تشكيل القصيدة، بناء العالم

الخميس 2021/04/01
لوحة: فؤاد حمدي

1

كتبتُ أوّل قصيدة في سنّ التّاسعة ولم أكن أعلم ماذا كنتُ أفعلُ وما الّذي كنتُ أكتبُهُ. فرضت الكلمات نفسها عليّ ولم تكن أيّ كلمات، كانت بلغة غير لغتي اليوميّة، كانت بالفرنسيّة. وصارت تلك الكلمات متنفّسا لي وأخذت تتبلور وتتطوّر لتبني سطورا فأبياتا فقصائدا. توجد عبارة بالفرنسيّة − يبدو لي أنّ من شأنها وصف قيمة ما أعيش −، وهي “(الشّعر) مكّنني من إخراج رأسي من الماء”. نعم، كان كذلك: صار الشّعر منهجي في الحياة والبحث والتعلّم. ومكّنني من الخروج من واقع لم يكن دائما مرحا. فالشّعر كان رفيقا لي وكان واقعا مغايرا وحلما عشته في اليقظة قبل النّوم.

2

كلّ شيء، نعم كلّ شيء في التّجربة الشّعريّة مغاير لكلام النّقد والنقّاد. فالتّجربة النّقديّة، بما هي فعل قراءة ذاتيّة وإن كانت تدّعي الموضوعيّة والمنهجيّة، تبقى “كلام على الكلام”، وهي بذلك لا تعوّض العلاقة الشخصيّة الحميميّة بين الشّاعر والشّعر، بين من يكتب القصيدة وكلمات القصيدة. وأنا أكتب للتوّ، تبادر إلى ذهني أمران، الأوّل يتمثّل في قول إنّ “المتفرّج فارس”، بمعنى أنّ المتفرّج على مباراة كرة القدم أو “طرح” الشّطرنج ليس الفاعل الحقيقي. يمكنه طبعا أن يغتبط لبعض الحركات وأن يغضب لأخرى، لكن لا دور له في الفعل. أمّا الثّاني فهو أنّ النّاقد لا دور له في إبداع القصيدة إن كانت رائعة أو ضعيفة، هجائيّة أو بكائيّة. الشّاعر الحقيقي لا ينتبه لكلام النّقد والنقّاد الّذين هم في أغلب الأحيان شعراء وكتّاب فاشلون. يمكن قول ذلك عن النّقد الأدبي الحديث من سانت – بوف (1804 – 1869) إلى رولان بارت (1915 – 1980).

في الحقيقة، وإن بدوتُ للبعض غير عادل مع النّقد، فإنّي أكاديمي ومطّلع على نظريّات القراءة والكتابة النقديّة، لذلك أسمحُ لنفسي بأن أقول أنّ الكتابة الشّعريّة خصوصا والكتابة عموما مكّنتني من فهم نفسي وكتاباتي. ويبدو لي أنّ أفضل ناقد للشّاعر هو الشّاعر ذاته.

3

طبعا، لا يمكنني أن أتخيّل المشهد الشّعري العربي والفرنسي وربّما العالمي دون أدونيس على سبيل المثال. فصوت أدونيس الشّاعر والنّاقد والمفكّر من أجود وأدقّ وأهمّ ما يكون. في البداية، لم أنتبه إلى أدونيس إلاّ من خلال أعماله الشّعريّة والنقديّة والفكريّة المترجمة إلى الفرنسيّة. وذلك ربّما لأنّ الفرنسيّة صارت بمرور الزّمن لغتي وأفقي وعالمي. لكن، خلال العشر سنوات الأخيرة، اعتنيتُ بجديّة بأدونيس الّذي قرأتُ له كشاعر وناقد ومفكّر فرنسي وكوني لا عربي. يبدو لي أدونيس “فلتة” بمعنى أنّه حالة متميّزة لا تقع إلاّ مرّة أو أقلّ كلّ قرن أو أكثر. فعندما أفكّر في أدونيس، وحده اسم بودلير يفرض نفسه، لأنّه قام بثورة فكريّة في الشّعر وفي اللّغة وفي علاقة النّاس بالأدب.

4

لا أعتبرُ نفسي شاعرا عربيّا وإن كنتُ تونسيّا منخرطا ثقافيّا في أفق الحضارة العربيّة الإسلاميّة. أكتبُ أساسا بالفرنسيّة وأنتمي فكريّا وحضاريّا إلى أفق أوسع. ففي تونس، على حدّ علمي، يصدر سنويّا أكثر من 500 مجموعة شعريّة أغلبها على نفقة أصحابها. لماذا؟ لست أدري. من يقرؤها؟ لا أعلم. المهمّ، أنّ أغلبها لا تصلح للقراءة والنّشر. والأمر محزن لأنّ الخسائر كبيرة جدّا: من جهة، الدّولة في شخص وزارة الثّقافة تدعم مثل هذه المنشورات؛ ومن جهة أخرى، الطّبيعة تتكبّد كلّ الخسائر كما كان يقول الشّاعر التّونسي الرّاحل محمّد الصغيّر أولاد أحمد “يا كم يكتبون! ويؤلّفون جملا، فقرات، فصولا، كتبا، أعمالا كاملة، مكتبات لا حصر لها، تستنسخ مكتبات لا حصر، دون أن يعوا أنّهم يقلّصون بذلك عدد الأشجار والنّباتات (مصدر صناعة الورق) ويبشّرون بالتصحّر والمجاعة والطّاعون” (“مسودّة وطن”، تونس، الدّار العربيّة للكتاب، 2015، ص. 328).

5

طبعا، الواقع خياليّ ضارب في الخيال أكثر من الخيال ذاته. هذا معلوم منذ الأزل، لكن، لا شيء يمكنه تعويض النّظرة التّفاؤليّة الّتي تأتي من عيون الشّعراء وعلى لسانهم. هذه قناعتي الشخصيّة. فعندما نقرأ لكتّاب أمثال جول فيرن، جورج أورويل وفيليب ك. ديك، بالرّغم من الاختلاف القائم بينهم، فنحن لا نقرأ روايات الخيال العلمي، بل أعمال فنيّة استشرافيّة تعلن عن عوالم جديدة تجلّى البعض منها اليوم. نعم، هذا صحيح… وهذا يخصّ جانبا من جوانب الحياة، في حين يختصّ الشّعر والشّعراء بجوانب أخرى، كمثل هذا البيت حيث يصف كعب ابن أرقم اليَشْكُرِيُّ زوجته قائلا “ويَوْماً تُوافِينا بَوجْهٍ مُقَسَّمٍ/كأَنْ ظَبْية تَعْطُو إِلى وارِق السَّلَمْ” (“لسان العرب”، ص. 6395). وتداولت بعض المواقع والصّفحات هذا البيت ناسبة إيّاه إلى امرئ القيس، لكن الجميل يتمثّل في الصّورة المصاحبة لظبية في حالة وقوف كما وصف الشّاعر…

طبعا، يحقّ لمن يرغب في الصّمت أن يفعل ما يشاء وأن يتوقّف عن الكتابة، كما فعل أرتور رامبو تاركا كلّ شيء وراءه ليذهب للاتّجار بالسّلاح في أفريقيا. لكن ليس كلّ من يريد أن يكون رامبو وليس كلّ صمت بليغ لم تكتب. وفيما يخصّني، سأكتب، شعرا ونثرا، طالما عندي ما أشعر به وما أقوله.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.