الواقعية المفرطة
لا يمكن المرور على هذه الدعوة الرائعة، وذاك النقد اللاذع، للكاتب والباحث التونسي هشام جعيط والذي أطلقه في حواره مع مجلة “الجديد”، دون الوقوف على أمل التفصيل فيه قدر المتاح. كانت الشائعة الثقافية العامة بأن العرب والمسلمين مازالوا في عالم الغيب التاريخي، لكن جعيط ينقلنا إلى الحاضر، ربما أفهم كلامه بسياق الحوادث الآنية التي نعالجها كل يوم في الأخبار، أي أن العرب اليوم ليسوا إلا رد فعل لا أكثر، أي أننا لا نعمل وفق خطة مكتوبة ومدروسة وتبقى تحركاتنا بسياق الرد على الفعل، كما حصل في مضايا والزبداني وبقين في القلمون الغربي من ريف دمشق بسوريا، حيث سقط العشرات من الضحايا جوعا هذه المرة، وجاء العالم ليبكي عليهم رغم أنهم تحت الحصار من شهور دون أي فعل حقيقي لفك الحصار عنهم أو وضع نهاية له.
ربما العالم الإسلامي اليوم مازال تحت الحصار الفقهي التقليدي، وربما في حصار الفقه التاريخي النمطي أيضا، والذي عالج التاريخ الإسلامي وفق منظور العقلية النقلية لا العقلية النقدية، وهنا يمكن لنا أن نقف بكل فخر أمام تجربة الدكتور جعيط التي أزاح فيها إيمانه وتعامل مع السيرة النبوية بكونها حدثا تاريخيا لا أكثر ولا أقل. رغم أهمية المسألة من الجانب الديني، إلا أنه أصر على أن يبقى باحثا ومؤرخاً حقيقياً لا مجرد عازف في سيمفونية التزوير أو منشدا في جوقة المديح أو عضوا في فرقة الشاتمين.
وهذا العقل النقدي والبحثي العلمي يبرر، ولو قليلا، فهمه للديمقراطية كونها منتجا صناعيا وكونها نتاج حركة رأس المال، وهذا الموقف واقعي إلى حد كبير، فالحركة المالية الرأسمالية هي التي أنتجت الحوامل الثقافية والفكرية والنقابية التي احتاجتها لتستمرّ، ومنها الديمقراطية، التي نظّمت حركة القوى الاجتماعية كي لا تتصادم وتعود إلى دائرة العنف، أقلها على المستويات الوطنية، على أن يبقى العنف مرتبطا بالسلطة وحصريا بيدها، وموجها ضد الخصوم الخارجيين.
الخصم الخارجي للغرب الديمقراطي، في عقل الكثير من المسلمين، ليس إلا الإسلام وأهله، وربما انتشار بعض المقاطع المصورة وعدد من إصدارت الأنفوغراف التي تتحدث عن الخوف من الإسلام القادم بقوة الولادات الكثيرة ليسيطر على الأرض تظهر حجم الهاجس الذي يعيشه المسلمون اليوم واعتقادهم المطلق بأن الغرب عدوّ يريد التخلص منهم ومن نسلهم، والمفارقة أن بحثهم عن سبل للنصر، اختار سبيلا يسيراً وسهلاً كالإنجاب أو الاختباء خلف ستارة القدر الذي يديره الله عز وجل ليكون في صفهم بكل الأحوال فهم خير أمة أخرجت للناس.
هذه المظاهر ليست إلا الوجه اللطيف لتلك الهواجس ولكن الوجه الحقيقي يتجلى في ظهور الحركات الجهادية والإرهابية، وهنا للدكتور جعيط رأي واقعي ومنطقي جدا، فـ”الجهادية ليست متأتية فقط من عدم وجود الديمقراطية. وفي رأيي الخاص فإن الارتباك الكبير الحاصل اليوم في العالم الإسلامي ضد الآخر، وضد المسلمين أنفسهم يعود بالأساس إلى أن بعض المسلمين يرون أن الإسلام قد احتقر كثيرا، وأن العالم الحديث لا يكترث به ولا يعطيهم قيمة، ويهمّش حضارتهم لذلك فإن الحملات الجهادية ليست فقط لمهاجمة النظم الدكتاتورية كما يريد أن يروّج البعض”.
لذلك باتت اليوم الكثير من الشعارات التي تطرح على جدران بعض البلدات في سوريا وعبر إصدارات التنظيمات الجهادية، كشعار “الديمقراطية كفر”، بمحل من المحلات مفهومة لأن الغرب “الكافر” قائم على هذه الآلية ليبقى على قيد الحياة ويحارب “المسلمين”، ويتمّ العمل على استيراد الكثير من المصطلحات البديلة، إن صحّ التعبير، من إسلام الأصول والفترة المحمدية والخلفاء الراشدين، مثل “الشورى”، والهدف وفق تحليل الدكتور جعيط “التحرر من الغرب عن طريق الإرهاب”، والإرهاب هو الصّفة المرافقة لكل تلك الحركات الجهادية، وهذا العنف لا يأتي بنتيجة، “ما دمنا لم نحقق النهضة التي وقعت في اليابان أو الصين، ما دمنا لا نملك عقلانية تطورية تخص الإنتاج الصناعي وغير ذلك، فلا فائدة تُرجى”.
كل ما سبق لا بد من قوى تعمل على إنتاجه أي القدرة على فهم العقل العلمي الذي يفهم ويفكّك الدين ويعالج الماضي، التراث، والعقل القادر على فهم وبناء صناعات علمية نظرية وعملية، والعقل القادر على الخروج من قوقعة الواقع التي تحدث عنها الدكتور جعيط، وهذا العقل بالطبع هو ما بين أكتاف الشباب المسلم، ولكن سؤال “كيف ذلك؟”، والمفارقة أنه لا جواب، “لا نعلم كيف ستتطور الأمور، نحن الآن في أزمة كبيرة وفي مخاض، بصفة عامة لا نعرف المستقبل القريب كيف سيكون، غير ممكن التنبؤ”، ربما يمكن التوافق مع هذه النظرة الواقعية ولكن لا يمكن السكوت عن التشاؤم الذي تحمله هذه النظرة بأننا غير قادرين حتى على رسم الخطط، وبناء الفرضيات رغم أن قناعة الدكتور جعيط في الصحيح والخطأ قناعة بديعة، حيث “لا يوجد طريق سيء أو طريق جيد، الطريق هو ما يمليه التاريخ وموازين القوى على المستوى العالمي الآن”، ولكن لا يمكن توقّع النتائج وهنا الكارثة، أفلا نملك القدرة حتى اليوم على تحليل المعطيات واستشراف المستقبل؟
لا يمكن لوم الدكتور جعيط على عدم القدرة على التوقع مفرداً، فهو ليس إلا قنديلا علميا منيرا بلغ من العمر عتيا، وبذل حياته كلها للبحث والفهم، وإن كان غير معلوم لنا ككثير من المفكرين العرب الذين كتبوا بالفرنسية أو الإنكليزية، فهذا ذنبنا، وإن قال هو بأن الكتابة الجيدة تصل، وربّما هي وصلت اليوم، وإن تأخرت قليلا.
يتوجب اليوم العمل على إنتاجه وفهمه والتعمق به واستخدامه إضافة إلى مجموعة أخرى من منتجات الباحثين في الإسلام والواقع العربي، لتكون كلها بوابة انطلاق باتجاه بناء خطط للمستقبل وبناء الفعل للخروج من حالة رد الفعل، وربما تجد تلك الجهود سبيلا على عكس جهوده التي بقيت شبه غريبة عن العالم العربي وتأخّر وصولها إلى المشرق العربي على أقل تقدير، في حين انتشرت أسماء كمحمد عابد الجابري والطيب التيزيني وغيرهم من الذين يرى الدكتور جعيط في انتشارهم دليلا على انحطاط العالم العربي لدرجة أن هؤلاء كان لهم كل هذا الصدى وفق تعبيره في حوار قديم أجري معه عام 2004.