تحولات التفاوت الثقافي بين النخبة والعوام
من عادة علماء الاجتماع أن يرتابوا من عبارة “ثقافة” لكونها غالبا ما تُستخدم بكيفية تثبّت علاقة الأفراد بالفن والكتاب والموسيقى وحتى الأطعمة والتصويت في قوائم محددة تكاد لا تتزحزح، على غرار المواجهة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية مثلا. ذلك أن الاستخدام اليومي لتلك العبارة يوهم بأن الثقافة تحلّق فوق رؤوسنا بمعزل تام عن الكيفية التي تُحشد بها في العلاقات بين الأفراد.
لقد دلّت دراسة حديثة أن نحو ثلثي الفرنسيين لم يعودوا إلى المؤسسات الثقافية منذ إقرار الجواز الصحي في يوليو الماضي، وهذا يزعج القطاع الثقافي لا محالة ولكن انزعاجه قد يكون أشد بعد اطّلاعه على النتائج التي توصل إليها باحث فرنسي، متخصص في سوسيولوجيا الثقافة، هو فيليب كولانجون، فقد بيّن في كتاب “ثقافة الجماهير ومجتمع الطبقات”، الذي نشره مؤخرا كيف تواصل التشكيلات الاجتماعية والسياسية لرأس المال الثقافي تشظية المجتمع. فبالرغم من تزايد التصدعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يبدو التمايز بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية كما درسه بيير بورديو في كتابه “التمييز” الصادر عام 1979، في تقلّص مستمر بسبب تكثيف التمدرس والإنتاج المتواصل للمواد الثقافية بأنواعها وتزايد نخبوية الذوق والممارسات الرقمية الجديدة. إلا أن هذا الانطباع يهمل الاختلافات التي يحث عليها رأس مال ثقافي معقد وصلب في الوقت ذاته، كما يبين كولانجون الذي يقرّ باندهاشه من كثافة حضور الحجة الثقافية في الجدل العام بمعناها الجوهري، وخاصة في بعض الدوائر المحافظة التي تضع في المقدمة تصورا بالغ الشمول عن مفهوم الثقافة كتفسير يجمع سلوكيات ملزمة برفض أشكال التوفيقية، كما هو الشأن في عدة مجتمعات غربية.
ضدّ هذا التصور الذي يحصر الثقافة في “إشكاليات هووية” أو شعارات من نوع “المعركة الثقافية” و”تعزيز الأمن الثقافي” ولكن مع البحث عن السبل التي يمكن أن تجمع حولها الفاعلين الاجتماعيين، يقترح كولانجون أن نعتبرها “موردًا” غير متساو كمًّا وكيفًا وتنوّعا بين الأفراد والجماعات. وكان منطلق بحثه التباس الحدود الثقافية بين الطبقات، فقد صارت النخبة تعشق المسلسلات التلفزيونية بعد أن كانت تحتقر التلفزيون، مثلما صارت حفلات موسيقى الراب تجمع حولها الطبقتين الشعبية والبورجوازية، أما مواقع ألعاب الفيديو فهي تستقطب المراهقين من شتى الفئات المجتمعية. ويستخلص أن رأس المال الثقافي في القرن الحادي والعشرين لم ينحلّ، بل تحول من امتلاك ثقافة عالمة مميزة إلى “إعادة تحديد المعايير الجمالية والتراتبية الاجتماعية للأذواق والممارسات المتمحورة حول الانفتاح على التنوع والنخبوية أو “القارتيّة” (أي الرغبة في امتلاك كل شيء) بعبارة عالم الاجتماع الأميركي رتشارد بيترسون. حدث ذلك تحت تأثير سياسات التوسع المدرسي ووفرة منتجات وخدمات ثقافية تزامنت مع تنوّع منتجات الصناعة الثقافية، التي لا تتحمل مسؤولية التنميط المعياري كما زعم فلاسفة مدرسة فرانكفورت من قبل.
والنتيجة أن انشطار الطبقات، إذا ما قارنّاه بالوضع الذي وصفه بورديو في السبعينات، لا يبدو اليوم خاصّا بأرصدة ثقافية مخصوصة، حتى وإن بدا من الحيف اعتبار كتاب مرجعي مثل “التمييز” مجرد تجانس بين المواقف الاجتماعية والممارسات الثقافية الجامدة، والحال أنها منظومة دينامية لها تقارب وتنافر، يحددها النفور أو الرفض مثلما تحددها الأذواق والميول. وفي رأي كولانجون أن انشطار الطبقات لا يزال قائما ولكنه يحافظ على مكوّن ثقافي قوي، ما يجعل الهوية نفسها مضطربة. وكان أنطونيو غرامشي، عند إعادة التفكير في أفق ماركسي مؤمن بأن تقسيم المجتمع إلى طبقات تحدده علاقات الإنتاج، قد ألحّ على العامل الثقافي للعلاقات الاجتماعية وتصلّب العلاقات الطبقية. غير أن بورديو كان أول من أكّد على العامل الثقافي للتفاوت، ولاسيّما “الدعم الرمزي” الذي تقدمة الموارد الثقافية للتفاوت الاجتماعي داخل مجتمعات ثالثية الوظيفة المتخصصة والتربية المكثفة اللتين تبدو فيهما المواقع الاجتماعية في جانب هام منها مكافأة لقيمة وجدارة من يشغلها، وخاصة في المجال المدرسي.
فكيف يمكن تأويل واقع تنوع أذواق الطبقات العليا وممارساتها الثقافية بعيدا عن الثقافة العالمة التي تشهدها عدة بلدان منذ أواسط التسعينات؟
لقد لاحظ عالم الاجتماع الأميركي رتشارد بيترسون أن من الممكن إعادة النظر في ملاءمة الانقسام بين العالِم والشعبي بتعميم فكرة مفادها أن التميز الثقافي بات يتم عبر تنوع الميول والأذواق أكثر ممّا يتم عبر قوانين الثقافة السامية. أي أن الطبقات الراقية لم تتخل عن القوة الرمزية التي يمكن أن تعطيها لموقعهم الاجتماعي، ولكن التميز يصبح في تلك الحالة مرهونا بسعة اختياراتهم أكثر مما يرتهن برفضهم للثقافة الشعبية. ولئن وجد طرح بيترسون، الذي يبدو مناقضا للنظرية التي صاغها بورديو، صدى في الأوساط الأكاديمية، فإنه من الهشاشة بمكان، على عدة مستويات. أولا، لأن نخب الأمس ومتعلميه، كما بين عالم الاجتماع الفرنسي برنار لاهير في “ثقافة الأفراد”، كانوا نخبويين هم أيضًا. ثانيا، لأن المعيار الجديد للانفتاح والتنوع والتوافق ما زال يقصي بعض الأجناس الشعبية ويعتبرها غير ذات قيمة مضمونيا وجماليا. أضف إلى ذلك أن رأس المال الثقافي ما انفك يأخذ شكل “رأس مال متعدد الثقافات”، يجد الحظوة في الترقي الوظيفي والاستئناس باللغات الأجنبية وحبّ الأسفار وتجربة المنفى والميل إلى السينما والطبخ وآداب العالم وموسيقاه، جاعلا من الانفتاح على الغيرية الثقافية أحد الملامح المميزة للنخب الحالية. وهو ما أكّده الباحث الأميركي شمس خان عندما عاد إلى ملاحظة تحولات المؤسسة التربوية القائمة على الفرز في نيو إنجلاند حيث تعلّم.
ثمّ إن الطريقة التي دخلت بها فنون عُرفت بكونها شعبية كالسيرك والرواية البوليسية والجاز والأشرطة المصورة إلى ممارسات النخب تثير التساؤل، بل إن فيليب كولانجون يتحدث عن “احتياز ثقافي” مذكّرا بأن هذا المفهوم، الذي يستعمل اليوم للدلالة على الكيفية التي تحوز بها مجموعة أغلبية لنفسها إنتاجا ثقافيا تملكه أقلية إثنية عرقية مهيمَن عليها، يمكن أن ينطبق تماما على العلاقات بين الطبقات العليا والطبقات الشعبية، على الثقافة العالمة والثقافة الشعبية. وهو ما سبق أن استعمله مؤرخ الفن البريطاني كينيث كوتز سميث في أواسط السبعينات.
بيد أن ذلك الاحتياز يحوّر الطرق التي تُستخدم بها الثقافة، من ذلك مثلا أن إضفاء الشرعية على موسيقى الجاز حوّلها من موسيقى رقص إلى موسيقى استماع حتى أن أشكال استهلاكها اليوم صارت، من جهة انتظارات جمهورها، أكثر قربًا إلى الموسيقى الكلاسيكية من موسيقى الروك أو الرّاب، حيث الجمهور جالس وليس واقفا، وحيث المقاعد مرقّمة، وحيث حضور الجمهور محدود ومشاركته معتدلة.
وبالرغم من هذه الملاحظات، يوجد من الكتّاب، مثل تاك وينغ شان، أستاذ علم الاجتماع بجامعة وارويك في كوفنتري الإنجليزية، من يعتقد أن تشوش الحدود بين الرصيدين العالِم والشعبي، بين الثقافة العالية والثقافة الواطئة هو من الكثافة ما أضعف وظيفة الاصطفاء والإقصاء الاجتماعي التي لها صلة بتراكم رأس المال الثقافي. وفي رأيه أن التوجه القارتية لا يمكن أن يؤدي دورا يعادل الألفة مع الثقافة العالمة التي تتبدى، إذا ما مورست بكيفية متناظرة متواصلة، في رفض الأرصدة الثقافية الأخرى. ولا يعني ذلك أن التنقل المتزايد بين مختلف الأرصدة سيؤدي إلى زوال التميز. أولا، لأن ذلك التنقل غير متناظر، إذ غالبا ما يتجه من الرصيد الشعبي إلى الرصيد العالم. ثانيا، لأن اختلاط الأجناس الذي يتبدى في تعدد الممارسات والأذواق لا يلغي آليا تراتبية الرصيدين.
وبذلك لا يمكن لتلك التغيرات في الممارسات الثقافية والصعوبة المتنامية لجعل أرصدة مخصوصة مقترنة بجماعات محددة أن يُنظر إليها كعلامة تراخ في الحدود الثقافية بين الطبقات الاجتماعية لسببين هامين:
أولهما أن ذلك الانفتاح على التنوع والغيرية يفترض موارد اجتماعية وثقافية واقتصادية، سواء تعلق الأمر بإتقان اللغات الأجنبية أم بفرص التحرك جغرافيّا.
وثانيهما أن الانفتاح على الغيرية لا يلغي بالضرورة المسافة الاجتماعية. يقول فيليب كولانجون “الانفتاح على الآخر وثقافته الذي يتم عموما بين ترحل الطبقات العليا وعزلة الطبقات الشعبية هو كيفية ذكية لإبقائه على مسافة، حيث يستعير من أرصدته دون أن يمنحه في المقابل إمكانية الاستعارة منه ومن جماعته، ودون أن يقيم علاقة معه”. وفي رأيه أن فرنسا تشهد عكسًا تاريخيا لعلاقة الفئات الاجتماعية فيما بينها، بين البعد الرمزي والبعد الجسدي في تلك العلاقة.
لقد كان المجتمع الفرنسي إبان “السنوات الثلاثين المجيدة” (1945 – 1973) متأثرا بتقلّص المسافات الفضائية والمادية وتزايد المسافة الرمزية بين الفئات الاجتماعية، التي تتبدى بشكل خاص في نظام الأذواق والتميز وأنماط الحياة، وكأن التقارب النسبي في ظروف المعيشة ومستوياتها دفع حينئذ إلى تعزيز الفوارق بين الطبقات على المستوى الرمزي. أما اليوم، فيحصل العكس، حيث يتطور التقلص النسبي للمسافات الرمزية في إطار فصل جغرافي واجتماعي واقتصادي متزايد، تحت تأثير استراتيجيات سكنية ومدرسية للطبقات المتوسطة والعليا. وكل شيء يجري وكأن القاعدة الوراثية والوظيفية للتفاوت مضمونة بالشكل الكافي بحيث يمكن للتمييز الثقافي أن يوهم بأنه محل إعادة نظر أو أنه تمّ تجاوزه، والحال أنه لا يساهم في البناء، وإنما في إخفاء التفاوت الطبقي.