تعديل في ضبط الحزن على مدينة اسمها بيروت
ليس على أي بحر من بحور الشعر،
من الخبب إلى الكامل إلى الطويل، تكتب بيروت،
لأنها فقط لا تكتب،
عصية على اللغة، ولا ترسم عصية على الألوان،
لا تقلد ولا تنتظم في هندسة الكلام،
كليلها المترع عادة بالكاس والعشاق، والندماء والشعراء وصحبة الفجر والبحر.
وفِي الأصل
لست موهوبا بالنظم، ولا بالنثر، إن كتبت، أكتب كمراياها المتناثرة تحت الشرفات،
لا ينفع جمعي، فلا يعيد لبنت الثلاث سنوات السندرا حاملة العلم الذي أطول من قامتها بسنة ونصف نهار ما بعد ظهيرة الرابع من أغسطس،
لا يعيد لها الضفيرة ولا يدها
ولا خيط طائرتها،
ولا دهشتها
ولا ضحكتها المستترة،
ولا عمرها، ولا عينيها السوداوين.
ولا تنفع استعاراتي بديلا عن حزن أمها، ولا التشبيه يعيد حبق الشرفة المنكسرة كظهر أبيها،
ولا الكناية ترمم البيوت،
فكل اللغة تحولت إلى حطام من زجاج وشظايا تابوت، أكنسه كي لا يدمي يدا باقية تسند خد السيدة وهي تحصي من بقي حيا من أهل البيت، ومن مات من الجيران وسكان الحي من أهل بيروت.
مصابٌ مصابٌ مصابٌ، بجرح لم أشف منه، حتى لو كتبت لألف عام،
حتى لو صرخت في ألف واد
حتى لو مشيت عاريا من بيروت إلى دمشق فبغداد، لم أشف، طالما هذا القاتل المشعوذ عرف موضع ضعفي، كلما التأم جرحي ينكؤه،
وكلما هم شاعر عاشق للمدينة يقتله،
وكلما صدح الليل بالغناء يطفئه.
في وتريات ليل مظفر النواب
قال للعرب
أهلا أهلا أولاد الـ”….” القدس عروس عروبتكم
لماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها.
عذرا يا سيدي، أيها العراقي المترع بالهجرات والحنين والأشواق،
أستعير منك ترحيبك لأقول:
بيروت ليست عروسا لا للعرب ولا للعجم،
هي بنت الساحل اللبناني،
مجنونة
خارجة من بيت الطاعة
وعليه،
عشيقة ربان المراكب والشمس،
أخت عشتار،
حفيدة فينوس،
جليسة الحكماء،
شاعرة في معبد باخوس
وراقصة في بحيرة البجع، كتاب الشوق، أبجدية الخلق، الأخت الكبرى لمدن الساحل، ولإناث الطير،
وأم تحسن تلقين أبنائها نسغ الحرية، خنساء لم ترث من قتل أخيها، بل قتلت قاتل أخيها الاسرائيلي، قبل التفويض الفارسي، صاح القاتل في ليلها: يا بيروت لا تطلقي النار عليّ كي لا أعود إلى أمي في تابوت.
أيها العار أنت الذي يجتر لسانه المستعار.
بيروت، يا أنت أيها الغفل، اغتصبها أهلها العرب، وكانت حروف لغة الضاد تسيل كلعابهم على طرابلس وحماة وحلب.
هم يخشون جمالها الفاتن الوحشي والمراوغ والحر الحر أكثر من خشيتهم من ربهم وأكثر من الغزاة، وأكثر من طوفان نوح، وأكثر من تأويل التوراة وأكثر من يوم الحساب.
هذه بيروت.
ومنذ أربعين سنة خطفها الفرس ومزقوا ثوبها البحري، وأفتوا بقتلها، وهي كالحورية توشوش العشاق وتميل.
…. وكانوا قبل ذلك خطفوا دمشق وصنعاء وبغداد،
لست من فصيل الشتامين وإن كنت أجله حين يصف مقامكم بالمزبلة،
ولست من مقام المداحين الذين وصفوكم بقادة المرحلة.
ولست ولست سواي أنا الذبيح عند الساعة الخامسة عند العصر من الرابع من أغسطس، اسمي بيروت.
وكنت أنت في القصر، تساوم الله عبر ممثليه على عمر إضافي.
أيها الغبي، أيها الغبي.
أمشي عابرا تلك المدن الأشلاء التي تملأ جدرانها الكالحة عمامات بحجم خرافي، لصور المتحدث الرسمي باسم الباري، عز وجل.
يبدو أجل تنبيهه لهذا المشعوذ كي يكف عن استخدام اسمه في وعكاته الإمبراطورية.
تمادوا، يا بيروت في قتلك وفِي هتك جمالك المجنون،
يا فجر بيروت الطويل، كما قال محمود درويش
“يا فجر بيروت الطويل
عجل قليلا
عجل لتعرف جيدا
إن كنت حيا
أم قتيلا.”
أيها القاتل المحترف،
لماذا تطلق رصاصك ثانية على القتيل؟
هو استقال من الحياة، لأنك قتلته، ومات،
لماذا أنت لا تستقيل؟
هو مات ومشيت شخصيا، في جنازته، دون مشاء باسمك، كما هي العادة في مراسم الدفن، والأعياد وقداس الآحاد. وصلاة الجمعة والمناسبات، وأصدرت بيان شجب، جهزه مستشارك الأول والأخير في منسوب أميته، وبكيت على التابوت بدموع مستعارة، لا دمع فيها ولا حسرة،
ماذا أنت؟ يقول اللغويون: تشبه الضمير المتصل
حينا والمستتر حينا
وفِي كل ما فعلت في حروبك وهروبك كنت مستعارا،
وعارا…
أيها القاتل المحترف الحاذق المتعجرف الدموي البنيوي كنص متماسك الخيبة، كنصل يلمع في العتمة يفضحه ضوء شمعة بيد راهبة تبحث عن الليل وعن الله،
ياالله، ما غايتك من خلق هذه الزواحف، اللزجة النتنة.
تجاورني في وطني ومسكني وحارتي وتقتلني وتسير في جنازتي منذ أربعين عاما، وتلفّ
جثماني بعلم البلاد، وترفع علمك الحزبي فوق ركام المدينة وفوق حزني،
هل لتوحي أنك حي أبدي؟
وحسب علمي أنت مؤمن، وتعلم أن الذي لم يلد ولم يولد ولم يمت، هو الله،
لماذا تطلق الرصاص ثانية على عبدالله؟
أيها القاتل المحترف
الغرّ
المسنُّ
المعمّم
المتواري
المختبئ
تحت قبة مجلس الأمةً
بصفتك منتخبا
ألا شاهدت أبي فوق عيني منتحبا؟
لماذا تطلق النار ثانية على أشلائي المنثورة تحت شرفات البيوت؟
يبدو أنت غفل، أنك ميت، والمدينة التي تجلس على ركامها لا تموت.
بيروت المحتلة.