ترجمة الأدب
لطالما كانت الترجمة جسرا بين الثقافات، من دونها لا يقوم تواصل، ولا يحصل تفاهم، ولا تنهض علاقات، ومن دونها لا تكتشف الذات ذاتها ما دامت بلا آخر، أي بلا مرآة تتعرف فيها على وجهها، وتطرح على الآخر سؤالها الحضاري، وتتبادل معه الحوار.
لكن الترجمة محكومة بطبيعة عصرها، وبدرجات قوة الثقافة ودرجات ضعفها، وبطبيعة حضورها بين ثقافات الأمم الأخرى والألسنة الأخرى. وهي أولا وأخيرا محكومة بحال اللغة وقدراتها ومساحات انتشارها ومستوى أدبها وطبيعة تطلعاته وقدرته على مخاطبة الإنسانية. وبعد ذلك بظروف الأمة التي تتكلم تلك اللغة وموقعها الفاعل في الحضارة.
على هذه الخلفية يُطرح، غالبا، سؤال الترجمة. وفي ثقافتنا العربية، لطالما شغل سؤال الترجمة تفكير الكتاب والمبدعين وكذلك المفكرين وحتى المنشغلين بقضايا الثقافة من صحافيين وقراء متابعين. والطريف أن هذا السؤال غالبا ما يطرح مقرونا بالشكوى، وتكون أجوبته أكثر طرافة من أسئلته، فشاعر ترجمت قصيدته عبر لغة ثالثة، وعندما ردها إلى لغتها الأصل مترجم استنكر ألا يترجم الشعر من لغته رأسا إلى لغة ثانية، فإذا به يقرأ قصيدة لا علاقة لها بتاتا بالأصل.
وروائي وجد ضالته إلى الإنكليزية في مترجم عربي وعندما اقترحت الرواية على ناشر إنكليزي رأى فيها “مسخرة أدبية” لكن دودة الغريزة جعلت الناشر يقدمها لمحرر أدبي أعاد كتابتها، فإذا بالنص العربي الركيك يتحول عبر الترجمة إلى نص روائي عجائبي يطبع لمرات، ويلقى لنفسه جمهورا بين قراء الإنكليزية.
ما سلف وجه هزلي للمسألة، فالترجمة من العربية وإليها تشهد حركة متنامية، صحيح أن ما ترجم من الأدب العربي إلى اللغات الأخرى يكاد لا يلحظ في خزائن ثقافات العالم، وصحيح أن جل الترجمات التي تؤدى اليوم، إنما يقوم بها أفراد اتصلوا بالثقافة العربية، ووجدوا فيها ما يلفتهم إن في الشعر أو السرد، فأخذوا على عاتقهم نقل بعض نماذج هذا الأدب إلى لغاتهم، وذلك من خلال علاقات شخصية، بالضرورة، فكانت خياراتهم تصيب وتخطئ، ولم تكن موضوعية، بالضرورة. وهذا أمر مفهوم، فنحن لا يمكننا أن نستبعد الهوى الشخصي، لا سيما عندما نتحدث عن الذائقة الأدبية.
على أن وجها أكثر بروزا يحضر عندما نتحدث عن الترجمة، وأعني به دوافع الترجمة ودواعيها. فكثير من الأعمال الأدبية العربية ترجمت على محمل اكتشاف الشخصية الحضارية للعرب، ومن باب الرغبة في تحقيق معرفة أفضل بهذه الشخصية، وبالتالي فقد بدت هذه الأعمال مادة تصلح لدراسات اجتماعية وسياسية أنثروبولجية أكثر منها مادة أدبية خلاقة وممتعة.
في هذا الملف مقالات ثلاث تتناول قضايا الترجمة: ترجمة الشعر، حال الأدب العربي وإشكالياته، وطبيعة التفاعل الثقافي الذي ولّدته ترجمة “ألف ليلة وليلة” الكتاب الذي يعتبر إحدى الأيقونات الأدبية الكبرى في العالم، وقد لعبت الترجمة دورا بارزا في شهرة هذا الكتاب.
أخيرا، نشير هنا إلى المقالة الأولى في الملف، وتتعلق بمغامرة ترجمة الشعر الذي طالما اعتبر مادة أدبية متمردة وعصية على الترجمة، فهو أشبه بحصان لم يروّض، ولطالما كان على المترجم أن يتدرب على التعامل معه ككائن خارق، وأن يرتقي بقدراته في قراءة هذا الكائن إلى ذرى عالية وبعيدة.
يخوض الناقد والأكاديمي التونسي محمد آيت ميهوب في المسألة، مقلبا وجوهها ومستدعيا الأمثال من التراث العربي القديم، وكذلك من ثقافتنا الحديثة، ليجيب عن السؤال الأصعب: هل يمكن ترجمة الشعر؟
قلم التحرير