تعبيرية رمزية وتشخيص ساخر

هيلدا حياري هندسات وجوه قلقة
السبت 2020/08/01
ملامح وجوه مسطرة

ملامح وجوه مسطّرة، خريطة أوان بمربعات ومثلثات ومستطيلات، وخطوط عريضة تتخذ أوضاعا متقاطعة أو متراكبة، تنهض في خلفيتها دوائر حلزونية، ونمنمة خطية، سحنات أنثوية عاتية بعينين أو بواحدة، أو دونهما، ومبسم تنبهق منه سيجارة أو فاكهة أو مجرد حرف، مزيج من تشخيصية بنفس رمزي، وتعبيرية مستحدثة. على هذا النحو تتراسل أعمال هيلدا حياري من بيروت إلى الدوحة ومن نيويورك إلى لندن ومن بغداد إلى أصيلة.. مرورا بعشرات المدن والمعارض والأروقة. لم تكن هيلدا حياري القادمة من معترك الجسد والسياسة تترحل بوجوه وذوات وحروف منجمة وتقاطيع ألوان مبهرة فقط، وإنما تحكي رغبة جماعية في الانعتاق من روشم الشرق الحاضن لانكسار نسائي مؤبد، ذلك الصقع الحريف الغارق في حروبه وانتفاضاته وأبوياته المتفاقمة، وهندسات هجراته، من المدن إلى المعابر والمخيمات ومن الأسر إلى الشتات، ومن ترف الانتماء إلى التساكن بين المنابذ الطائفية واللغوية والعقائدية. تبدو الفنانة الأردنية المنصهرة بمشغلها في عمّان وكأنما تصوغ ذاكرة بصرية لمدينة معجونة بنكبات الجوار من التغريبة الفلسطينية إلى العراقية إلى السورية، تلك التي حولت عمّان ومعمارها الجسدي إلى ملتقى لاجئين وملتقطي أنفاس، ممن حملوا معهم توقهم ولوعاتهم وكوابيسهم، واستيهاماتهم الكلامية والبصرية.

“كائنات”، “أخبار”، “شاهدات” “وجوه ضد الحرب”، “قطعة.. قطعة”، و”2012” ثم “نساء بعد الحرب”، عينة تمثيلية لعناوين معارض تلاحقت عن الألم والتيه والتشظي؛ حيث بدت الوجوه النسائية المتحولة والمخترقة كاستعارات عن النهوض من رماد الفقد والمصادرة، لم تكن تلك الوجوه والأجساد المعاقة وغير المكتملة، متصلة بعناوينها على جهة التعبير الرمزي فحسب، وإنما متوافقة مع مسارات وأسماء بذاتها، لذوات أنثوية من لحم ودم، احتفظن بالقدرة على منح القوة للمحيط، وتحدّي سوداويته، بالطرز والأردية وأصباغ الملامح، وصوغ شطحات الحرية. لهذا كانت عناوين المعارض متصادية مع عناوين الأعمال الموغلة في تفصيل جدلية الانكسار والتحدي في شرق أوسط مأزوم، ومدن مستنقعة في الخسارات، تعكسها تضاريس السحنات والنظرة المنكفئة على لوعاتها وخيباتها المسترسلة.

ولعل انحياز هيلدا حياري لجماليات التشخيص التعبيري المتراسل مع تقاليد التمثيل الساخر والمرح، في تشكيل طبقات الكتلة ومجسمات الضوء والخلفية، لم يكن ليباعد بين اشتغالها ومأرب البحث عن هوية إشكالية لنساء جبلن من صلابة وحرية وفتنة، داخل جغرافيا ثقافية تسعى دوما لمصادرة لتلك الأقانيم في الكيان الأنثوي، من هنا يمكن فهم إحالة الفنانة في معارضها على إعادة تركيب الهوية البصرية للنساء “قطعة قطعة” وتشريحه ضمن محيط “الأخبار” الكارثية المتناسلة، ثم صياغة ملامح نهوض مفترض لـ”ما بعد الحرب” التي ليست دوما حروب جماعات فيما بينها، وإنما أيضا حروب أفراد ضد الجماعة، ووعيها المستنسخ لرغائب الإخضاع والإعاقة والمحو.

صفحات لتعابير الوجه

لللل

في المعرض الفردي الأخير لهيلدا حياري الذي التأم بغاليري “البارح” بالمنامة في أكتوبر من سنة 2019، وحمل عنوان “نساء بعد الحرب” استرسلت الوجوه الأنثوية مجددا في التجلي، ملتفعة بخرائط الألوان والحروف والدوائر، مع حضور كائنات حيوانية مضمومة إلى سحنات، أو ملتفة حول رقاب، أو مكللة لنواصي، أو متأملة في عيون، أعمال لوجوه فردية أو لوجهين متناظرين أو لمجموعات، مع خلفية معمارية مهوشة، ثم أعمال لأجساد عارية، مكسوة بألوان، ليست لأردية وإنما تنبت من مسام الجلد، أجساد بلا رؤوس ولا أطراف أحيانا أو بأطراف مبتورة مع كعب عال، صور تتخايل بوصفها أثرا لما بعد مطحنة الحرب الحقيقية واليومية، التي تخوضها أمّهات ثكلى وأرامل ومهاجرات ولاجئات، وأيضا لنساء باحثات عن استعادة كينونة مفقودة.

تبرز في البداية مجموعة أولى لوجوه فردية، وجوه فقط، دون جذوع ولا أطراف، زاهدة في النتوءات، تأخذ فيها الأنوف المستطيلة والأعين المتعرجة والشفاه المحدبة مساحات مالئة للتقاسيم، وجوه منهكة موجوعة ومستفزة بمفارقاتها، ولا تخلو من تشوه بعمق هزلي، يخفف من غلواء الإيحاءات الفجائعية لملامح النساء القادمات من ظلام “ما بعد الحرب”، يتحول الوجه إلى “صفحة” للكتابة البصرية، ويكفّ عن الاستكانة للتضاريس الحسية المأثورة، في أفق مضاعفة جوهره التعبيري. للوجوه دوما صبغة ناطقة بكنه الداخل، على نحو رمزي شديد التأثير، لكن ما استحدثته التشكيلية في السياق الحالي هو تحويل تلك التعابير اللحظية الهاربة والمتحولة إلى حدود لونية وتخطيطات، تؤبد التعبير البصري للوجه النسائي المفارق، وتحوله إلى “صفحة” ناطقة.

في نموذج من هذه المجموعة الأولى للوجوه الفردية تقترح هيلدا حياري عملا بعنوان “صلاة”، صورة جانبية لامرأة تتطلع إلى أعلى دون أن تنظر إلى شيء محدد، فليس لها عينان، الجلد يمتد ممّا فوق الأنف إلى الناصية، مزيج أصفر ووردي مع تزاويق حمراء، نقاط وخطوط دقيقة تغذي نصف الخد لناحية العنق، قبل أن تتساكن بجواره قطع لونية بشكل عمودي، في امتداد متواز، متباين الألوان، مع طغيان للأبيض والبني، إلى حدود الشعر المنسدل على النصف العلوي الظاهر من الظهر، شعر مصاغ من حروف وكلمات لا تتبين، تستعمل هيلدا عادة أبياتا شعرية لمتصوفة، تلوح الحروف السميكة في خلفية نصفها بني ونصفها الأسفل أزرق سماوي، بينما يكتسي الكتف الظاهر ألوانا متقاطعة مهوشة بالبياض، مع تطريزات لنقاط ودوائر حلزونية.

تتخايل صورة الأنثى (في وضعية الصلاة) نموذجا لمطلق الخشوع، ذلك الذي لا يحتاج لعينين، فعين المؤمن “قلبه”، تواصل داخلي مع السماء، في صمت أخاذ؛ وغالبا ما نستعمل للدلالة على التواصل بالنظر عبارة “لغة العين”، بينما توحي الصورة بحال يتخطى مجاز اللغة الصامتة والرامزة، يشطبها من أساسها ليعوض إمكان اللغة بنقيضها، ذلك الذي يقول بصدده دافيد لوبرتون “إن الله في نظر المؤمن لا يمكن اختزاله في دلالة محدودة، لأنه ينفلت من الكلام باعتباره في ما وراء الكلمات وخارج كل معنى” (الصمت: لغة المعنى والوجود، ص 233).

الثنائية ورهانات التناظر

ل

في مجموعة ثانية من اللوحات المائية والزيتية، وفي بعض الرسومات أيضا، تنتقل الوجوه الفردية لتجد لها نظائر، كما تصاغ أجساد نسائية ناقصة أو مكتملة عبر هيكلة ثنائية، ينبني فيها التماثل على الانزياح الجزئي لأحد الطرفين الصوريين. في معرض المنامة قدمت هيلدا عملين من هذه المجموعة، الأول بعنوان “نساء حوامل” والثاني بعنوان “سنرقص حتى ولو برجل مقطوعة”، يتشكل العمل الأول من لوحتين متقابلتين لامرأتين حبليين، من منظور جانبي، تتطلع كلتاهما إلى الأخرى، بغير ما عينين، ثمة وشاح بني مع دوائر صفراء يغطي منطقة العين في اللوحة الأولى، يقابله وشاح أصفر منحسر قليلا عن منطقة العينين اللتين لا أثر لهما في اللوحة الثانية، مساحة الخد الأبيض تخترقهما في التناظر الوجودي الملتبس. أكيد أن ثمة إقرارا بكون “التناظر تكافؤ بين الأشياء” (ليون ليدرمان وكريستوفر هيل، التناظر والكون الجميل، ص 19).

بيد أن ثمة أيضا تسليما بانتفاء الهوية، فالعينان هما البصمة ورمز التعريف بالكيان، ومحوهما إلغاء للخصوصي والفردي، وتعويم للوجه في مطلقه “الأنثوي”، ذلك الذي يتشكل عبر الخصوبة والحمل والولادة. في اللوحتين معا ثمة إلحاح على تجريد المجتمع (الممتد من المحيط إلى الخليج) للنساء من الفردية، وسجنهن في المطلق النوعي، لذا كان التكافؤ بين اللوحتين/المجازين دلالة على طغيان الحسي المعياري، في مقامات الصفات والخصائص، الذي تناضل النساء العربيات من بدايات النهضة إلى من بعد انتكاسات الربيع العربي لأجل تخطي أوهاده المرزئة.

وفي العمل الثاني يتقابل جسدان نسائيان دونما رأس، جسدان مقصوصا اليدين، ينهضان على ساقين بلا قدمين، في وضع لعبي، تنثني في إحدى اللوحتين ساق يمنى لأعلى تاركة محلها لفردة حذاء أحمر بكعب عال، بينما يشتبك القدمان في اللوحة المقابلة في وضع “لا”، ثمة ما يوحي برقص مرح لكتلة جسدية بألوان متعارضة، مع حروف تكلّل تفاصيل بارزة، ويذكّر العمل بمعرض سابق لهيلدا حياري عنونته بـ”قطعة… قطعة” فالجسد ينشأ بحسب المنظور على نحو تراتبي قائم على رصف قطع ملونة، معمارية كاملة لوجود مزده بحيويته الفطرية التي تتحدى المنبت القهري والأبوية والنكبات وتراث التطاحن الطائفي، لأجد توليد فرح داخلي واجتباء فتنة من جوف الخصاصة والانكسار.

تقاسيم لجسد المدينة

للل

في المجموعة الثالثة من أعمال هيلدا حياري تجتمع وجوه نساء بأحجام عاتية مع أجساد بأطراف مقصوصة، بزينة مختصرة، مع أناقة غير مصطنعة، تنبت في خلفية عمائر مدنية، بنايات وأفنية ونوافذ بألوان ترابية وبرتقالية وبيضاء، توحي بالعتاقة والبساطة والتضاؤل، مجرد أقواس ونوافذ مرتجلة وعمق سديمي. تتجلى الوجوه والأجساد كخيالات سحرية منبجسة من بقايا مدن، أو هياكل خرساء، يوحي التكوين التركيبي لأول وهلة بمماثلة ما، تبرز فيها النساء المعاقات المتشحات بالندوب بوصفهن امتدادا لترييف المدن وتجريف وجهها المرح، والتنكيل ببنيتها الموروثة عن الزمن الجميل، بالتزامن مع الارتداد الجماعي إلى الماضوية والتدين الشكلي، فتبدو المدينة تفصيلا في نكبة المرأة العربية، فهما معا تقفان جنبا إلى جنب للشهادة على زمن ما بعد الخراب.

في لوحة بعنوان “وسط البلد” تطل ثلاثة وجوه نسائية قاتمة على العمارة المرتجلة، البسيطة، من زار عمّان يعرف أن وسط البلد بات منطقة بسطاء ممن يكدحون لتحصيل كفاف يومهم، نساء منهمكات في حربهن اليومية للعيش، في أغلب الحارات والمناطق الشعبية تلتقط العين شقاء النسوة دوما فالرجال غائبون، ثمة فقط نساء وأطفال ممن تماهين مع الأبنية، ومنحنها رائحة وصخبا وألوانا، لا غرابة إذن أن تتجلى الوجوه في لوحة “وسط البلد” بمثابة كائنات خرافية قادمة من السماء، حيث لا حجب ولا ظلال، فقط تشوّه متناسل وممتد من نسغ الأجساد إلى الجدران الصلدة.

هكذا تعيد هيلدا حياري تكوين حكاية الجسد والهوية داخل المدن العربية، من عمّان إلى بغداد إلى القاهرة إلى الرباط، وتعجنها بجبلة المحيط الهش الغارق في ارتكاساته المتعاقبة، مثلما مزج مشغلها بين هموم السياسة والوطن والثقافة والعقيدة الفنية، في مدينة مثلت دوما ملتقى لروافد ثقافية متعددة، مؤلفة محكية بصرية عذبة ومريرة شكلت علامة فذة ضمن منجز الفن العربي المعاصر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.