تسونامي بشري
قبل 170 عاما تنبّأ كارل ماركس في منشوره السياسي الأشهر (البيان الشيوعي) بنهاية الرأسمالية قائلا بأن الرأسمالية لا تُطّوّر فقط الصناعات الكبيرة وإنما “تنتج قبل كل شيء حفار قبرها”، والمقصود بذلك البروليتاريا (أي الطبقة العاملة الصناعية) التي ستتولى مهمة دفن النظام الذي يشكّل مصدر اضطهادها. لهذا كان ماركس وأتباعه على قناعة تامة بأن انهيار الرأسمالية وانتصار “الطبقة الأكثر ثورية” في التاريخ أمر محتّم، لأن البروليتاريا بحسب العبارة التي اختتم بها بيانه الشيوعي “لن تخسر سوى أغلالها وستربح العالم كله”. لكن الرأسمالية (ومعها البروليتاريا) خيّبت أمل الفيلسوف والثوري الكبير، بل وأثبتت العكس تماما. لم تنجح قلاع الرأسمالية ومراكزها المتطوّرة في ترويض الطبقة العاملة واستيعابها عبر إصلاحات اجتماعية وسياسية عميقة فحسب، وإنما شيّعت أيضا البروليتاريا إلى مثواها الأخير. لم يأت اضمحلال الطبقة العاملة الصناعية جرّاء الاستغلال والقمع من قبل عدوّها الطبقة البرجوازية، وإنما نتيجة العولمة والتقدّم التكنولوجي والثورة الرقمية التي جعلت من العمل في المصانع -على الأقل في مهد الرأسمالية في أوروبا وشمال أميركا- الاستثناء وليس القاعدة. هذه الظاهرة دفعت الكثير من المفكّرين المحسوبين على اليسار مثل هربرت ماركوز وسمير أمين وأندريه غورتس إلى مراجعة المواقف الدوغمائية مما يُدعى بالرسالة التاريخية للطبقة العاملة في الدول الصناعية المتقدّمة، بل وذهب الفيلسوف الفرنسي أندريه غورتس، أحد أهم تلامذة مدرسة سارتر لإصدار كتاب بعنوان “وداعا أيها البروليتاريا” في عام 1980، مثيرا غضب اليسار التقليدي حينها. ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليخلط الأوراق من جديد ويضفي غرابة أكبر على المشهد عندما نجح في حملته الانتخابية في توظيف مخاوف العمّال، خاصة البيض منهم، من مظاهر العولمة ومن تبعات إغلاق المصانع ونقل فرص العمل إلى الخارج حيث الأجور المتدنية.
لكنَّ الرأسمالية، وباستعارة مصطلحات ماركس نفسه، لن تكون وفيّة لنفسها إذا لم تقم بإعادة إنتاج، ليس فقط قاعدتها الاقتصادية، وإنما أيضا تناقضاتها الوطنية والدولية، ولكن على مستوى أعلى وبأبعاد أكبر. صحيح أن بديلها الأكثر خطورة المتمثل في المعسكر الاشتراكي انهار فجأة في مطلع تسعينات القرن الماضي وتخلّت دوله في شرق أوروبا (وقبلها الصين) عن نهج التخطيط المركزي لصالح تحرير الأسواق والاندماج في السوق العالمي، إلا أن التاريخ لن ينتهي كما توقّع المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما. فمنطق التاريخ بحسب ابن خلدون يقول ببساطة إن كل ما له بداية له نهاية أيضا. هذه البديهية لا تتجسّد فقط في الأزمات الدورية التي تجتاح أسلوب الإنتاج الرأسمالي بين الحين والآخر، وإنما أيضا في تحديات وجودية تمسّ أسس النظام نفسه. وإذا كان هذا النظام أثبت مرة أخرى قدرته على التأقلم والتطوّر من خلال استيعاب التداعيات الخطيرة لأزمة 2007 المالية العالمية، فإنه يجد نفسه الآن أمام تحدٍّ من نوع جديد مرتبط بظاهرة العولمة، أحد أهم أسرار قوّته.
لقد فرضت موجات النزوح واللجوء والهجرة نفسها على الأجندة السياسية في البلدان الصناعية المتقدّمة وأصبحت موضوعا يمكن أن يحسم الانتخابات، وأدى إلى تغيّر واضح ليس فقط في المشهد السياسي، وإنما أيضا في المزاج الشعبي فيها. وما فوز ترامب بالرئاسة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين المحافظ واليمين الشعبوي في فرنسا وألمانيا والنمسا وبولندا وغيرها سوى مظاهر لهذه المرحلة الجديدة. من جانب آخر لا تعود أزمة تدفّق أفواج اللاجئين إلى تأثير عوامل مؤقتة وصراعات وحروب أهلية داخلية في أطراف النظام الرأسمالي فحسب، وإنما أيضا إلى تناقضات أساسية تعصف بأسس هذه النظام.
تشير أحدث بيانات الأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين حول العالم تجاوز 65 مليون إنسان، القسم الأكبر منهم يبحث عن ملاذ آمن داخل أوطانهم، ولكن من بينهم 22.5 مليون شخص غادروا بلدانهم الأصلية على أمل الحصول على فرصة أفضل للعيش في أماكن قريبة أو بعيدة. من الخطأ تماما وضع هؤلاء في “سلة” واحدة لأن العوامل الطاردة للاجئين ودوافعهم متنوّعة ومتداخلة في ما بينها، وتمتد من الحروب الأهلية والقمع السياسي والاضطهاد الديني إلى الفقر وخراب البيئة والرغبة في التمتع برفاه الدول الغنية. وهي كلها أسباب شرعية. حتى في البلدان المبتلية بحروب أهلية طاحنة مستمرة منذ سنوات مثل سوريا والعراق وأفغانستان لا يمكن القول بأن العنف هو السبب الوحيد أو الرئيسي لموجات النزوح الداخلية والخارجية. في المقابل يمكن لموجة اللجوء نفسها أن تتحوّل إلى مصدر لصراعات ونزاعات وعامل للتوتر ولزعزعة الاستقرار في البلدان المضيفة، لا سيما عندما تطول فترة الإقامة في المخيّمات وتنقطع عمليا صلة النازحين بأوطانهم الأصلية ولا يتم في نفس الوقت إدماجهم في المجتمعات الجديدة.
من هنا يمكن القول بأن من أهم سمات موجة النزوح الحديثة هو التداخل والترابط بين الهروب القسري والهجرة “الطوعية”، وإن كانت الأخيرة لا تعبّر في كثير من الأحيان عن حرية الاختيار وإنما عن ظروف قاهرة. هذا ما عبّر عنه تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الصادر في نهاية عام 2017 بعنوان “نحو هجرة تصب في صالح الجميع″ والذي دعا فيه الأسرة الدولية إلى الاستعداد لموجات نزوح كبرى وحذّر من تداعيات الفشل في التعامل مع تحدياتها. بحسب بيانات هذا التقرير ازداد عدد المهاجرين الدوليين (أي السكان الذين غيّروا دولة إقامتهم) بنسبة 49 بالمئة منذ عام 2000، ليصل إلى 258 مليون نسمة. وهي نسبة نموّ غير مسبوقة تتجاوز معدل نمو السكان العالمي بأكثر من الضعف. من بين المهاجرين الدوليين لا يمثّل اللاجئون وطالبو اللجوء سوى 10 بالمئة. وتأتي هذه الأرقام لتؤكّد حقيقة اتساع وتسارع حركة الهجرة بشكليها النظامي وغير النظامي والتي لن تتوقف أمام الحدود الدولية والعوائق الطبيعة.
فرضت موجات النزوح واللجوء والهجرة نفسها على الأجندة السياسية في البلدان الصناعية المتقدّمة وأصبحت موضوعا يمكن أن يحسم الانتخابات، وأدى إلى تغيّر واضح ليس فقط في المشهد السياسي، وإنما أيضا في المزاج الشعبي فيها. وما فوز ترامب بالرئاسة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين المحافظ واليمين الشعبوي في فرنسا وألمانيا والنمسا وبولندا وغيرها سوى مظاهر لهذه المرحلة الجديدة
إذا كان هناك شبه إجماع على أبعاد الظاهرة، فإن وجهات النظر تتباين كثيرا حول أسباب أزمة الهجرة وآثارها وحلولها. بالنسبة لليسار الأوروبي القضية واضحة لا تحتاج لنقاش. فهو يُرجع أسباب حركة النزوح الواسعة إلى الرأسمالية التي توصف بالمنفتلة والمعولمة والنيوليبرالية. وكثيرا ما تتم الإشارة إلى الحروب التي خاضتها وتخوضها دول غربية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا كدليل على أن السياستين الأميركية والغربية تقفان وراء تدفّق أفواج اللاجئين من هذه البلدان وغيرها. في كتابه “الصراع الطبقي الجديد” يشير الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك (Slavoj Žižek) إلى حقيقة أن “معظم اللاجئين يأتون من دول فاشلة”. ويضيف جيجك، الذي يعتبر حاليا من أبرز المفكّرين الماركسيين في الغرب وأكثرهم غزارة في التأليف، أن “انهيار سلطة الدولة ليس ظاهرة محلية، وإنما نتيجة للسياسة والاقتصاد الدوليين، بل وفي بعض الحالات، كما هو الحال في ليبيا والعراق، نتيجة مباشرة للتدخل الغربي”. استنادا إلى هذه الفرضية يحاول جيجك صياغة ما يدعوه بالاقتصاد السياسي لحركة اللجوء ويدعو إلى البحث عن سببها الحقيقي في “القوى الدافعة للرأسمالية المعولمة وكذلك في مسارات التدخلات العسكرية”. من جهة أخرى حاول البعض من المثقفين اليساريين رسم صورة رومانسية عن اللاجئين القادمين من دول فقيرة وتصويرهم على أنهم بروليتاريا عصر العولمة الذين سيشكّلون لاحقا الطليعة الثورية المؤهلة للتغيير. في المقابل اتسعت جبهة المناهضين لموجة النزوح الحالية لتشمل الكثير من قوى وأحزاب اليمين المحافظ واليمين الشعبوي والمتطرّف وجزءا كبيرا من الرأي العام في أوروبا الغربية والشرقية والولايات المتحدة وأستراليا وغيرها. يرى هؤلاء في الوافدين من العالم الإسلامي والدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء على وجه الخصوص تهديدا للحضارة الغربية وخطرا على القيم الأوروبية ونظامها الاقتصادي والاجتماعي. ولم يتردد البعض من السياسيين اليمينيين -ومن بينهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان- في وصف المهاجرين المسلمين بالغزاة. بدورها عمدت السياسية الألمانية والزعيمة السابقة لحزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للاجئين فراوكه بيتري (Frauke Petry) إلى استعارة مفهوم “البروليتاريا الرثة”، أحد المصطلحات الشهيرة لماركس، وإطلاقه على المهاجرين المسلمين والأفارقة.
من الواضح أن أرقام الأمم المتحدة تثبت بأن العالم يمر حاليا بإحدى موجات النزوح الكبرى التي عرفتها البشرية في مراحل تاريخية مختلفة. صحيح أن معظم اللاجئين يبحثون أولا عن ملاذ آمن داخل أوطانهم أو في البلدان المجاورة، إلا أنه على المدى البعيد فإن الوجهة الحقيقية لأفواج المهاجرين تتمثل في الدول الغنية، وخاصة البلدان الرأسمالية المتطورة في أوروبا لكونها تعتبر الأقرب جغرافيّا إلى الدول الطاردة في الشرق الأوسط وأفريقيا، هذا إضافة إلى أنها أكثر انفتاحا بالمقارنة مع دول متقدّمة أخرى مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية التي تتبنّى تقليديا سياسة الانغلاق أمام الوافدين من الخارج. وعلى الرغم من أن أعداد اللاجئين إلى أوروبا سجّلت تراجعا كبيرا في عام 2017 بفضل الاتفاقية مع تركيا وتأمين الحدود البرية والبحرية، إلاّ أن الكثير من المعاهد المتخصصة تتوقع بأن ضغوط الهجرة في الفترة القادمة ستكون أكبر، الأمر الذي يضع النظام الدولي والاقتصاد الرأسمالي على المحكّ.
من دون شك تعتبر الهوّة الكبيرة في مستوى المعيشة بين ضفتي البحر المتوسط القوة الدافعة الأكبر وراء موجة النزوح الحالية التي تطرق أبواب أوروبا بكل قوة. ولن تختفي هذه الضغوط مهما اتخذت أوروبا من إجراءات لتحصين حدودها الجنوبية ولزيادة ارتفاع الأسوار المانعة المحيطة بجيبي سبتة ومليلة الإسبانيين وغيرها. وسيبقى حلم الوصول إلى نعيم أوروبا يستحق في نظر مئات الآلاف والملايين المغامرة بحياتهم وركوب مياه البحر المتوسط الهائجة. هذا الواقع يعبّر في جوهره عن تناقض جديد للرأسمالية لم يلعب دورا كبيرا أثناء حياة كارل ماركس، ألا وهو التناقض بين حرية انتقال السلع وتدفق الرساميل عبر الحدود الوطنية من جهة وبين القيود المفروضة على حركة البشر والقوى العاملة من جهة أخرى. بهذا المعنى لا تعتبر موجات الهجرة الحالية نتيجة منطقية للعولمة فقط، وإنما أيضا إحدى مظاهر أزمتها، الأمر الذي يثير التساؤلات عن مستقبل أسلوب الإنتاج الرأسمالي وقدرته على التأقلم. من هنا يمكن الاتفاق مع سلافوي جيجك عندما يقول في كتابه “الصراع الطبقي الجديد” بأن أصل المشكلة يكمن في أن “السلع يتم تداولها في عالمنا المعولم بحرية، بعكس البشر”. ففي حين تصرّ الدول الصناعية (وبما فيها الصين الشيوعية) ومعها صندوق النقد الدولي على تحرير التجارة الخارجية وأسواق السلع والخدمات ونبذ الحمائية وتشجيع الاستثمارات الخارجية، تبقى أسواق العمل مغلقة بوجه الغرباء. لهذا تنطوي “العلاقة القائمة بين عالم رأس المال وحرية سفر الأفراد على تناقض كامن” بحسب جيجك. غير أن الفيلسوف الماركسي نفسه يرفض دعوة البعض من اليساريين الليبراليين إلى حل هذا التناقض عبر تطبيق مبدأ “حرية السفر للجميع″، لأن المهاجرين لا يريدون التمتّع بحرية السفر بحد ذاتها، وإنما الإقامة في بلد يختارونه وينتظرون منه توفير حياة مناسبة لهم.
تُسلّط هذه التناقضات أيضا الضوء من جديد على التفاوت في توزيع الثروة والدخل في النظام الرأسمالي على المستويين المحلّي والعالمي. وقد ارتبط هذا الموضوع في السنوات الأخيرة باسم الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Piketty) الذي اكتسب شهرة كبيرة بعد صدور كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” في عام 2014. لا يخفي بيكيتي ارتباطه الفكري بكارل ماركس من خلال اختيار عنوان كتابه فقط وإنما أيضا في مضمونه. كما تشكّل فرضياته الأساس النظري لـ”التقرير العالمي لعدم المساواة لعام 2018″ الذي أصدره مؤخرا بالتعاون مع مجموعة باحثين. هنا يحاول بيكيتي وفريقه من خلال تحليل كمّ هائل من البيانات أن يثبت أن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يصبحون أكثر فقرا. وفقا لذلك لا تسري عدم المواساة هذه في داخل كل بلد فقط وإنما أيضا في العلاقة بينها. يشير هذا التقرير إلى أن أغنى 10 بالمئة من السكان يجنون في الولايات المتحدة 47 بالمئة من إجمالي الدخل القومي، بينما تبلغ النسبة في أوروبا 37 بالمئة وفي الصين 46 بالمئة. وبحسب تقديرات بيكيتي فإن منطقة الشرق الأوسط تحتل المرتبة الأولى في العالم في مؤشر عدم المساواة حيث يستولى أغنى 10 بالمئة من السكان على 61 بالمئة من الدخل القومي، متفوّقة بذلك على منطقة أفريقيا جنوب الصحراء حيث تصل النسبة إلى 55 بالمئة. تُذكّر هذه الحسابات بنظرية كارل ماركس عن الإفقار النسبي للبروليتاريا، وإن كانت تحذّر في حقيقة الأمر عن تراجع أهمية الطبقة الوسطى. ويعزي بيكيتي اتساع الشقة بين الفقراء والأغنياء في حال صحة حساباته إلى أنّ معدل الفائدة يفوق على المدى الطويل معدل النموّ الاقتصادي، أو بكلمات أخرى أن عوائد وأرباح رأس المال تنمو بنسبة أسرع من نموّ الدخل الناجم عن العمل (الأجور). ما ينطبق على توزيع الدخل داخل كل بلد يسري أيضا بحسب بيكيتي على العلاقة بين البلدان الفقيرة والغنية. وفقا للبيانات المنشورة في تقريره الأخير كان متوسّط دخل الفرد في أفريقيا يقارب 65 بالمئة من المتوسّط العالمي في عام 1950. بعدها سجل هذه المؤشر انخفاضا مطّردا ليصل في عام 2016 إلى 42 بالمئة فقط. غير أن تقرير بيكيتي يُقرّ أيضا بأنّ آسيا نجحت في هذه الفترة في رفع هذه المؤشر من 34 بالمئة إلى قرابة 80 بالمئة. ويعود الفضل في هذا التحسّن بالدرجة الأولى إلى نموّ مستوى الدخل في الصين والهند، الأمر الذي يؤكد على أهمية بحث العوامل الداخلية في ما يتعلق أيضا بفهم أسباب موجة النزوح الحالية وتحديد المسؤولية عنها.
حاول البعض من المثقفين اليساريين رسم صورة رومانسية عن اللاجئين القادمين من دول فقيرة وتصويرهم على أنهم بروليتاريا عصر العولمة الذين سيشكّلون لاحقا الطليعة الثورية المؤهلة للتغيير. في المقابل اتسعت جبهة المناهضين لموجة النزوح الحالية لتشمل الكثير من قوى وأحزاب اليمين المحافظ واليمين الشعبوي والمتطرّف وجزءا كبيرا من الرأي العام في أوروبا الغربية والشرقية والولايات المتحدة وأستراليا وغيرها
لا تعاني الكثير من بلدان العالم الإسلامي والقارة الأفريقية من صراعات وحروب داخلية ومن سوء الإدارة وفساد النخب الحاكمة فحسب، وإنما أيضا من مشكلة الانفجار السكاني. على مدى عقود سجلت معظم هذه البلدان معدلات نموّ سكاني تزيد عن 3 بالمئة سنويا الأمر الذي يعني تضاعف عدد السكان خلال أقل من 25 عاما. وبما أن معدلات الإنجاب المرتفعة جاءت نتيجة عوامل صحية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية متنوعة، فإن نزع فتيل القنبلة الديموغرافية في هذه البلدان يتطلب فترة زمنية طويلة. وحتى بافتراض تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة وسياسة اقتصادية ناجحة فإن موارد هذه البلدان لن تكفي لتوفير فرص عمل وتعليم وتأهيل وغذاء ورعاية صحية لهذا الفائض من الأجيال الشابة، الأمر الذي يعني خلق أرضية خصبة لاستمرار وتفاقم دوّامة العنف والصراعات وعمليات التهجير والنزوح. في المقابل تعاني القارة العجوز أوروبا من ظاهرة الشيخوخة والهرم نتيجة انخفاض معدلات الإنجاب وارتفاع مؤشر توقع الحياة بالتزامن مع ترف غير مسبوق. وهو ما دفع بابا الكنيسة الكاثوليكية فرانسيس إلى التهكّم على أوروبا التي شبّهها في كلمة له أمام البرلمان الأوروبي في أواخر عام 2014 بـ”امرأة كبيرة السن عاقر لا تنجب الأطفال”. وربما ليس صدفة أن تنطبق هذه الصفة على الأقل على زعيمتي أقوى بلدين أوروبيين، هما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. لكن موقع زعيمتي ما يُدعى بالعالم الحرّ تضعضع كثيرا في السنوات الأخيرة، ولم يكن ذلك بعيدا عن تداعيات أزمة اللجوء والهجرة. في المستقبل أيضا ستبقى قوانين الديموغرافية محرّكا قويّا لحركة النزوح بين الجنوب والشمال. غير أن هذا التباين الصارخ في الوضع السكاني بين البلدان الفقيرة والغنية يوحي للوهلة الأولى وكأن هناك فرصة للتكامل بحيث يربح الطرفان. بيد أنّ الرابح الأكبر من تدفّق اللاجئين حتى الآن هي عصابات تهريب البشر التي تجني من وراء “صناعة” اللجوء أرباحا خيالية. بحسب تقديرات الأمم المتحدة تُقدّر إيرادات هذا القطاع الاقتصادي الرائج في تركيا وشمال أفريقيا وأوروبا بنحو 10 مليارات دولار سنويا. وفي الوقت الذي تزداد فيه نسبة الأرباح مع كل إجراء حكومي يهدف إلى الحدّ من الهجرة غير الشرعية، فإن هذا العامل الاقتصادي يمثّل في حد ذاته حافزا لازدهار “صناعة” اللجوء.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يريد الوافدون الجُدد عندما يصلون إلى وجهتهم؟ هل سينضمّون إلى صفوف البروليتاريا ويساهمون بالتالي في إعادة إحياء روحها الثورية، كما يحلم البعض من ممثلي اليسار الأوروبي؟ ينطلق هؤلاء عادة من أن اللاجئين يفقدون خلال هروبهم كل ما يملكون من أموال وممتلكات ويخسرون معها أيضا مكانتهم الاجتماعية وموقعهم الطبقي. بحسب هذا التفسير يصبح هؤلاء في المجتمع الجديد في وضع ينطبق عليه تعريف ماركس للبروليتاري باعتباره يتمتع بـ”حرية مزدوجة”، بمعنى أنه حرّ في بيع قوة عمله وحر أيضا من وسائل الإنتاج. لا يعبّر هذه الموقف عن خيبة أمل المثقفين اليساريين من تلاشي “الدور الثوري” للطبقة العاملة في الدول الغربية فقط، وإنما يتجاهل أيضا أنّ المهاجرين يشكّلون أحيانا ما دعاه ماركس بـ”الجيش الصناعي الاحتياطي” الذي ينافس العمال المحليين على فرص العمل ويوظفه الرأسماليون كورقة إضافية للضغط على الأجور. من جانب آخر لا يكتفي الوافدون بالحرية المزدوجة للعامل الأجير بحسب المفهوم الماركسي، وإنما يريدون أيضا التمتع بحرية ثالثة، هي التنقل عبر الحدود والوصول إلى الجنة الموعودة. ومن الملفت للنظر أن ذلك لا ينطبق فقط على مئات الآلاف من المهاجرين العالقين في ليبيا أو تركيا، وإنما أيضا على نظرائهم الذين ينجحون في عبور البحر المتوسط والوصول إلى إيطاليا أو اليونان حيث يرفض الجزء الأعظم منهم البقاء هناك، ويصرون على مواصلة الزحف نحو ألمانيا والدول الأسكندنافية الأكثر ثراءً بعد أن تكفلت العولمة وأدواتها المتمثلة في الإنترنت وفيسبوك والهواتف الذكية بنقل صور هذا الرفاه إلى أبعد قرية في الأدغال الأفريقية. من الواضح أن هذا السلوك لا يعبّر عن موقف مناهض للرأسمالية ولا يوحي بأنهم يبحثون عن بديل لها، بل على العكس أن حلمهم يتلخص في التمتع بنعيم الرأسمالية في هذه البلدان وبامتيازات نظمها الاجتماعية والصحية. صحيح أن الكثير من العمّال الأتراك الذين جاؤوا في ستينات القرن الماضي للعمل في مناجم ألمانيا ومصانعها، وأن أبناءهم ينتخبون اليوم في الغالب أحزابا ألمانية ذات توجهات يسارية، إلاّ أن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم يشككون بالنظام القائم أو يدعون إلى القضاء عليه. علاوة على ذلك يصعب تعميم هذه الظاهرة على موجة الهجرة الحالية التي جاءت بأجيال مختلفة تحمل في كثير من الأحيان أفكارا إسلاموية محافظة أو تميل إلى التشدد والتزمّت ورفض القيم الأوروبية.
من المؤكد أن الغرب يرى في أفواج النازحين من عدد من البلدان الإسلامية والأفريقية التحدي الأكبر منذ عدة عقود. فبعد أن بدا شبح الشيوعية وكأنه اختفى إلى الأبد مع تفكك الاتحاد السوفييتي والنظم السائرة في فلكه وانحسار الحركة الشيوعية العالمية، تقف الرأسمالية في عصر العولمة إزاء ظاهرة يصعب التكهن بخطورتها وسط مخاوف من خروجها عن نطاق السيطرة وتحوّلها إلى تسونامي يأكل الأخضر واليابس. وإذا كانت اللهجة التي يستخدمها كل من دونالد ترامب وأنجيلا ميركل وتيريزا ماي وإيمانويل ماكرون تختلف كثيرا بشأن توصيف الهجرة، إلاّ أن جميع زعماء الدول الصناعية متفقون في أنهم يرون فيها سلاحا ذا حدين. من جهة يمكن أن يساهم تدفّق المهاجرين الشباب ليس فقط في ضخ دماء جديدة في مجتمعات تعاني من الهرم، وإنما أيضا في تلبية احتياجات أسواق العمل وتغطية النقص في الأيادي العاملة، وبالتالي تجديد القوى الدافعة للرأسمالية وقدرتها على تجاوز أزماتها. من هنا يمكن تفسير موقف قطاع الأعمال المؤيد عموما للهجرة التي يرى فيها عاملا يساعد في إضعاف النقابات العمالية وفي الحد من ارتفاع مستوى الأجور.
تعتبر الهوّة الكبيرة في مستوى المعيشة بين ضفتي البحر المتوسط القوة الدافعة الأكبر وراء موجة النزوح الحالية التي تطرق أبواب أوروبا بكل قوة. ولن تختفي هذه الضغوط مهما اتخذت أوروبا من إجراءات لتحصين حدودها الجنوبية ولزيادة ارتفاع الأسوار المانعة المحيطة بجيبي سبتة ومليلة الإسبانيين وغيرها. وسيبقى حلم الوصول إلى نعيم أوروبا يستحق في نظر مئات الآلاف والملايين المغامرة بحياتهم وركوب مياه البحر المتوسط الهائجة
بيد أن الوافدين الجُدد يمكن أن يصبحوا بالفعل حفاري قبر الرأسمالية، بل والحضارة الغربية، وأن يشكلوا تهديدا جديا للاستقرار السياسي والاجتماعي وللهوية الثقافية والانتعاش الاقتصادي، إذا ما فشلت المجتمعات المضيفة في دمجهم، وإذا ما أخفقت الأسرة الدولية في التحكّم بالموجات البشرية بطريقة تساهم في تعظيم فوائد الهجرة للجانبين. تدريجيا تترسّخ القناعة لدى مجتمعات غرب وشمال أوروبا أيضا بأنها ستتحوّل عاجلا أم آجلا إلى بلدان هجرة تقليدية على غرار الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. في الوقت ذاته بدّدت الموجات البشرية القادمة نحو أوروبا البعض من أوهام العولمة، وفي مقدّمتها التصوّر بإمكانية فتح الأسواق على المستوى العالمي والإبقاء في نفس الوقت على أسواق العمل مغلقة ضمن الحدود الوطنية. فمن يطالب بحريّة تجارة السلع والخدمات وبتنقل رؤوس الأموال والاستثمارات دون حدود، يجب أن يتوقّع أيضا تدفّقا أكبر للمهاجرين النظاميين وغير النظاميين. ويفرض هذا الواقع على جميع الدول الثرية إصدار قوانين خاصة بالهجرة، وبما يوفّر فرصا عادلة أمام الراغبين للهجرة بطريقة شرعية بدلا من المغامرة بحياتهم والوقوع فريسة لعصابات التهريب. كما أنّ الاستفادة من مزايا الهجرة يتطلّب أيضا تطبيق برامج اندماج فعّالة في الدول المستقبلة تحسّبا لنشوء مجتمعات موازية ولسحب الأرضية من تحت أقدام اليمين المتطرّف ودعاة كراهية الأجانب. بيد أنّ عملية الاندماج لا تصطدم بعوائق اللغة وضعف التأهيل وصعوبة الانخراط في سوق العمل فحسب، وإنما بالدرجة الأولى بعوامل ثقافية وحضارية. وحتى لا يصبح اللجوء والهجرة مصدرين للصراعات والانقسامات ولأعمال العنف في البلدان المضيفة، يجب أن تترسّخ قيم مشتركة للتعايش بين سكان البلاد الأصليين والوافدين من ثقافات أخرى. هنا يمكن لمبادئ التسامح وقيم التنوير ودولة القانون وحرية العقيدة وفصل الدين عن الدولة والمساواة بين الرجل والمرأة واحترام حقوق الأقليات وغيرها أن تشكّل هوية جامعة وأساسا للعيش المشترك بين جماعات ذات أصول إثنية ودينية متنوعة. ومع أن هذه القيم أصبحت عالمية وتهمّ الإنسانية جمعاء، إلاّ أنه يجب الإقرار بأنّ انتشارها تزامن منذ البداية مع نشوء وتطوّر الرأسمالية الحديثة في أوروبا ضمن عملية بطيئة ومعقّدة تخلّلتها أيضا انتكاسات خطيرة، والتي لا يمكن استبعاد حدوثها مرة أخرى.
على المدى الطويل يتوقف ضبط موجات الهجرة حول العالم وإبقاؤها ضمن أبعاد قابلة للرقابة والسيطرة على مدى النجاح في مكافحة أسباب الهروب والنزوح والتهجير في المناطق المبتلية بالحروب والإرهاب والمجاعة والفقر والتضخّم السكاني والقمع السياسي والعنف الديني. غير أن حلّ هذه المهمة الضخمة لن يكتب له النجاح من خلال تغيير منظومة العلاقات الدولية وحدها، وإنما بالدرجة الأولى عبر تطبيق إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية جذرية في تلك البلدان التي تُشكّل المصدر الأول للموجات البشرية. على المستوى الخارجي بدأت دول الشمال الغنيّ تدرك أنّ من مصلحتها أيضا تعديل السياسات الخارجية وإعادة النظر بأولويات المساعدات التنموية والتفكير بإطلاق مشروع مارشال جديد للنهوض بأوضاع حزام الفقر الممتد من وسط أفريقيا وحتى غرب آسيا. غير أنّ كل هذه الجهود ستذهب أدراج الرياح إذا لم تتوفر الشروط الداخلية اللازمة لتحسين الظروف المعيشية لمئات الملايين من البشر في البلدان الفقيرة وتقليص الفجوة بينها وبين الدول المتقدّمة في مؤشرات الدخل ونوعية الحياة. لن يتحقق ذلك بالتأكيد خلال فترة زمنية قصيرة لأنه يشترط قبل كل شيء مراجعة شاملة للسياسات وتجديدا للخطاب السياسي والديني ونبذ العنف والحدّ من نفوذ النخب الفاسدة والبدء في عملية تنمية مستدامة تضمّن قدرا من العدالة في توزيع ثمار النموّ الاقتصادي والعولمة. حتى ذلك الحين ستبقى الهجرة غير الشرعية مغامرة قد تنتهي بمأساة بالنسبة للآلاف من اليائسين وبشبح يقضّ مضاجع مراكز العالم الرأسمالي.
عندما ولد كارل ماركس قبل 200 عام كانت أوروبا تعيش حركة هجرة واسعة نحو الولايات المتحدة الأميركية والتي قدّمت نموذجا ناجحا لفوائد الهجرة عبر مساهمتها في نشر الرأسمالية وازدهارها في العالم الجديد ضمن عملية تاريخية طويلة تُوّجت بإقامة أقوى قلاعها هناك. فهل ستُعطي موجات النزوح الحالية قوة دافعة جديدة لهذا النظام الاقتصادي والاجتماعي؟ أم أنها ستُفاقم من تناقضاته وتُعجّل بأفوله؟