تطبيع مع التاريخ

الأحد 2019/12/01
لوحة سعد يكن

قبل أن أكتب رواية “اليهودي الحالي” كانت لدي أسئلة كثيرة، تتعلّق بمحنة الوجود الإنساني، وتتشعب إلى استفهامات أخرى عن الوطن ومفهوم الوطن، وهل الوطن ضرورة؟ ولماذا يتحوّل إلى قسوة حين يتحول من مفهوم أو فكرة إلى ممارسة يومية؟

حاولتُ أن أنشغل بهذه الأسئلة في روايتي الأولى، لتتبعها “اليهودي الحالي” التي بدت لي ملحّة، في كثير من صورها، في الذاكرة.

فأنا نشأت في مجتمع يتعامل مع اليهود كزائدة وطنية، لا بد من إخضاعها للجسم الكلي، أي أسلمتها ودمجها في الثقافة السائدة، وما عدا ذلك فهي غير مرغوب فيها.

كان المجتمع المعاش يطلق على كل من هو سيء، من المسلمين، صفة اليهودي، وإذا أراد أحد أن يوجه شتيمة إلى شخص ما قال له “يا يهودي يا ابن اليهودي”، منطلقين من مقولة “إن اليهودة بالقلب”، على اعتبار أن كل يهودي سيء، من وجهة نظرهم.

وهكذا، بحثت عن هؤلاء اليهود ليصبحوا جزءاً من انشغال دائم ظل قرابة ثلاثين سنة، وذلك إضافة إلى أخبار الصراع العربي-الإسرائيلي التي أسمعها كل يوم منذ طفولتي، حيث شدتني إلى تعزيز هذه الأسئلة بتساؤلات عن خلفية هذا الصراع، ولماذا؟

في عودتي للتاريخ اليمني وجدت أن الديانة اليهودية كانت أكثر الديانات انتشاراً ومكانة لدى اليمنيين قبل الإسلام، حتى إن ملكين (أسعد الكامل وذو نواس) اعتنقا هذه الديانة لتصبح بمثابة الديانة الرسمية أو المركزية؛ وأنه بالرغم من كل التحولات التاريخية العاصفة، بقي لليهود مكانتهم في المجتمع اليمني، بل كانوا عماده وأسياد فنونه الجميلة وأعماله المهمة، حتى العصر الحديث (وهو ما صار في متناول روايتي “بخور عدني”).

وقد أخذني بحثي إلى اكتشاف جوانب مهمة في تاريخ هذا الصراع بقيت مغيّبة، في الأدبيات العربية الحديثة، ومنها نظرة كتب التاريخ العربي لليهود سواء في حياتهم المشتركة أو في علاقاتهم المكانية والصراع حول ذلك، إضافة إلى النصوص الدينية وتفسيراتها، وأثرها على مفهوم الوطن: الوطن الحلم المدون في الكتب القديمة والوطن المحقق المعاش.

كل هذه الأسئلة، أظن أنني اختبرتها في الرواية من خلال قصّة حب بين فاطمة المسلمة وسالم اليهودي، وما يتبع علاقتهما من مصائر.

ولأنني لم أنطلق من موقف أيديولوجي أو سياسي أو أخلاقي فإنني بالتأكيد لم أقدّم إجابات على هذه الأسئلة، أو أحدد مسارات للحل؛ فالإشكالية بقيت حتى آخر سطر في الرواية.

ولقد لقيت الرواية الكثير من التنويهات النقدية والقرائية، وازداد أعداد طباعتها وترجمتها، ومع ذلك هناك من استبق، حتى قراءتها، وراح يتهمني بالتطبيع!

التطبيع مع من؟

سألتُ نفسي حينها، ووجدتني أظن أنني فعلاّ ذهبت إلى التطبيع، أو المصالحة والترميم، ولكن مع التاريخ.

فالرواية لا تعبّر عن موقف حزبي أو أخلاقي، أو تقوم بالتلميع والدعاية لأيّ جهة سياسية أو أيديولوجية، سواء مسلمة أو يهودية، لأنها إذا قامت بمثل هكذا دور فإنّها تكون قد خسرت صفتها الروائية.

إلى ذلك، لا يمكن أن أتحدث، وأنا في عجالة من وقتي، عن كل ما يتعلّق بهذه الرواية “اليهودي الحالي” أو في اشتغالي عن مجتمع اليهود في عدن في رواية “بخور عدني”.

وبالذات ما يتعلّق في الجوانب الفنية، حيث استفدت من شكل السرد العربي القديم في كتب الحوليات والتي تهتم بسرد ما هو أهم دون التركيز على التفاصيل، لكن ذلك جاء دون مماثلة أو مطابقة، مع استفادة من خبرات السرد الحديث طوال أكثر من أربعة قرون.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.