تاريخ الآخر كوسيلة للهيمنة الغربية
في كتابه "سرقة التاريخ" يبين المؤرخ والأنثروبولوجي الإنكليزي جاك غودي أن أوروبا بدأت تبسط هيمنتها على العالم منذ مطلع القرن السادس عشر، بعد أن كانت متخلفة مقارنة بالشرق الأقصى، ولا سيّما الصين التي كانت حتى بداية القرن التاسع عشر أكبر مصدّر في العالم، مثلما كانت في طليعة التقدم في المجالين العلمي والتكنولوجي حتى أوان النهضة الأوروبية، فقد كانت البحوث العلمية والصناعية ثانوية في ذلك الوقت بسبب طغيان الكنيسة، ولم تظهر تقاليد جديدة إلا زمن النهضة، الذي تميز بالاختراعات والاكتشافات وانتشار فنون الرسم الكلاسيكي المستوحى من العصر القديم، غير أن الأوروبيين درجوا على تجاهل ما حققته الأمم الأخرى عبر التاريخ، والتأكيد على التفوق المتواصل لنموذجهم الثقافي منذ العصور القديمة إلى الآن، منكرين دور المشرق العربي والصين في النهضة الأوروبية. ويذكر غودي أن تلك الهيمنة لم تقنع بالاستيلاء على الأراضي، بل تعدّته إلى فرض الزمن (زمن غرينيتش) والفضاء (مسقط ميركاتور المستعرض)، وحتى على التاريخ القديم حيث طرحت نفسها كوريثة مباشرة للعصور القديمة.
بل إن أوروبا في رأيه استحوذت على مفهوم النهضة، فنسبت ابتكارها إلى نفسها، والحال أن مفهومي النهضة والتجديد حاضران في عدة مجتمعات متطورة، إذا ما رمنا كتابة التاريخ انطلاقا من الماضي. ويضرب أمثلة على ذلك بالعالم الإسلامي في العصر العباسي ما بين القرنين الثامن والثالث عشر، حين تمت ترجمة النصوص العلمية اليونانية إلى العربية، ما سمح بظهور علوم إسلامية ومعارف تمّ نقلها من بعد إلى الغرب؛ وبالأندلس من خلال بناء مكاتب ضخمة مزودة بالورق الصيني الذي لم تكن أوروبا تعرفه في ذلك الوقت.
وكذلك بالهند، في عهد امبراطوريتي مايورا ما بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد، وغوبتا ما بين القرنين الرابع والسادس ميلادي، حيث ظهرت نهضة قائمة على الأدب الفيدي (نسبة إلى فيدا، وهي مجموعة الكتب المقدسة لدى الهندوس ) وكذلك في الصين في عهد سلالة صونغ التي حكمت البلاد من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر، وإعادة الروح للتعاليم الكونفوشيوسية الكلاسيكية، فالمؤرخون يصفون تلك الفترة بالنهضة الصينية التي جاءت بالبوذية الجديدة ومكنت من إعادة قراءة كونفوشيوس، مع تجديد في الفنون والعلوم والتكنولوجيا كان له أطيب الأثر في المجال الاقتصادي.
فالغرب مَدين لكل تلك الثقافات المكتوبة في مختلف أوجهها: الإسلام لنقله المعرفة اليونانية وتطويرها، والهند لعلومها الرياضية ومنظومتها الحسابية، والصين لإضافتها العلمية والتكنولوجية (البارود، الطباعة، الورق، الخزف، الحديد). وهي إسهامات غالبا ما تجاهلها المفكرون الغربيون، زاعمين أن التبادل كان في اتجاه واحد، من أوروبا "مركز العالم" إلى الأطراف، والحال أن النهضة الأوروبية ما كانت لترى النور لولا المعارف التي جاء بها العرب، وما كانت لتشهد التطور الرياضي لولا المبتكرات الهندية، ولا العالم الحديث لولا المخترعات الصينية.
"آلة الزمن" لسيرج غروزينسكي
وفي السياق نفسه، يذكر المؤرخ الفرنسي سيرج غروزينسكي في كتابه "آلة الزمن" أن سنة 1517 شهدت تصدع أوروبا بسبب الحركة الإصلاحية التي قام بها مارتن لوثر، مثلما شهدت استيلاء الكونكيستادورس الإسبان على المكسيك واحتلالها وتنصيرها، وكانت بداية طريقة الغرب في كتابة التاريخ.
فالمنتصرون كانوا يجهلون كل شيء عن المجتمعات المحلية، والحال أنهم كانوا ملزمين بمعرفة عادات المهزومين وماضيهم كي يفرضوا قانونهم، ولكن أنّى للإسبان، المقولبين ذهنيا في أوروبا مسيحية ذات تاريخ كرونولوجي موجّه عقديا، أن يتصوروا ويقبلوا كوسمولوجية أمريكا الوسطى؟ في ظرف بضعة عقود من السنين، سعت آلة الزمن لدى المغتصبين أن تمسك بذاكرة الهنود الأمريكان لتصنع لهم تاريخا يمكن ربطه بتاريخ المسيحية القديم، وبذلك تحللت لدى الهنود ذكرى العالم الذي كانت فيه الكائنات والأشياء والآلهة مترابطة بمرور الأجيال، رغم أن بعض المخطوطات لا تزال تحتفظ بجانب من أسرار ذاكرتهم.
ويصف غروزينسكي تلك المرحلة من القرن السادس عشر بالعولمة الإيبيرية، لأنها تميزت بتقارب كبير بين مختلف القارات، حيث بدأ البشر والأشياء والأفكار والمعتقدات تتنقل لأول مرة على نطاق عالمي، ولم يعد البشر يفكرون بطريقة محلية أو جهوية أو قومية بل بطريقة شاملة، وكانت كتابة التاريخ في صميم دينامية العولمة تلك. وللسيطرة على مجتمعات كانت لا تزال مجهولة حتى ذلك الوقت، لم يكتف الإسبان بالسيطرة عليها عسكريا، بل صنعوا لأهاليها ماضيا، أي أنهم أقاموا هيمنتهم عن طريق كتابة تاريخ الآخرين، ودشنوا عهدا من المجانسة بين الفضاء والزمن، كما بين جاك غودي.
وكان المؤرخ البريطاني قد فسر كيف كتبت أوروبا تاريخ بقية العالم، وربطته بتاريخ المسيحية لتفرض تصورها من بعد على كل البلدان المغزوّة، وتشكل بالتالي قراءة موحده للتاريخ، ثم فرضها كسردية عالمية. ويذكر كيف أن التاج الإسباني سرعان ما أدرك أن السلطة وثيقة الصلة بالمعرفة. لذلك، شرع بعد احتلال المكسيك، أي في حدود 1530، في الاستنجاد برجال الدين لجمع معلومات عن الأهالي، بهدف استغلال العالم الجديد استغلالا واسعا، حتى أن أحد المبشرين يقال له موتولينيا ممن عهد لهم بالتأريخ، عقد عدة مقارنات بين ما سماه جروح مصر وفتح العالم الجديد، وبين تدمير أورشليم ومكسيكو لكي يدمج الغزو الإسباني في السردية التوراتية الكبرى. أي أن الأوروبيين لم يكتبوا الماضي كما نعيد كتابة البرامج المدرسية، بل فرضوا تاريخا ذا خلفية مسيحية وأدخلوا حاضنة جديدة وأنماطا غير معهودة من التفكير.
جاك غودي: تزوير التاريخ بدأ مع الكونكيستادورس الإسبان
فالإسبان مثلا أدخلوا الهنود الأمريكان في كرونولوجيا جديدة هي التقويم المسيحي، مع ماض يبدأ من العام صفر، وتصوُّر للزمن ينقسم إلى ماض وحاضر ومستقبل، أي أنهم أرغموا الهنود على أن يروا عالمهم من خلال النظرة الأوروبية، فهمشوا أنماط التعبير المحلية، واستولوا على مخيالهم. ولعل أحد ركائز مسعى تغريب العالم هو بلورة الكلمة في شكل كتاب، ما جعل المكتوب يربك المخيال الذي كان سائدًا لدى تلك الشعوب. أي أن الأوروبيين، بفرضهم إطار تفكير محدد، استعملوا سلاحا رمزيا وثقافيا بالغ العنف، فاستعمروا تلك الشعوب نهائيا، وألغوا عالمها، فصارت لا تستطيع أن ترى نفسها إلا عبر مرآة الغرب، وكانت النتيجة أن دُفعوا دفعا إلى تقليد النموذج الأوروبي.
لقد كان القرن السادس عشر نقطة تحول: تاريخ مكتوب في أوروبا، من وجهة نظر أوروبية مسيحية، يفرض نفسه على مسافة آلاف الكيلومترات. ورغم مرور خمسة قرون، لا يزال جانب كبير من العالم يكتب التاريخ بالكيفية الأوروبية نفسها. وفي هذا يقول غروزينسكي: "لقد نجح الإسبان في إدخال شعوب مختلفة في تاريخ واحد، وجعل عدة قارات تعيش على الساعة نفسها والإيقاع نفسه حسب أنماط الحياة والتفكير ذاتها. من وجهة نظر أوروبية، نميل إلى اعتبار ذلك أمرا طبيعيا، بينما هو ليس كذلك. "
ومن ثَمّ، ظهر تيار جديد يدعو إلى نبذ المركزية الأوروبية وتوخي ما أسماه باتريك بوشرون أستاذ تاريخ العصر الوسيط في السوربون التاريخ الشامل. يقول بوشرون: "الدعوة إلى ممارسة التاريخ الشامل ليست تكفيرا عن ذنب، بقدر ما هي دعوة إلى أن نسلط نظرة نقدية على التاريخ كما كتب منذ قرون، أي وفق رؤية مركزية أوروبية، متصلة جوهريا بالمسيحية، ومبنية على انحراف استعماري، لنتبين أن تاريخنا ليس محايدا، وأنه فرض على شعوب كثيرة، وأن من الواجب أن نتحرى في ما تمّ تدوينه ولا نقبله بعلاّته."
وفضل هذه المنهجية في رأيه أنها تستجيب إلى شروط صارمة، منها تنويع التبئير، ومساءلة الزوايا التي يمكن أن ننظر من خلالها إلى الظواهر التاريخية. والغاية هي التخلص من المركزية الأوروبية، وكسر المركزية بوجه عام ومواجهة التعارض بين المحلي والشامل، لأجل توصيف العلاقة بين مختلف أنحاء العالم، منذ القرون الوسطى إلى الآن، دون مركّبات، ودون خلفيات، فقد بات اليوم جليا أن كثيرا من مؤرخي الغرب لم يتنزهوا عن الهوى، بل دونوا الأحداث إما بنيّة ربطها بالسردية المسيحية، أو خضوعا لأهواء الحكام وأطماعهم.
"فاسكو دي غاما" لسنجاي سوبراهمانيام
من ذلك مثلا الإيهام بأن السيناريو الخطي للاكتشافات الكبرى كان ناجما عن دفع حضاري كبير بدأ عام 1415 بغزو البرتغاليين لسبتة في المغرب، وانتهى عام 1520 باستيلاء كورتيس على مكسيكو، والحال أن الاستيلاء على سبتة لم يكن سوى حلقة من حلقات الصراع بين الممالك المسيحية الإيبيرية والممالك الإسلامية، وألا وجود لسببية بين علة ومعلول، ولا توالي أحداث مرتب بين نهاية الريكونكيستا، والالتفاف على السواحل الإفريقية للمرور من رأس الرجاء الصالح عام 1488، وعبور كريستوف كولومبوس المحيط الأطلسي، وجولة ماجيلان عبر العالم. من المغالطات الأخرى أيضا تصويرُ فاسكو دي غاما فاتحا عظيما تغنى ببطولاته كبار الشعراء في البرتغال من كامويش إلى بيسّوا، ووصفُه بالمغامر الشجاع الذي اكتشف رأس الرجاء الصالح، والفارس النبيل الذي أعاد للمسيحية مكانتها في ما وراء البحار البعيدة، في خلاف بيّن مع الحقائق التاريخية.
في بيوغرافيا عن البحّار البرتغالي صدرت مؤخرا بعنوان "فاسكو دي غاما – أسطورة نائب ملك جزائر الهند ومِحَنُه"، أكد المؤرخ الهندي سنجاي سوبراهمانيام أن العثمانيين والمماليك الذين سدوا طرق البر على البرتغاليين وسواهم هم الذين أرغموا دي غاما على البحث عن طريق آخر إلى جزائر الهند؛ وأن البحارة البرتغاليين عندما بلغوا المحيط الهندي لم يكتشفوا أرضا جديدة، بل نزلوا بأول فضاء "متصل" قبل العولمة، وقبل وصول الأوروبيين، إذ صادفوا هناك بحارة وتجارا عربا وصينيين وهنودا وفرسا وماليزيين؛ وأن الملك دوم مانويل الطامح قبل الإسباني كارلوس كوينتو إلى إقامة ملكية مسيحية عالمية، شجع دي غاما في رحلاته أملا في تحرير المسيحيين الضالين هناك من ربقة الإسلام والمسلمين، بينما كان البحار طامعا في ما يمكن أن يجنيه من تجارة البهارات، والترقي في سلم النبالة؛ وأنه لم يلق هناك غير المسلمين والبوذيين، ولكنه كان يعتبر كل من يصادفه من غير المسلمين مسيحيا، وعندما التقى عام 1498 براجا كاليكوت، وهي اللحظة التي خلدتها الميثولوجيا البرتغالية، ظنه ملكا مسيحيا، والحقيقة كما بين سوبراهمانيام أنه رجل بوذيّ كسائر الهندوس في تلك البقاع.
ولم يتخلف الأمريكان عن الإدلاء بدلوهم. في رده على ما عدده الأمريكي صامويل هنتنغتون في "صدام الحضارات" من قيم يزعم أن الغرب يطاول بها الأمم الأخرى، كالفردية والليبرالية والدستورية وحقوق الإنسان والمساواة والحرية وسيادة القانون والديمقراطية والسوق الحرة والفصل بين الكنيسة والدولة، علق مواطنه الأنثروبولوجي دفيد غريبر ساخرا أن "بالإمكان أن نضيف أيضا أن الثقافة الغربية ترتكز على العلم والصناعة والعقلانية البيروقراطية والقومية والنظريات العرقية ونزوع محموم إلى التوسع الجغرافي."
وذكّر غريبر، في كتابه "دَينُ 5000 عام من التاريخ"، بحقائق حرّفها المؤرخون في بلاد الغرب. أولا، أن اليونان لم تبتدع الديمقراطية، إذا اعتبرنا أنها تعني اتخاذ القرارات من قبل جملة أعضاء مجموعة ما، فقد سبقتها إلى تلك الممارسة شعوب كثيرة في الهند، وعبر المحيط الهندي، حيث كان التوسع التجاري الإسلامي ممزوجا بقيم تنسبها أوروبا إلى نفسها وحدها، كحرية التجارة واحترام القانون والتسامح الديني. أما ما جاءت به أثينا فيتمثل في الديمقراطية عن طريق الاقتراع، أي أن التصويت لا يتم إلا إذا رضيت الأقلية المنهزمة بالنتيجة، ما يعني وجود قوة رادعة، أي جيش، لا سيما أن الأثينيين كانوا جنودا بالأساس. ثانيا، أن الديمقراطية لم تكن هدفا منشودا في أوروبا طوال ألفَي سنة، ولم تصبح كذلك إلا بعد عام 1830 في فرنسا وبريطانيا العظمى، أي حينما انخرط هذان البلدان في سياسة إمبريالية، لا أثر فيها للديمقراطية.
وصفوة القول إن أوروبا حرّفت تاريخ الشعوب لفرض هيمنتها على العالم، وإن التاريخ الشامل الذي يدعو إليه المؤرخون النزهاء يستوجب قبول مواجهة كمّ هائل من الأرشيف ووجهات النظر واللغات والمؤثرين لكتابة التاريخ بشكل موضوعي، ينزّل الحضارات الفاعلة في كلّ الحقب منزلتها الحقيقية، دونما خلفيات أيديولوجية أو دينية أو عرقية.