرّك لإيقافها فيحادثها وتمدّه بما لم يشغل به نفسه، فيستطيب الراحة في هذا الزابوق[2] الذي لم يفكّر في ضيقه يوما.
– من أنت؟
– أخيرا سألت؟
اِستدارت إليه باسمة يغطّيها حزن لا شفقة فيه ولا ضعف.
– نسيتك تماما في زحمة الحياة!
– لم تتذكّرني يوما لتنساني! فقد اِلتقينا لتواصل حياتك وتنثر هدوئي والسّكينة على كلّ جهات الحيرة ولأقضي حياتي باحثة عنهما بعدك، وأنا أسأل أيّ قلب اِمتلكت لتقلب حياتي، وتزرع الفوضى في قلبي وأحلامي حتى تنبت ما يوائمك ويريحك، ثم ترحل دون كلمة، وتبدأ حياتك وكأنّك رميت ثوبا لم تعد تحتاجه!
ودون أن تفكر في حجم أساي وألمي، ومواجهتي للدنيا بلا حبك الذي غطّى على وحدتي وضياعي تركتني.
كيف اِستطعت أن تكون لا مباليا بمشاعري؟.. كيف ذهبت ولم يهمّك كلّ ما تركت لي بعدك؟ هل سألت أنّه يمكن أن يكون لك ولد منّي؟ طبعا لا يهمّك. كيف اِستطعت أن تعيش بسلام مع نفسك؟.. توقّفت حياتي خوفا، وأملا في عودتك. قلت إنّك لن تتركني. وببساطة صدقتك. لذلك اِنتظرتك.
يعود الوجه إلى الدائرة اللّولبيّة تاركا الفسحة لنار اِبتدأت قبسا، لكن اِشتعاله راح يتنامى حتى ظنّ عندما رآه يقترب أنّه سيحرقه، غير أنّ القبس الناريّ ما إن وصل إليه حتى أخذ شكل سلك دقيق، لم يعد يعرف له اِتّجاها، وهو كزوبعة في فنجان يتقدّم إليه، إلى أن أحسّ بحرارته داخل قلبه الذي لم يتحّرك هكذا إلاّ عندما لم يعد أهله المحيطون به في غرفته يسمعون ما يقول وهو يناديهم واحدا، واحدا فلا يردّون ولا يسرعون إلى تلبية ما يريد، ليدرك من نفسه أنّ الموت هو من يحجب ببرنسه كلّ ما يقول، وأن لا أحد سيستطيع من أجله شيئا بعد الآن، هو من غيّر مصائر الكثيرين من الفقر إلى الغنى، ومن الدعة والراحة إلى الشّقاء والضياع. فلا يتألم ولا يثور، وهو يرى أمامه هذا القلب الذي طالما لم ينشغل بصوته قطعة فحم تشتعل.
صامتا يستطعم لذّة العجز ليعود إلى هيئته الأولى، فقطعة فحم، حتى ضاع منه رأس العدّ، وهو يتلاشى ككبسولة دواء في كأس ماء!
لمّا اِستفاق أحسّ بيدها تخرج من داخل صدره تتقاطر بقايا الجليد من أصابعها.
– سامحيني! لم أعرف.
– الذي بذل روحه فتألّمت، ورقّت للبكاء لا ينتظر الاِنتقام. ما أنا إلاّ قلب ذاب!.. فانتظر حكمك واِصبر على ما سيصيّر الجماد داخلك صفاء.
– لا تذهبي أرجوك!
تلتفت مبتسمة وغير متشفيّة، وهي تعاود رجوعها إلى الدائرة اللّولبيّة حيث مكانها الذي لم يعد يؤلمها أن تقيم فيه كأنّها تقول: لا أملك أن أختار المراهنة على قلبك!
لتتركه لوهج السّؤال الذي لم يعرف لوعته، وذلّه، ولذته، ولا اِرتعاش الاِنتظار الذي ما جرّب نسغ دفئه ورحيقه إلاّ عندما عاود سائلوه الظهور، وسمعهم يعيدونه إلى الحياة: على كوكب في أقصى الكون ليذوق الحنين، ريثما يكتشف ذات صدفة!
قتلت جدتي
منذ فتحت عينيّ في هذا الوجود، وأنا أراها في مكانها نفسه، بعينيها المتسلّطتين، وبجلستها في وسط الغرفة تحيط بها لوازمها في نصف دائرة تكاد تمنع عنّا الحركة في الغرفة الصّغيرة: إبريق مائها وحذاؤها وشالها الذي تلفّ به رأسها من البرد أيام الشّتاء في كلّ مرّة اِحتاجت إلى الخروج. لكثرة ما أحسستها تملك كلّ شيء، كنت أسمع صوتها يخرج من أواني البيت، وجدرانه وأرضيته وهي تعلّق على غسيل، وطعام، ولباس وكلام أمي. لا يعجبها أحد، نسيت تفصيلا آخر مهم، أيضا، لم أر يوما اِبتسامتها!
لم تبهجها إلاّ عودة أبي مساء عندما يقبّلها قبل أن يذهب إلى المطبخ ليرى أمي. لا يمكن أن أنسى نظرة الاِنتشاء تلك، أبدا تنصبها ملكة بلا إكليل أو تاج.
تدخّلت حتى في شكل الكراريس التي نشتريها، وفي الأصدقاء الذين يأتون إلينا وكم من مرّة ألّبت أبي على صديقاتي أنهّن يفسدنني!
وأمي لا تعيرها اِهتماما كانت تحوّل تدخلها حيّة تقتطع كلّ يوم مزيدا من المساحات لسلطتها لتبسطها مفهوما ظلّ مضبّبا بذاكرتي عن التّوازن الأسريّ بأسئلة كانوا يستغربونها منّي عن وجودها معنا؟.. وعمّن يتصرّف في البيت؟. فلم تغفر لي أبدا يوم أن سألت أبي: لماذا يبقيها معنا ولا يأخذها إلى دار عمي؟
أقامت الدنيا وأقعدتها، واِتّهمت أمي علانيةً: كْلام كْبارنا عند صْغارنا.
والحقّ لم يكن لأمي مكان تجتمع فيه بنا منفردة، فكلّ البيت كان مطبخا يستحيل ليلا غرفة ننام فيها نحن الخمسة معها، وغرفة يتقاسمها أبي وأمي مع أختي وأخي الصغيرين. وعندما يئست من أن تسمع إجابة شافية قالت: إنّهم أخوالي!
لم تكن هذه الواقعة إلاّ بداية صراع مرير لي معها بحكم أنّي أكبر إخوتي وأوّلهم إدراكا بالأمور، وبحكم ما كنت أتعلّمه في المدرسة التي أزعجها خروجي إليها يوميا.
أدركتُ ذلك باكرا ممّا بذلت من جهودٍ لإبقائي في البيت حتى أنّها ذات سنة تمارضت، وهي متأكّدة أنّ أمي ستستبقني في البيت لمساعدتها! فإذا اِجتزت شهادة التّعليم الاِبتدائيّ أعلنتها صراحة – إنّ ساقيها صارتا أطول من ساقي أمها فأيّ عار يلحق بنا أن تخرج اِمرأة في طولها للشّارع كل يوم، أن تقرأ “البراوات[3]“، فهذا ما لم تلحق إليه فتاة في العائلة قبلها.
وقتها رمت أمي بصبرها، وطول بالها في حفرة لا بدّ أنّها كانت تنثل ترابها كلّ هذه السّنين وقالت: ما زلت شابة، وقادرة على بيتي وأولادي!
أمّا أبي فكما تعوّد قبّل رأسها، وبهدوئه أكّد أنّني ممتازة ولن يغفر له الله لو حرمني من العلم لتسكت عن الكلام وقتها، وتبدأ سلاحا جديدا لم أكن أحسب أنّها تقصده. فهي في ظنّي من السّذاجة التي لا يمكن أن توصلها إلى ربط كلّ ما فعلت بالماضي، لكنّي فهمت أنّ الحياة الإنسانيّة تعلّمنا الكثير عن علاقات القوّة والتّسلّط بين البشر، وأنّ كلّ ما نقرأه من تحليلات علم النّفس، في الحقيقة، لا يفعل سوى يحلّل أسباب الصراع، ويطلق مسميّات لمراحله ويقترح بعض الحلول لتجنّبه: ففي أيام لم أجد بعض كراريسي، واِضطّررت أكثر من مرّة لإعادة تدوين دروسي، وفي أيام أخرى كانت تمزّق صفحات من كتبي ترمي فيها أظافرها؛ لأنّه لا يجوز أن تبقى الأظافر دون دفن، بكلّ برود أجابتني لمّا قلت يا جدة هذا كتاب!
حين يئست من أن يوصلها هذا إلى هدفها، صارت لا تفوّت مدح كسرة اِبنة عمتي والعشاء الذي جهّزته اِبنة عمي حين أنجبت طفلا ذكرا، واِشترى لها زوجها محزمة[4]، مرصوصة حبّاتها الثلاثون واحدة بجانب الأخرى، لاعنة هذه الكتب التي لا تلقى أين تضع أقدامها منها، كانت تقصد بما لا يحتمل الشّك ضربي في عمق أنوثتي.
لتظهر كلّ نقمتها بكلّ فتنتها، ودون ستر، حين حزت على البكالوريا، في هجر البيت. لم تقصد البيت الصيف كاملا، قسّمت أيامها بين بيت عمي وعمتي بحجة أنّها لا تطيق سكنى العمارات الحارة صيفا، مع أنّ عمي وعمتي سكنا سنوات من قبلنا في عمارات.
لم ألمها، ولم أطلب منها ما لم تعطنه يوما، فهي مرجعيّة الحقد في خارطة ذاكرتي:
لم أسمع منها إلاّ حكايات تسخط فيها على كلّ سلفاتها، وكلّ عائلة زوجها، وبسبب حكاياتها التي رسمت النّاس غيلان يأكلون الوحيدين والنساء، كرهت كلّ أقاربي.
لم تتزوّج بعد جدي لأنّها رفضت أن يشمتوا بها، وأن يرسموا لها صورة اِمرأة أضعف من أن تربي أطفالها، فرفضت مساعدتهم، وعلّمت أطفالها، أنّ أعمامهم يكرهونهم لتحكم تطويقها لهم، وبسبب سلبياتها عطّلت رحيل أبي إلى المدينة ليزاول دراسته.
– إنّ حفظ القرآن الكريم كاف، وهو بركة ستقويه على حماية الأرض ومظاهرة عمه بقطعان الغنم والبقر.
الحمد لله أنّ الحلم كان يسرقه في غفلة منها، فأصرّ على إدخالي إلى المدرسة.
وهكذا اِنتقل أبي إلى المدينة حيث تزوّج أمي التي سمحت لها بهدوئها أن تتدخل في كلّ شيء بما في ذلك الهدايا التي كان يحابي بها الأهل في الأعراس. وإن أظهر اِنزعاجا لم تمل من إعادة قصة ترملها، وتضحيتها من أجلهم (أولادها) فأولى بها لو تركتهم خدما عند زوجة عمهم.
هدوء أمي نفسه ما هيّأ لها أنّها يمكن أن تسيّرني في الاِتجاه الذي تريد. فقد أعمتها سيطرتها أن تدرك أنّها لم تكن إلاّ تمنحها فضاء تتفادى الدخول معها في صراع لم أسع بيفاعة اِندفاعي لاِجتنابه. لم تغفر لي أبدا أن أفلتّ من قبضة سيطرتها فوصفتني بسبب أو دونه مع أيّ قريب يزورنا: أنّي كالبركة المكدرة لا تصفو أبدا، نصف “فولة” من أخوالها: لا يعطونك حقّا ولا باطلا. حتى لا تسمي أمي، هكذا فسّرت جدتي صمتي وصلابة شخصيّتي.
كان صراعا خفيّا علّقته على حبال جهلها واِحتباس قدرتها عن فهم كلّ ما يحدث جديدا، فلا يمكن لها بكلّ حال من الأحوال أن تلمّ به. وجففته مرّات على حبل الخوف من الله حينا ثانيا كما قالت أمي لأتجنّب “دعاوي شرّها”.
إنّما ما رددت به لاحقا على ما فعلت من محاولة إبعادي عن مجال سيطرتها بتزويجي، أكّد أنّ ردّات فعلي الطفوليّة، كانت تشكّلني في صمت على هيئة فاجأتني أنا الأولى، لذلك لم أسأل من أين لي بتلك القسوة التي ظهرت كاملة عندما جاء حفيدها من اِبنتها لخطبتي، وكأنّه يرحمني من العنوسة، ولم أتجاوز الرابعة والعشرين، متنازلا أن قبل بي!
فأعلنت دون مواربة: إنّ هذا الجاهل، لا يناسبني.
شدّت سوالفها، ورفعت صوتها بالدعاء عليّ بأنّي لن أرى خيرا في حياتي وحق شيبتها وبركاتها.
كانت أوّل مواجهة حقيقيّة بيننا. أبكيتها، أو تباكت عندما قلت: كان الأولى بك أن تهتمي بصلاتك عوض أن تشعلي نارا ستحرقك.
أبلغت أبي بما حدث فثار وقرّعني، بل همّ إلى ضربي. كان يعرف كيف يسكت غضبها بذاك الحبل السّريّ من الخضوع لها يعرف متى يستعمله: حبل لا ينقطع بينهما رغم ما حدث من تغيّرات يعرف، عن طريقه كيف يزرعها أمانا: أن لا أحد يملأ مكانها في قلبه وحياته، ويسعدها ذلك، في أيّ صورة كان يسعدها.
لم يؤلمني ما فعل أبي معي فقد قوّتني هذه المواجهة، إذا ضربت فيها سيطرتها ضربة زلزلت ما كانت تفرضه من اِحترام يلجم الآخرين بعدم التّعقيب على ما تقول، موحية أنّ سنّها بركة أنعم الله بها على الجميع!
فمن قال إنّ الصالحين اِبتزوا النّاس، ولعبوا بعواطفهم ليحقّقوا ما يشاءون؟
على مرّ الزمن اِعتزل الصالحون النّاس وفتنهم، وهربوا بصفائهم إلى الله قانتين، لا يتدخلون في تسيير حياتهم التي لم تعد تعنيهم.
وقتها عارضني الجميع مرتكزين على أنّها كبيرة، وبركة العائلة! ولم أكن ضدّ هذا كلّه. فقط أرفض أن تريني الحياة بعينيها الصّغيرتين، واللّتان صارت تضع عليهما نظارة.
مع ذلك اِستطاعوا أن يحرّكوا مؤشر التّأنيب داخلي، لكنّ شعوري الخفيّ بالتأنيب لم يوقف الحرب بيننا، وهي لا تخلد إلى الاِستسلام من بعد أن جاوزت الثمانين وصارت لا تقدر أن تصلي واقفة، ولا تقوى على تحمّل ماء الوضوء. فقط حافظت على نقودها فلم يعدّها أحد غيرها، ولم تنس يوما أين وضعتها مع أنّها كانت تنسى أسماءنا وتخلطها. واِجتازت نوبات المرض بكلّ قوّة، قوّة لمستُ حديد ركائزها يوم تصدّت لتلك الحمى التي كانت تهزّها من تحت تلّ الأغطية الموضوعة فوقها، وجميع أبنائها وأحفادها ينتظرون أن تلفظها الحياة.
لقد لمست وقتها أكتاف سرّ تلك الرغبة في السّيطرة والاِستمرار، إنّها الرّغبة نفسها التي أشعلت داخلها جذوة حب الحياة والتّمسك بها بشكل ملفت للاِنتباه.
وهي نفسها ما يجعلها ترفض الخضوع كما يظهر في كلامها، وقرارتها بشأن بعض الأقارب، حتى بناتها، مصرّة على التّمسك برأيها، فيسري كرأيٍ قاله أحدهم واِختطفه الموت، فلا يمكن لأحد بعده أن يجري عليه أيّ تعديل.
– هل كنت معجبة بها؟
لم أسأل عن ذلك يوما فقد شغلتني مقاومتها العلنيّة أحيانا، والخفيّة أحيانا أخرى عن الاِهتمام برأيها فيّ، أو ربّما لأنّه أوضح من أن تشغلني الإجابة عنه.
فقد رفضت أن أفحصها، وأن تشرب دواء أكتبه في لحظات ألمها الصّعبة، لم تتنازل ولم تشف من كبريائها المريض. كان موقفها ذاك آخر نقطة وضعتها داخلي لأنهي وجودها في تلا فيف دماغي.
لم تكن علاقتنا علاقة حفيدة بجدة يمكن أن تختلفا لشيء أو لآخر، وتتصالحان فتصلّبها أعاقني بقيود صمتها وتحجّرها، منذ صغري أن أقبّلها مستسمحة إيّاها كما رأيت أبي، وكما يفعل كلّ أحفادها، بل هي صراع وجودين وحياتين لم تقدر إحداهما على التأقلم مع الأخرى.
هل أنا صورتها التي رفضتها، فلم أفهم يوما كيف تقبع أمامي صامدة وتريدني أن أذعن لها؟
الحق فهمت مبكرا أنّ ما يزعجها بعمق أنّي لست اِستمرارا لها، فكم أدارت وجهها وأنا أضع مكياجي أو أشاهد فلمًا: فحين لا تفهم لغته أو تفاجئها قبلة في إحدى لقطاته، تتمتم مستغفرة: كيف لا يؤدبني أبي أو أخي؟
لمّا وصلنا هذه المرحلة لم أعد أسمعها ولا أراها وكأنّ غرفتها لم تعد موجودة في البيت! حتى أيقظني أبي ليلة يرجوني أن أفحصها.
حبّا فيه أخذت لوازمي ودخلت، لكنّها أشاحت بوجهها عنّي. ولم أمرّضها، ولم أفحصها بكلّ التّحدي الذي يسكنني غذّته طوال حياتها.
الغريب أنّهم عندما أعلنوا وفاتها، بكيت بكاء مرّا!
[2] ممرّ ضيّق بين مبنيين.
[3] الرسالة بالعامية الجزائريّة.
[4] حزام يتشكّل من دراهم ذهبيّة، تزيّن به النساء فساتينهن في بعض المناطق.