تحرير العقل العربي والمشروع النهضوي
مع سقوط سد برلين نهاية الثمانينات من القرن الماضي ومع نهاية الحرب الباردة، لم تنتصر مثالات الديمقراطية أو الخيارات الحرة في العالم، لكن حصلت تحولات في هذا الاتجاه في العديد من بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها إلا في العالم الغربي الذي بدا عصيا على اختراقات الديمقراطية.
ومما لا شك فيه أن هذا المأزق السياسي والعملي هو مأزق فكري يتصل بالجدل حول العلمنة والمواطنة ونموذج الحداثة المناسب. مقابل الأيديولوجية الإسلامية التي تركز على الأمة وتنسى الأوطان ومصالح الدول ، أخذت تصعد أيديولوجية الدولة والجيش وفق نظرة تمثل تكريسا لثنائية الجيش والإسلامويين وعدم الاعتراف بديناميكيات أخرى أو مقاربات غير أحادية تقر بوجود أسباب أخرى للانحطاط ( بالرغم من أخطائها وهفواتها لا يمكن تحميل الحركات الإسلامية لوحدها كل أسباب انهيار التحولات العربية قبل 2011 وبعد 2011). تاريخياً، لعب “علماء السلطان” دورا كبيرا في ديمومة الأنظمة القائمة بغض النظر عن شرعيتها وتمثيليتها.
نشهد حالياً ترنح المشرق وإسقاط الحدود فيه وضرب دوله المركزية. في هذه الرقصة بين التاريخ والجغرافيا، تبرز كيانات مذهبية ومنظمات جهادية عابرة للحدود وناقضة بشكل حاسم لمفهوم الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة. وإذا كان تنظيم “الدولة الإسلامية” يحاول مدّ راياته السود من الموصل إلى تدمر وسيناء ودرنة، فقد سبق لحزب الله أن تحول إلى “قوة إقليمية” لأنه أهم دعامة عربية للمشروع الإمبراطوري الإيراني، وينطبق الأمر ولو بشكل أقل تنظيما وإشهارا على جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها الحميمة مع قوى إقليمية. إنها مغامرات أو تجارب لا تعترف بالحدود وتضع الكيانات كلها قيد الدرس.
في خضم المسألة الشرقية الجديدة انضم التحالف الغربي إلى الحروب المتراكمة في سوريا والعراق منذ صيف 2014، ومنذ 30 سبتمبر 2015 تكثف التدخل الروسي مع مسعى لإقامة حلف بغداد جديد. فتزايد الغموض وتزاحمت المصالح التي من بينها الدور البارز للأكراد في البلدين (لم نشهد إلا لحظة عابرة ودرامية من الاهتمام الغربي بالضحايا الإيزيديين، ولم يعد مصير مسيحيي الشرق ورقة جذب أو عبور للأوروبيين كما كان الأمر في الأيام الخوالي). ويصاب المراقب بالذهول حيال عدم قدرة تحالف دولي مؤلف من أربع وعشرين دولة على ضرب تنظيم داعش ولجمه. ومن الواضح أن هناك استخدامات متنوعة لهذه الظاهرة وكأن داعش تشبه شركة دولية-إقليمية وهناك مصالح تقف وراء السماح بتغوّلها تحت غطاء من الانحراف الديني.
إننا أمام حرب إقليمية-عالمية لا نعلم تماما كيف ستنتهي: هل بتغيير الحدود أم بقيام أنظمة حكم وكيانات جديدة. ثم ما هو مصير المكونات الأقلية الدينية والإثنية، وأين يتقاطع أو يتناحر الشرق والغرب، وما هو الانعكاس على صورة الإسلام ووضع المسلمين في أوروبا على ضوء انخراط الآلاف منهم في ما يسمى الجهاد العالمي. أليس كل ذلك من أوجه المسألة الشرقية الجديدة.
لوحة: صفوان داحول
يقول البعض إن داعش وأخواتها هم أبناء الفكر الديني الإقصائي والشمولية، لكنهم أيضا بنات بيئة الاستبداد والتصحّر الفكري والانحراف الفاشي. البعض كان يرى بن لادن حليفا في الجهاد الأفغاني ثم أصبح رمز القاعدة والعدو الأول للغرب.
إن الدولة العربية ما بعد الاستقلال هي في الغالب ثمرة نكبة 1948 في المشرق وصعوبات نزع الاستعمار في المغرب، وعدا حالات محدودة لم يكن من مكان لدولة القانون (أو لدولة الحق) من التي تعكس تمثيلاً حقيقياً لمجتمعاتها وتكون الأولوية فيها لمفهوم المواطنة (على حساب الرابط الديني أو الفئوي).
على صعيد التسلسل التاريخي فشلت أول محاولة نهضوية عربية في أواخر القرن التاسع عشر والتي أتت كردّة فعل على الاستبداد العثماني، وأخفقت بعد ذلك دول الاستقلال إثر انتكاسات التيار القومي العربي الذي بلور مشروعاً نهضوياً كرد على النكبة في فلسطين، لكنه كان يفتقد إلى الديمقراطية والتمثيلية كأدوات صالحة للحكم.
كشف عبدالرحمن بن خلدون، ابن أفريقيا (كما كانت تسمى تونس)، عن العلة المؤدية لخراب المراحل الانتقالية في “الصحوة العربية” الراهنة والمتعثرة عندما وصف في “مقدمته” الاستبداد بـ”العسف الذي يؤدي إلى خراب النفوس وفساد النوع"، هذا الاستبداد الذي عاد الكواكبي ابن حلب وتمعن في تفصيل طبائعه ومآلاته، إنه لا يقتصر على طغيان الحاكم وجوره، بل يمتد لعدم الاعتراف بالآخر وإنكار حقوقه وتعميم ثقافة الإقصاء باسم الأيديولوجيا أو تحت ستار الدين.
في مراقبة لأحوال دنيا العرب يمكننا إجراء مقارنة بين لبنان (وسوريا استطراداً) وتونس (ومصر استطراداً) حيث تتعدد نقاط التشابه الثقافي والتفاعل الفكري وإشكاليات الهوية والحداثة. وإذا أردنا فهم أسباب الانشطار السياسي الحاد وتفاقم العنف السياسي، لا بد من العودة للخلفية الثقافية للمجتمعات العربية. وفي هذا الإطار كان ابن خلدون قد تبنى نظرة موسوعية للتاريخ العربي تفيدنا اليوم في فهم أسباب التخلف وعدم القدرة على اللحاق بالعصر.
بيد أن التبني السلبي لنظرية العصبية جعلها معبرا للاستبداد والتحكم بدل أن تكون عنصر قوة للدولة والجماعة. ويسري ذلك على إعطاء الغلبة للحسابات الفئوية والقبلية والمناطقية والأيديولوجية والدينية في مراحل تحول تفترض التفتيش عن القواسم المشتركة في مراحل البناء الانتقالي.
إذا بقينا في المجال الفكري وطرحنا أسئلة ملحة حول صلة الشورى بالديمقراطية ضمن المسار القاضي بضرورة تحديث نظام الحكم، ودور الدين والتراث في عالم متحول، نستنتج بسرعة أن مرحلة الحكم القوي حوّلت عالم العرب إلى صحراء فكرية. وتكمن الخطورة في التركيز على مؤامرات دون التحلي بالشجاعة لممارسة النقد الذاتي وتحمل المسئولية في المخاض الانتقالي الذي لن يكون دربا مفروشة بالورود بل مرحلة يزدحم فيها اللااستقرار مع الجدل الفكري والمتاعب الاجتماعية.
يعتبر البعض أن الديمقراطية هي التجسيد الفعلي والتاريخي لمسار الحداثة، لكن الديمقراطية ليست هي الترياق للمشاكل البنيوية ولمعضلة إيجاد صيغة الحداثة الملائمة. وهنا يكون الإشكال حول دور مؤسسات مثل الجيش ومدى اقترابه من طرح حداثي أو ماضوي تبعا لطبيعته السلطوية.. ويصل الأمر إلى المؤسسة الدينية وإسهاماتها أو دورها التابع أو الجامد أو المعطل. ويمتدّ التساؤل إلى المجتمع المدني وإسهام المثقف في تكوينه، كما في تركيب الوعي والفكر النقدي.