تجربة عربية في ثقافة الأطفال
تُطلقُ الأسماء على الناس أو على الأشياء بسبب الشغف والحب، بالشخص أو بالشيء أو بالأسماء ذاتها؛ لكن الحبّ والشغف، على أهميّتهما، ليسا الحافزين الوحيدين للتسمية، فهما، وإنْ كانا ظاهرين للعيان، يكتنزان في دواخلهما حوافزَ أكبر، ذات ارتباطٍ وثيق بهدف تلك التسمية، وليس هناك من مثالٍ أدقّ على ما أقول من الاسم الذي اختارته الأديبة والناشرة الإماراتيّة اليازية خليفة لدار النشر التي أسّستها في أبو ظبي منذ بضع سنين: «الفُلك»، أي ما يعبر النهر ويمخر عباب البحر، وما يُحمّلُ على متنه لإيصاله إلى الضفة الأخرى، التي قد تكون ضفة الوصول إلى الدار أو إلى أرض النجاة، وهو، أي «الفُلك»، حسب جميع الكتب السماوية ونصوص الأساطير القديمة، ما أنقذ البشرية من الغرق والهلاك خلال الطوفان. التقينا اليازية خليفة في معرض الكتاب بتورينو الإيطالية، التي استضافت الشارقة، في هذا العام كـ«ضيف شرف».
اختارت هذه الناشرة اسم «الفُلكْ» انطلاقا من الالتزام والسعي لتعبرَ بالنشء الجديد والأطفال واليافعين من الجهل إلى المعرفة عبر الكتاب بأنواعه، مُمسكةً برأس الخيط في العُقدة، فلا تقدّم دون التعليمِ والمدرسةِ والكتاب، ولا مجتمع قادراً على الحياة في العصر الحديث دون ومضة النور المُشعّة من الثقافة، ورغم ما يدّعيه البعض في الكتاب، أو الثقافة بشكلٍ عام، ليس خبزاً يعتاش به البشر، لكنّهما في حقيقة الأمر، أي الكتاب والثقافة، مفتاحان ثريّان لإيصال البشر إلى مستويات أعلى ولتمكينهم من ضمان المستقبل الأفضل والكرامة والقدرة على الدفاع والذود عن تلك الكرامة وذلك المستقبل.
نشر مستقل
تقول اليازية خليفة الفلك للترجمة والنشر دار نشر مستقلّة، تأسّست في عام 2015 في أبو ظبي، وجاء ميلادها لسدّ فجوة الفراغ في إطار كتب للأطفال واليافعين تحديداً، وهذا ما دفعنا إلى التفكير بإثراء المكتبة العربية بإصدارات مترجمة من اللغات المتنوّعة، مثل الآيسلنديّة والإسبانية والهولندية والإيطاليّة والكوريّة والفرنسيّة، وفي المستقبل القريب اللغة الألمانيّة واليابانيّة”، وتُضيف “الهدف هو أثراء المكتبة العربيّة وتوعية الطفل العربي وتعريفه بتنوّع الثقافات على المستوى العالمي، كما أنّ هدفنا الرئيسي هو تعليم القرّاء الناضجين والوالدين بكيفية تحبيب القراءة إلى الأطفال الصغار من إلى حدود 4 سنوات؛ لأنّ أبناء وبنات هذه الفئة العمرية يحتاجون إلى حضن، وإلى شخص يجلس معهم ليقرأ لهم قصة، وإذّاك يُصبح ارتباط القصة والقراءة ارتباطاً عاطفياً، وليس مجرّد ارتباط مدرسي أو منهجي، وبالتالي يبدأ الطفل بالانفتاح على القراءة والكتاب ولا يمانع ولا يهاب تصفح الكتاب”.
وتُضيف اليازية بأن “فكرة الدار جاءتنا لأنّنا لمسنا هذه الحاجة، فسعينا إلى تحقيقها، اخترنا اسم ‘الفُلك’ لأنّنا نؤمن بأن سيدنا نوح تمكّن في يومٍ من الأيام من إنقاذ البشرية، لذا فإنّ الآصرة مع العلم والكتاب والتمعّن في القراءة هو ما سيُنجي المجتمعات اليوم، فالقراءة الواعية تُتيحُ تفهّم وضع الآخر وتسمح لنا بإدراك سبب وجودنا في هذه الحياة”.
بحثا عن الفانتازيا
تلك أهميّة القراءة والكتاب، وكان بمقدور اليازية أن تواصل الكتابة وإنجاز الكتب للنشء الجديد ولليافعين، لكنّها اجتازت ذلك لتُصبح ناشرةً لهذا النوع من الكتب، ولم تكن مدفوعةً في ذلك فقط بالرغبة لإنجاز مشروع استثماري، بل بضرورات ذات صلة بشغفها وباحتياجها إلى فضاءٍ جديد لهذا النوع من الكتاب، وتقول “قبل أن أكون ناشرةً، أنا في حقيقة الأمر قارئة ومُطّلعة، أتممت الدكتوراه في عام 2013 عدْتُ إلى البلاد وشعرت بفجوة، لأنّ الدكتوراه تتطلب الكثير من قراءة وإعادة تحرير الكلام والكتابة، وشعرت مباشرة بالحاجة، فمنذ أن رجعت افتقدت المراجعة والكتابة، وافتقدت الورقة والقلم؛ بعد ذلك شاركت في ورشة عمل ‘كتب صنعت في الإمارات’ بتنظيم كل من ‘المجلس الإماراتي لكتب اليافعين’ ومعهد ‘غوته’ الألماني، وكانت الورشة تحديداً عن كتابة روايات ‘الفانتازيا’، ولكوني أساساً أكاديميّةً فقد بحثت عن تلك الكتب ولم أحصل على أيّ عنوان عربي في ‘الفانتازيا’، لا أبالغ إن قلت -في تلك الفترة- لم تكن هناك كتب لهذا الصنف الإبداعي لدينا إطلاقاً، وقد كانت هذه هي الصدمة الأولى بالنسبة إليّ، أما الصدمة الثانية فقد كانت عندما قرّرت الاطلاع على محتوى أدب الطفل العربي، أولاً في مكتبتي، فوجدت بأنّ تلك الكتب باللغة العربية قليلةً للغاية، كان أهمها سلسلة ‘الليدي بيرد’ وهي سلسلة مترجمة لكلاسيكيات أدب الطفل العالمي، مقارنةً بما تضمّه مكتبتي من عناوين إنكليزية وألمانية، وعثرت أيضاً على مجموعة فرنسية أيضاً، فصُعقت أنْ أكتشف بأنّ مكتبتي الخاصة لا تحتوي على كتب عربية متميّزة في هذا الإطار. ثانيًا، انتقلت للبحث في المكتبات المجاورة، تواصلت مع دور النشر وبدأت بالكتابة للأطفال، قرّرت أن أبدأ بكتابة مجموعه قصص قصيرة مصورة وأخرى في فصول، كما بدأت برواية ‘الفانتازيا’ التي لم أنشرها حتى الآن.
- لكن هناك موقفٌ مُحدّد حفّزك إلى المبادرة بتأسيس دار النشر؟
- نعم، لقد حدث ذلك عندما قدّمت مسوّدة القصة الأولى إلى ناشر، نظر إليها بينما كان يتحدث معي، وأنا مُتعجّبة لِمَ لا يدخل في صميم الموضوع ويناقشني في مسودّتي، ولكنه لم يفعل، فسألته ما إذا كان قد قرأها أم لا، فأجابني، ‘كلاّ، أنت إماراتيّة وسننشر لك القصّة’، فأجبته، ‘لأنني إماراتية، لن تنشر لي قبل أن تقرأها! وسأعود إليك مرّة أخرى’. بعدها عُدتُ إليه حاملة معي مجموعة من القصص المصوّرة التي كنت أحتفظ بها في مجموعتي الخاصة، وهي إنجليزية، ألمانية وفرنسية فنظر إليها وشعر أنّه بإزاء مستوى عالمي وليس مستوى محلّي أو عربي”.
خوض المغامرة
تضيف اليازية قائلة “في تلك اللحظة جُرحت، فإذا لم يكن بمقدوري أن أرفع سقف أهدافي وطموحي وأن أٌنتج كتاباً بهذا المستوى، فلماذا ينبغي أن أكون في السوق، فاختلفنا، ثمّ بدأت بالبحث عمّن يستطيع نشر قصتي عبر ترجمتها إلى لغة أخرى، وانتهى الأمر بي إلى اتخاذ قرار بتأسيس دار نشر متخصصة بالترجمة، لطرح محتوى متميز متنوع برسوم مختلفة، ولتكون هناك ترجمات لهذه القصص العالمية باللغة العربية، كي تكون مرجعًا لمن أراد الكتابة أو الرسم لأدب الطفل”.
تفخر اليازية بأن تكون «الفُلك للترجمة والنشر» لها قدم السبق في الإمارت أو في الخليج، وربّما العالم العربي لإصدار “الكتب الصامتة” وهي كتب مرسومة من دون كلمات، بدءا بكتاب لرسامة بريطانية عام 2016، ثم إصداران صامتين من كوريا الجنوبية عام 2017
لم يقتصر عمل اليازية خليفة على تأسيس الدار أو الترجمة، بل تعدى ذلك إلى البحث عن الطاقات الفنّية والإبداعية التي يمكن أن تُسهم في تحقيق مسار متكامل، وتروي عن كتابٍ اقتنت حقوقه من دار نشر «لاتيرتسا» الإيطالية، حين اكتشفت عجز الرسّام الإيطالي عن تحقيق رسم وجوه أبطال القصّة، وتقول “كانت جميع الشخصيات مرسومة إمّا بشكلٍ جانبي أو من الخلف فانتقيت الكتاب ليرى الرسام العربي أنه قادر على تجاوز نقاط ضعفه في الرسم عن طريق التركيز على أشياء أخرى كرسم تفاصيل البيئة المحيطة مثلًا”، وتُطلق الناشرة الإماراتية ما يُشبه النداء إلى جميع رسّامي الكتب المصوّرة للأطفال “أناشدكم بألاّ تحصروا أنفسكم في نمط مُحدّد من طرائق الرسم، بل أوجدوا نمطكم الخاص”.
وتُشير اليازيّة خليفة إلى كتابٍ آخر اقتنت حقوقه وهو «أوتولاين» للرسّام والكاتب البريطاني كريس ريديل “وقد تمّ اختياره ضمن المجموعة الأولى من إصدارات الفُلك لأنني لمست في جميع ورش العمل التي شاركت فيها بأن الأغلبية الساحقة من العاملين في هذا الإطار متأثرة إمّا بـ ‘المانغا’ اليابانية أو بـ«الكوميكس» الأميركي، لكن من يتصفح كتب كريس ريديل يدرك تماماً بأنّ هذا الشخص بريطاني ومعنيٌ بالنمط البريطاني في تفاصيل رسومه، حيث يغلب عليها وجود كلمات وجُمل متناثرة ضمن الرسم ذاته، كما أنك حين تتصفّح أحد كتبه ترى شوارع لندن، وساعاتها، وشاي ما بعد الظهر!”.
بين النشر والكتابة
بالإضافة إلى شراء الحقوق وترجمة الكتب، تميّزت دار «الفُلك» عن غيرها أيضاً بكونها صارت تبيع هي الأخرى حقوق النشر، فتقول اليازية “في جميع لقاءاتي مع دور النشر الأجنبية كُنتُ أُواجهُ بهذا السؤال ‘أنت تأتين إلينا لشراء الحقوق، وماذا عنك؟ لماذا لا تبيعين الحقوق؟’. لذا قرّرت الإقدام على الخطوة التالية وهي أن أبيع الحقوق من دور نشر أخرى، فالفُلك في تلك الفترة لم تكن تنتج محتوى خاصا بها، فأصبحت وكيلة أدبية، والآن لدينا ما بين ثلاث أو أربع دور نشر نمثّلهم على المستوى العالمي”، وتُضيف “وقد قرّرنا في ‘الفلك، للترجمة والنشر’ بالبدء بإصدار منشوراتنا، انطلاقًا من مسودّاتي التي كانت جاهزة ما بين 2013 و2014، ولا أعلم، بعدُ، ما إذا كان ذلك إيجابيّاً أم سلبيّاً”.
لم تكتب اليازية في الآونة الأخيرة كثيراً، ويبدو أن العمل على تأسيس دارها وتكوينها وتمكينها من دخول معترك سوق الكتاب، قد أخذ من وقتها الكثير وتقول “أنا اليوم لم أكتب شيئا جديداً، وما نُشِرَ في ‘الفُلك’ هو من كتاباتي السابقة، وما ركّزت عليه في الشهور الماضية هو البحث عن رسّامين، وسعيتُ إلى العثور على رسامين إماراتيين للعمل معهم”.
تجربتها الأولى، بكتاب «عندما يُفكّر الهواء» لم تكن بمستوى ما تطمح إليه “لكنّ التجربة الثانية، وكانت مع الرسامة علياء البادي ذات الرسم المتميز والشخصية المتطورة جدا، والتي تُتقن رسم صور لأفكار متسلسلة للقصة، بينما كُنتُ أُنهك في إفهام الرسّامين الآخرين بشرح أهمية التسلسل البصري عند الرسم للأطفال، واختزال النص في حد ذاته في هذه الرسومات”.
مشروع ريادي
تفخر اليازية بأن تكون «الفُلك للترجمة والنشر» لها قدم السبق في الإمارت أو في الخليج، وربّما العالم العربي لإصدار “الكتب الصامتة” وهي كتب مرسومة من دون كلمات، بدءا بكتاب لرسامة بريطانية عام 2016، ثم إصداران صامتين من كوريا الجنوبية عام 2017، وحول هذا تقول “وبعد ذلك وُفّقْنا في إنتاج ثلاثة إصدارات إماراتية من الكتب الصامتة لعلياء البادي وعائشة البادي ولي كذلك”، وتُضيف “قصتي الصامتة ‘أبي لا تكسر قلبي’، رسمتها بنمط خربشات الأطفال الصغار، والفكرة بسيطة أيضًا، لأن الرسالة الحقيقية هي للآباء؛ فبطلة القصّة فتاة تحاول الرسم، لكنّها عصبية المزاج، ينكسر القلم وهي ترسم صورة قلب إلى جانب صورة والدها، ما يدفعها ذلك إلى تقطيع وتمزيق الورقة التي رسمت عليها، وحينما أدركت بأنّها مزّقت صورة والدها سعت إلى إعادة ترميم الصورة، فبدأت في تصميم كولاج ممّا مزّقته، ثمّ فكّرت بأنّ تترك رسالة إلى والدها على كرسي القراءة خاصته، فألصقت ما قطعته من رسمتها، مع عددٍ من القلوب، لتصل في النهاية إلى خلاصة القول: أبي لا تكسر قلبي واقرأ لي”.
وتختم اليازيّة خليفة حديثها معنا بالتأكيد على أهميّة هذا الكتاب بالنسبة إلى الدار وتقول “لقد قدّمنا الكتاب في عدّة جلسات للقراءة، فوجدنا بأنّ الأطفال باشروا في الحال برسم رسائل إلى آبائهم، فحدث ما لم أتوقعه، عندما وصلني رسم من طفلة لأفراد متناثرين على الصفحة، لا يجمعهم شيء وعلى ركن الصفحة كتبت جملة ثم لونتها بالبني والكحلي والرمادي، تطلب فيها من والديها أن ينظروا إليها! هذه الصورة جعلتني أشعر بالمسؤولية أكثر، فعلى الآباء أن ينظروا إلى رسوم أطفالهم، وما أطمح إليه هو أن يُدرك الآباء بأنّ القراءة مع الأبناء ليست مُجرّد تصفّحٍ لكتاب، بل هي مشاعر من الاحتواء والحنان والحب بينك وبين ابنك”.