تجربتي مع محمد ديب
ما كتبه محمد ديب طيلة مساره الإبداعي يُرَسِّخ فكرة جوهرية عن الانخراط الكلّي والشامل في تجربة وجودية تستغرق الكاتب وتستنفذه عبر عملية خطف طويلة، لتحوِّله إلى كائن يقف بين هاويتين، ويلتبس وجوده الحقيقي بوجوده التخييلي، حيث الانصهار التام بين الذات وامتداداتها المتجذّرة في تربة القول، وبين شخوص المبدع وأقنعته والعوالم والكائنات التي يخلقها، إذ لا نستطيع الفصل بين الإنسان محمّد ديب وبين نصوصه التي تمثِّل شهادته المحرقة عن عبوره في هذا العالم، وعن تأويله لحيثياته من خلال إبداع مُتَطَلِّب وعميق امتدَّ سنوات طويلة، عاشها الكاتب متنقّلا في الجغرافيات الحقيقية والمتخيَّلة.
إذا كان محمد ديب معروفا أكثر كروائي، فإنه شاعر في الأصل، يقول “أنا في الأساس شاعر، ومن الشعر جئت إلى الرواية، لا العكس”. فالنّصوص الأولى التي كتبها كانت شعرية، وعالمه الّذي أسّسه عبر السرد هو في جوهره شعريٌّ، أي إنّ مقاربته للعالم، وحساسيّته الأوّلية هي شعرية، لكن حدث نوع من النسيان لمحمد ديب شاعرا، نسيان ساهمت فيه الحالة العامّة للتلقّي الذي يستسلم للسهولة التي تخطئ عادة في ضيافة الأعمال المقيمة في التخوم.
خطر على الشعر
ويمكن أن نقول عن تجربة ديب الشعرية، ما قاله بارنار نويل عن جورج باطاي شاعرًا “ظلّ العمل الشعري لجورج باطاي مُهْمَلاً، لا لأنّ الجودة تنقصه، بل لأنّه يمثّل بكلّ تأكيد خطرًا على الشعر. فهذا العمل لا يعترض في الشعر فقط على الطرائق، إنّه يمزّقها، يُلَطِّخُها أو يجعلها عُرْضَةً للسخرية” (1).
هذا البُعْدُ المُدمِّرُ للشعر، والذاهب به، عبر التجريب إلى مراجعة مستمرة لتعريفاته ومواضعات مقاربته، هو ما يميّز اشتغال محمد ديب الشعري الذي لا يستقر على حال أو شكل أو تصور، بل يخاطر بترحيل متواصل للكتابة، بعيدا عن القبول بأيّ مهادنة أو استراحة تفقده حريّة المساءلة الملحّة والكيانيّة بانخراط جذري، يجعل من التجربة سفرا لا ينتهي، ومسارا لا يعد بالوصول.
الشعر هو دائما شيء آخر، ويأتي من مكان آخر، حيث لا ينتظره أحد إذ “لا وجود للشعر، هناك فقط شعراء وقصائد، حسب ما أراه، إن كنتُ وضّحت فكرتي بما يكفي. هي طريقة للقول إن على الشعرية، وليس الشعر، أن تُعيد تعريف نفسها كلّ مرّةٍ مع كل شاعر، ومرّاتٍ عديدة بعدد الشعراء والقصائد” (2).
هذا التصوّر للشّعر يخرجنا من الحدود المتوارثة لما سُمِّيَ شعرا، إلى أفق الكتابة المفتوحة، والتجريب المتواصل، ويمنح للشاعر حرية أن يفتح مسالك جديدة، ويوجّه بوصلته إلى ما يبقى مدهشا. هذا خيار محمد ديب الذي غامر فيه من ديوان إلى آخر، ومن رواية إلى أخرى، محتفيا بحضور الذات وتحولاتها.
الكتابة هنا حفر دؤوب في تجليات العالم، واختبار محموم لمحاولة إيصال رؤية الشاعر دائما إلى ضفاف جديدة.. عالم محمد ديب لا يجد كماله إلا في كتابة رحّالة، لا تقيم. تتنوّع تمظهراتها وتتعدد زوايا النظر وموشورات الالتقاط، وتبقى الأقانيم المؤسسة هي ذاتها، ملتبسة بحضور الحب والموت، والتصوف والمرأة التي تُؤنِّثُ الوجود.
يبقى العطش قائما، وإذ تلوح من الضفاف الموحشة للجنون والغياب والموت علامات الضياع، تترسّخ فكرة الفقد، وتتحوّل التسمية إلى تعويذة، والكائن إلى أثر، لا تبقى سوى أسئلته وحيرته، حيث الصحراء باتساعها المرعب وازدحامها بالرموز، وفراغها المهيب، أين تتصادى الأصوات نابتة في شقوق الصمت ومستبسلة في مقاومة الزوال والتلاشي.
إنّ المعنى المتشظّي تتمّ مطاردته باللعثمة حينا، وبالعجز عن منح الحروف والكلمات دلالاتها، وبالمجازفة بإزاحات حادة للكلام إلى تخوم الهرمسية والغموض من خلال صياغات خيميائية تشفّ لتنحت قواما لدنا ولدنيًّا، لا تسعه الجملة التي تتقشّف وتزهد، مكتفية بالتلميح والإشارة. وهنا تنبع الكثافة من تكثير الجسد وفتح حواسه كلها على تشرُّب فاتن لكل ما يلمسه. هي كتابة تماسٍّ مع العالم وجَسٍّ إيروسيٍّ له عبر اللمس الّذي ينتهي إلى الوحدة المطلقة، حيث لا لغة ولا كلام يبقى سوى المحو المفتون بالتحول والممهور لأعراس الشبق المفتوح على معجزات الكائن، وهذا ما يتجلى خاصة في “إيروس شامل الحضور” و”نار، نارٌ جميلة” و” يا يحياء”.
الجسد، العالم، اللغة
تتوغّل شعرية محمد ديب في كثافة يتواجه فيها الجسد بعنف مع العالم واللغة، ويتصاعد الإيقاع المحتدم للتجربة فتضيق العبارة، تصبح إشارة وإيماءة، تأخذ من التراوح والتناقض بين الإيروس والتناتوس معلمها وتخطف ميسمها، إذ يغزو النّفَسُ المتوتّر الإيقاع ويشفّ الصمت ويتقشّف التركيب وتختفي علامات الترقيم. لتكون الكتابة لهاثا لا يُشْفَى ورقصا كونيا يدور في اتصال مع الكون لينتصر على المنفى ويختصر الصحراء في فجوة قد تكون رملا أو ثلجا.. تكون اتساعا يسحب الكائن إلى تيهه وتجعله يبحث عن المعنى بمعانقة النور الذي تدل عليه تجربة النزوع العرفاني، كأن ديب بروح الناسخ الأعزل يتوغل في بحث عن المطلق من قصيدة إلى أخرى، ومن عمل إلى آخر.
عندما يُلِحُّ محمد ديب في نصوصه على انتمائه للصحراء ولسلالة القادمين من ليل المعلّقات الجاهلية والنصوص الصوفية والميراث الشعبي والموسيقى، ومن علاقة حميمية مع البحر والرمل والثلج والصمت فهو ينأى بالضرورة عن المتشابه وعن مشهد إبداعي مألوف ومتطابق ليغامر في الأقاصي، وليؤسِّس لشعرية تستلهم العناصر الجوهرية: الماء والنار والهواء والتراب وتدمجها في ميثولوجيا بيضاء ونسيان فعال وتخييل خلاق معيدا الكون إلى أول الخلق والأرض إلى عذريتها الجوهرية، والبحر إلى مدّه وجزره التأسيسيين، والأمومة إلى رحمها النازف، والأنوثة إلى سحرها الغامض، وهذا ما وقفت عنده بتأن الناقدة نجاة خدّة تقول “اتجهت شعرية ديب ابتداء من ديوان ‘يا يحياء’ إلى الدقة والإيجاز بتأثير من غواية الصمت… هنا يجعل غموض الإنسان ورغباته، والعالم الذي يحيا فيه اللغةَ تتعثّر” (3).
تُظْهِرُ جسورٌ من الجمل غير المكتملة ما يُشبه تراجعا عن القول… يُصَعِّدُ “يا يحياء” هذه المواجهة للغة مع غرابة العالم. اقتصاد في الكلمات، وندرة في علامات الوقف، وعدم اكتمال للتركيب، وغموض للعناوين، وتأليفات غير متوقعة للكلمات… ينحو كل شيء إلى جعل تردّد المعنى في منح نفسه محسوسا، وتجد الكلمات صعوبة في التوغل في المقاومة الكثيفة لسرّ العالم.
لا شك أن “يا يحياء” يعبق أكثر من كل الدواوين الأخرى بهذا السرّ. يتبنّى النبرة الحميمية لدفتر يوميات مُفَكَّرٍ فيه، مُتَذَكَّرٍ، حيث الأحاسيس محاصَرَةٌ بالصمت في حركة تحَفُّظٍ طهراني (أو ربّما ينمّ عن تواضع) إذ تبقى الرغبة لاهثة. هو اعتراف يوضع بعيدا بتحفّظ أرستوقراطي للإنسان (محمد ديب) الّذي فيما وراء انفعالاته الآنية يحدّق في الأبدية ويتأمّلها.
يصفو شعر محمد ديب عبر امتداد التجربة والإصدارات، جامعا بين التقشّف والنزعة الحسّية، مبتعدا في التخوم القصوى لما يبقي القول مثلوما، مليئا بالفجوات، منشطرا على نفسه ومرهونا بالعجز عن بلوغ الامتلاء الذي يبقى مطلبا مستحيلا، هناك في هذه الحدّة تحتدم جدلية الامتلاء والفراغ، العلو والسقوط، تأجّج الكلام وخفوته، توتّر الإيقاع وارتخاؤه، ونزوعه إلى الصفاء عبر صرامة تجمع بين البساطة الآسرة، والمجاز الذي لا يرتكز على اللغة، ولكن يضع الإشارة التي تسبق اللغة في مركز نداء يستحضر المعنى المنفلت،
ويأسره في الخطفة التي تنتصر للصمت، الذي يضاعف التناقض بين البوح والعيّ، ويُؤجج الرفض للإقامة في اللغة، أين تكون العين وحدها مصدر افتراس للمشهد، تقنصه بحدّة السطوع، وتجمع شتاته في البؤرة التي تنصهر فيها المرائي، وتعيد صياغتها عبر التخييل، الذي يعيد خلقها وترتيبها في ميلاد جديد، يشكّل عالما قائما بذاته.
لا تنبع الشعرية هنا من المجاورة بين الكلمات والأشياء، والوصف العادي لها، والنقل الحرفي لما يمنحه الواقع، ولكنها تحفر في المفارقة، وتنأى في اللعب الخطير، وتراهن بفقدان المعنى، وتصغي للفجوات التي توسِّع المسافة بين العبارة وما تشير إليه. كأنها صياغة جديدة للعالم.. هي كتابة تمحو.. وتشفّ مكتفيةً بنفسها، متوغلّة في مجاهيلها. وكلّما تقدمَتْ في محارق التجربة، تعود إلى الطفولة، لهذا يدور ديوان “طفل الجاز”، وهو من الدواوين الأخيرة لمحمد ديب بعد “القلب الجزيري” وكذا “طفلة الجاز” الذي نشر بعد وفاة محمد ديب، على محور الطفولة والعودة إليها باعتبارها المنطلق الأول لكل تصور ومقاربة للعالم، والبراءة الأولى، إذ عبر نظرة طفل وطفلة تنكشف كتابة راصدة لليومي وللتفاصيل، بالدهشة الأولية، والشغف العفوي، أين تتجلى السخرية، والحس الهزلي، والمجانية في أقصى تجلياتها، وتكون الأسئلة المفاجئة والغريبة، والهواجس العفوية، والتقاط جزئيات العالم، من البيت إلى الطبيعة، إلى الكائنات، المصهر الذي تجتمع فيه رؤية محمد ديب في خريف العمر.
السؤال المفتوح
كأنما يحاول الشاعر أن يُبقي الطفل الذي فيه حاضرا بقوة، يقول انتصار البراءة الأولى على الوحشية التي استفحلت منذ مزارع القطن في الميسيسيبي إلى إسماعيل طفل الانتفاضة، وإلى هول ما عاشه الأطفال بسبب الحروب والاقتلاع والمنافي… رؤية تدين الخراب والكوارث التي أحدثها البشر في عبورهم لهذا الوجود.
يتجلى العالم الشعري لمحمد ديب مسكونا بأسئلة تبقى مفتوحة، وموضوعات حميمية تختفي من كتاب لتعود في آخر، وتدور على مقاربات تنبع من هواجس حملها الشاعر معه في ترحاله ومنفاه، هي المرتكزات الأولى لرؤيا ترسِّخ تجربة الحضور في العالم، إذ محمد ديب شاعر الحضور في الهنا، شاعر أرضي بامتياز، وحتى نزعته العرفانية والهرمسية وتوغله في الأبعاد الرمزية لا تصدر عن البحث عن عالم ميتافيزيقي آخر، ولكن تستحضر هذا الوجود، وتبرز ممكناته، و ما يختفي فيه. الكائن هنا يكثِّف هوسه بالموجودات، ويعاينها بالتماس معها والتوحد بها، ويصهر كل ما رآه ووعاه وانتقل إليه، سواء عبر الإرث الشفهي لمنازله الأولى وأسلافه، بكل ما يحمله من توهج من خلال الثقافة الشعبية الغنية بأساطيرها وأمثالها وألغازها وحكاياتها وموسيقاها وخرافاتها، وأغانيها أو عبر الثقافة المكتوبة في نصوصها الكثيرة والمختلفة أو عبر الأحداث التي تجد لها حضورا، يرصدها ويحوّلها، لتصبح نصوصا تفتح حوارية مع الوجود وكائناته.
الكتابة والمستحيل
يبقى أن التنافذ بين العوالم والانفتاح المدهش بين الإنسان والطبيعة ومخلوقاتها، يتشكل من خلال تذاوت يؤسس لكتابة لها أبعادها الحميمية وفانتزماتها وأشباحها، ولها المدارات التي تخرج الكائن من انغلاقه على نفسه، إلى استبدالات وتقمّصات تكون فيها لعبة الأقنعة العزيزة على محمد ديب بارزة، تتمظهر من خلال تقمص الاسم (ديب) للانتصار للحضور الحيواني متمثلا في الذئب، ورمزياته، مُذَكَّرًا ومؤنَّثًا، وكذا للبهيمة والوحش في نزوعهما الغريزي والوحشي، تعبيرا عن الفطرة الأولى، والتصالح بين الانسان والطبيعة وعناصرها، عبر ترحيلات تسم التجربة بعنف التحول، وتجعل استنادها على رموز مأخوذة من ميراث يحضر عبر مسارات تنصهر فيها الموضوعات الأساسية كالبحر، والصحراء، والثلج، والنار، والماء، والتراب، والهواء، والطيور، والوحوش، والنباتات، والأنوثة و…. لتكون المحارق والمرايا التي تشظي الرؤيا، وتفتح الكتابة على ممكناتها وكذا مستحيلها.
في مصاعب الترجمة ومستحيلاتها
رافقني شعر محمد ديب منذ أزمنة بعيدة ضاربة في المراحل الأولى لشبابي، أين اكتشفت دواوينه الأولى الصادرة عن دار سوي بأغلفتها البسيطة البيضاء والحمراء، أو تلك الصادرة عن دار سندباد بأغلفتها الصفراء المميزة، إذ وجدتها في مكتبات مدينتي تلمسان، وأنا بعد في المرحلة الثانوية.. كانت الدهشة أول ما قادني إلى “الظل الحارس” و”صياغات” و”يا يحياء”، لتتوالى الأعمال الشعرية، ولأجدني غارقا في نصوصها المختلفة عمّا عهدته وقتها من دواوين الشعر باللغة العربية لشعراء جزائريين وعرب.. كانت حداثة واختلاف هذه الأعمال، وإحساسي بقرابة مشيمية مع عوالمها، هي ما خلخل تصوري عن الشعر، وجعلني أقرأها بحساسية جديدة، إذ كانت منسجمة مع تطلعاتي الجمالية في ذلك الوقت، أنا الباحث بدهشة عن كتابة ثورية ورؤيوية. حاولت القيام بتمارين ترجمة لـ”الظل الحارس”، في تلك المرحلة، أكملت العمل لكن تركته في الأدراج منسيًّا، ثم ترجمت ” فجر إسماعيل” ونشرته في دار “البرزخ” سنة 2000. كان دافعي وقتها لنشر هذا العمل المميز في المسار الشعري لمحمد ديب هو ما وجدته فيه من أسئلة جذرية عن التيه والصحراء، بمقاربة غير معهودة، تقترب من الصياغة الفكرية لهواجس الوجود وامتحان المصير. كتابة تعيد مساءلة كل شيء، وتحفر في الإرث الإبراهيمي والتضحية، ونشأة العرب كأمّة، باستعادة للأسطورة المؤسسة للسلالة المنحدرة من هاجر وإسماعيل، وإسقاطها على اللحظة الراهنة لوضعية الفلسطينيين وانتفاضتهم متمثلة في رموزها؛ أطفال الحجارة.. أدهشني مقطع في الكتاب ما زال يشوش بوصلتي:” أعطيتم كل شيء لشخص لم يكن أحدا” (4).
اكتشافات مذهلة
كان هاجسي وقتها كيف أعيد شاعرا إلى لغته الأولى ولهجته المحلية، لأن النصوص طافحة بالإرث الشفهي لتلمسان، وبالموروث الشعبي من ألغاز وأمثال شعبية، وأغاني النساء وتحويفاتهن، وبالشعر العامي لقاماته الكبرى كابن مسايب، وبن سهلة والمرداسي، كما تجلت في الأغاني المتوارثة، وبأشعار وموشحات أبي مدين شعيب الصوفي الشهير.. كيف أعيد الغريب إلى بيته الموريسكي وفردوسه المفقود؟ كيف أبدع قصيدته من جديد بتلك الروح التي تسكنها وترفرف كطائر جريح على سماء وأرض التبَسَتْ بالذاكرة، وكيف أسمي عين الماء التي ما زالت تنتحب في نصوص يتيمة؟ وكيف أسكن في التناص الذي يرحِّل الكتابة من الكتاب المقدس إلى القرآن وإلى النصوص الشفهية الشعبية، إلى نصوص جلال الدين الرومي،و المتصوفة من لغات وديانات مختلفة وإلى شعراء قرأتهم بشغف كرامبو ونرفال وهولدرلين وأراغون وغييفيك وغيرهم، وإلى الحكاية التي تبقى صارخة في تخوم الصمت.. كانت تجربة قاسية وممتعة، استنزفتني وعشت عنفها، لأكتشف عوالم ما زالت تسكنني، وكانت الدافع الأول لمواصلة تجربة الترجمة التي استمرت سنوات، لأبقى مسكونا بهذه الرحلة التي لم توصلني إلى ضفة.
إن ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد ديب كان دينا في رقبتي، أوصلني إلى اكتشافات مذهلة عن شاعر وكاتب اختار الكتابة بديلا عن كل شيء، واختار العزلة مسكنا، والذاكرة مرفأ، والجنون والحب والبحر والمرأة أرضا أخيرة لحنينه الفردوسي، ولأسفاره الغريبة… يختلف امتحان الترجمة هنا عن كل ما وثقته النظريات، وتجارب العبّارين والعابرين في ليل اللغات.
ويختلف عن كل ما ترجمته من أعمال شعرية ونثرية خضتها بزادي القليل، وحيرتي المقيمة.. إذ وجدتني أتعلم مع كل جملة ومقطع معنى الشعر، عندما يأتي عاريا وحافيا من مجاهيله البعيدة.
ومع كل نص كنت أتوغل في محنة الهجرات التي تؤكد أن الشعر يبقى سؤالا، ويبقى بحثا، أجمل ما فيه هو الرحلة لا الوصول، والطريق لا الواحة أو المدينة التي يعد بها السراب… علمني شعر محمد ديب فن الإصغاء للصمت، وصبر الصياد الذي يقف منتظرا تلويحة من البعيد، وحيرة الطائر وهو يحلّق عاليا، كي يجد التوازن بين رفة الجناح، وتغريدة تقف عاجزة وخرساء في الحنجرة، وبين ما يريده ويستطيعه الشاعر، وما يقف أمامه عاجزا قانطا، بين المرأة كما تتجلى في الحضور، والمرأة كما تتدفق في فيض الأنوثة التي تبعث الحياة في الوجود وتبقى مستحيلة، بين الجوهر الأنثوي المتجلي في كل شيء، والفقد الذي يجعلنا نطارد حلما أو وهما نسميه ما نشاء… علمني الفكرة البسيطة والغامضة عن مهمة الشاعر ومسعاه لإنقاذ البراءة والصفاء، والذاكرة الجمعية. واختبر ثقافتي ووضعها على محك البحث الدائم عن النصوص التي تختفي صامتة داخل هذه الكتابة التي تعرف كيف تقيم في تقطير شفاف لكل ما وصلنا منذ إنسان الكهف إلى الأوبانيشاد والنصوص المقدسة الهندية، إلى النصوص العظمى المؤسسة للثقافة الغربية، وإلى نصوص الثقافة العربية منذ القصائد الجاهلية إلى الإرث الصوفي والسردي، وإلى المتون الشفهية في عظمتها، وكذا العرفان اليهودي والمسيحي، وإلى الشواهد الحاضرة لخلاصة الإبداع الإنساني..
كتابة التجريب
كتابة محمومة بالتجريب والتنويع وعدم الاستقرار على شكل أو مذهب أو تشكيل.. كتابة تلغي أحيانا كل ما عرفتُ أو رأيتُ.. تذهب في الهذيان والحلم إلى الأقصى، وتعود إلى الواقع في بساطته الآسرة ومباشرته. ثم تنزع إلى كثافة غامضة تنبع من سهولتها الممتنعة، ودقتها وصرامتها، وكذا تقشفها.. أحيانا تتنوع تجلياتها من القصيدة القصيرة إلى القصيدة الطويلة، من الكتابة المقطعية والشذرية إلى الهايكو الذي يكتفي بأقل الكلام. ومن القصيدة الواحدة إلى القصيدة الديوان. حتى أن اقتراحات محمد ديب تخرجنا من فكرة المجموعة الشعرية إلى فكرة الكتاب أي هذا الكل المتكامل الذي تحيل نصوصه إلى بعضها، فيمكنك قراءتها في كل الاتجاهات دون اختلال للبنية… تتتابع أحيانا بإيقاع رتيب، ثم تصير لاهثة، سريعة، تفيض بالمعنى أحيانا، وتتقشف أحيانا حتى أنها لا تقول سوى صمتها وعبثها ولعبها المجاني باللغة وبالعالم. كأنها صدَفَةً يرنّ فيها الفراغ الصاعد من كل بحار العالم.. تعتمد علامات الترقيم أحيانا، وتغيّبها في أحايين أخرى.. تعبرها لغات كثيرة، فهي رحالة بين أكثر من لغة، تشتغل فيها وتفخخ دلالاتها بما يختفي في جذورها الأولى، لاتينية كانت أو دارجة محلية، أو لغات أخرى…وكذا إشارات إنسانية أو حيوانية أو طبيعية. وعلامات وآثار يمنحها الوجود.. في كل هذا يبقى الكتاب مفتوحا، تعبره الأسئلة وترحل فيه، يتحول إلى صحراء تتمدد في ذرات الرمل، أو تتموج في مد البحر وجزره، أو تنبسط عارية في خلاء الثلج، أو تتكثف في أشجار غابة، أو تلمع في أضواء المدن وهوامشها، أو تتناثر في شخوص لهم حالاتهم وأحوالهم. والشاعر هو الشاهد والشهيد.
هو الرائي الذي تفترسه رؤياه، وهو الذاهب فيما وراء الخير والشر، هو المنتصر للإنسان في تحديه للآلهة ولشرطه، وهو الكائن الهش الباحث عن مغزى وإقامة ولو عابرة حتى في الحنين. هو المنخرط في مجازفة البقاء وتحدي الموت. بالامتلاء بدفق الحيوية التي تشرق وتغيب، وبفيض الأنوثة وبالتجدد الذي يميز العالم ويجعله يخفّف من وطأة التلاشي والزوال. بكل هذا يخلق محمد ديب عالما وينتصر لعبوره هو المنفي في نداء القصيدة التي تبقى وعدا. ويبقى محمد ديب شاعرا منفيا في جنون القول ومساراته ومسالكه المستحيلة.
إحالات
- (1) حوار مع مجلة أفريك أكسيون Afrique Action بعد صدور ديوانه الأول، الظل الحارس، 13-03-1961.
- (2) – جورج باطاي، القدسي وقصائد أخرى، (تر: محمد بنيس، مقدمة بارنار نويل، دار توبقال، ط1 2010، ص11)
- (3)Naget Khadda،Mohammed Dib cette intempestive voix recluse، Edisud،>Aix-en- Provence،2003،P177
- (4) Mohammed Dib، Laezza، ED Dahlab،Alger،2011،P126.