تعرية التناقض بين السطح والعمق
لعل من المرتكزات الأساسية في الفن المعاصر إدراك المسافة بين المفاهيم وتَشَخُّصاتها المتصلة بوقع ما انقضي من الوقت وتحول إلى تاريخ؛ وأثر ما وُشِم بالداخل، وطَفَر على الجلد، وسُمّي هوية. لهذا كان لقاعدة الانتماء، دور جوهري في النطق باحتمالات الأعمال. ولم تكن تركيبات الفنانة نادية الكعبي (1978) المعجونة من جبلّة الالتباس، إلا ترسيخا لهذا الاعتقاد، هي الوافدة من عمق خلاسي: أوكرانية من جهة الأم، وتونسية من جهة الأب، لتكون إقامتها في برزخ منحاز إلى الشمال، (في ألمانيا تحديدا)، بعد دراسة استرسلت ما بين كليات الفنون الجميلة بتونس وباريس، إلى أن باتت المدن المتحولة والموهوبة للعبور، انتماء واعيا في حد ذاته، ليس للفضاء وإنما للزمن المنجم عبر الترحل.
تصوغ نادية الكعبي المتنقلة بين تونس وباريس وكييف ونيويورك وبرلين وسيدني ولشبونة وحواضر الخليج….، خريطة القشرات الناقلة لما يتخلل الفواصل في الزمن، وما بعد أثرها في التاريخ ، لذا كان اشتغالها متساوقا مع عدد كبير من صانعي الاختراقات البعدية للفن المفهومي؛ تجهيزات تنشأ على بنيات عمل كلاسيكي: لوحات صباغة، وكولاج، ومنحوتات، وتركيبات ناتئة من خارج مواد السند المكرس، لتنحت المفارقة، الناقلة لاضطهاد الجنس، ونسيان الوثيقة، والعبث بالحدود.
من هنا يبدو اشتغال نادية الكعبي بما هو انتشال للأثر العتيق من المحو، طبعا هو جهاد أمام المسافة، التي تمتد من المجال إلى المُدَدِ المرهونة للبقاء، وليس العيش إلا تمثلا لما نكونه كانتماء للذكورة والأنوثة، وللون وعمق الذاكرة، ومسافة لها أسيجة من رمل وأسلاك وخرسانة، إنه الافتراض الذي يمنح الفنانة المعاصرة، في كل الأحجام المعنوية المنغلقة على تكرارها، فسحة التنويع، حين تعيد صياغة المادة والظل واللون وشكل التركيب في ما بين الحدود المخترقة وما بعدها. ولعل افتراض نادية الكعبي لجدوى الوجود ضمن دائرة “الشيء المعقد”، وهجاؤها المسترسل للحياد والوضوح، والمناطق المعزولة في المسافة، هو ما جعل من المواد وأساليبها في التحقق امتدادا لجوهر ذاتي، تحياه بين اللغات والفضاءات والقرابات العائلية، إذ يضحى لسانها بعد عينها منذورا لترجمة المقاصد وتقريبها من المقتسمين لمجالها الشخصي.
عمران يعاكس الثبات
في عمل حمل عنوان “البساط الطائر “(غوغنهايم نيويورك 2011) تصوغ نادية الكعبي سردية العبور السري في المكان، والإقامة المؤقتة، هو بساط منذور للحرية، وفوق الامتلاك، وخارج الحدود، هو الما بين والما بعد في الآن ذاته، إنما دون تشخص: عواميد متدلية من السقف، مجبولة من هشاشة الخيوط المستلة من أبسطة الباعة الجوالين في مدينة البندقية بإيطاليا، لتنحت هيئات الفراغ، وليس الامتلاء الخاشع لهيكله، عرضٌ لبضاعة ثانوية تستقر لحظيا على فراش يسير الطي، لكي لا تكون ذاتها، وإنما انتظار لفراغها من فوق البساط، المكان المجازي الحر على نحو قهري، والفراغ غير المستكين، لذا كانت الخيوط المتدلية من السقف في العرض، مرهونة لقربها، وتضامها، وتعرجاتها، ولمدارج تخللاتها الظلّية، هي نقيض العمارة التي تبقى، وانحياز لفقه التلاشي.
لم يكن للبساط قضية، وإنما هيكل، ووقع، تنغلق عليه السجلات الأمنية وتقارير الحياة اليومية لدى مؤسسات المجتمع والدولة في مدينة البندقية، وتلتقطه عين الانتقال حيث التماهي مع الجغرافيا والفراغ أيضا، هو مفهوم لما بين التجهيز في لحظة مفتقرّة لليقين، لهذا حين تطالعنا الخيوط المتراكبة في هيئة مستطيلات أفقية معدنية يفترض في الناظر تجاوز الهيكل إلى اللحمة غير المرئية، صحيح أن توقه سيظل متطلعا لما بعد المعروض الهش والصلب، والملتبس في وقعه وانتظاراته، إنما ستكون لسردية البندقية قدرة تحويل الهيكل الزاهد في الامتلاء إلى كتلة بصرية مشبعة هجاء.
وغير بعيد عن هذا العمل وبمسافة زمنية غير هينة اختارت نادية الكعبي تطوير المفهوم والتصور ضمن دائرة أوسع، وداخل مشترك سندي يصل التجهيزات ببعضها، أي في دائرة الأثر المنسوج في “الما بين” و”الما بعد”، البساط ذاته جردته صائغة الخيوط من هويته البندقية، ليصير كيانا يطرز الشتات، والبسط والطي في الخريطة، ضمن عرض مختلف، هو بينالي دبي، حمل عنوان “تحت وجهات النظر الدائمة” 2009: قشور صباغة لفظتها الجدران، وزهد فيها الوقت والعين، وتركت لمصير التآكل، قبل أن تنتشلها جرابات الفنانة من نثار المعدوم، ينتقل السطح المتهرئ في سند خيوط حريرية ليرسم تخرقات جغرافية بلد، هي تحديدا، خريطة دولة الإمارات الحاضنة للبينالي ولسوق الأعمال الفنية وللتفكير بصددها، شظايا صباغات منقولة بهشاشتها تتدلى على شكل خطاطات غير متواصلة وممتنعة على التضام، والاسترسال، شكلها هو جزء مما يعكسه الضوء في الجدار المقابل للناظر، وينكسر في ثنايا لقاء الجدار بالأرضية، ظل تكتنز فيه ماهية النثار، وتتجلى، دون أن تمتلئ.
لم يكن في يوم ما للجغرافيا إلا إيحاؤها وظلالها، تشظيها المانح للوقت فرصة الجدل، وتثبيتها هو مجرد تحايل على اللحاءات والقشور، لهذا كان للخيوط المتدلية، في تجهيز نادية الكعبي “تحت وجهات النظر الدائمة”، فرصة البقاء في برزخ قول الامتداد وحجبه، النطق به بوصفه انتقالا وجسرا، دون اعتقاد، وبتشويش قصدي: فضاء يستدرج التحديث في “الما بين” دون “الما بعد”، حتى تستأنس العين مع رغبة وصل القشور اللونية الطافرة من جدار التاريخ، وربطها بالصبغة الحاضرة، بمجرّد خيط حريري، هو التحوُّل والسفرُ والجسرُ في آن واحد.
مشاريع عديدة تعيد فيها نادية الكعبي وصل العمران بالفراغات: “نحت الزمن”، و”آثار المخلفات”، و”مينشتاين” و”صيانة”.. وغيرها، في هذه الأعمال تمثُل المسافة بين عمل التجهيز ورتق المتلاشي من العمارة، متقاطعة ومتنائية في آن: قطع الفسيفساء، والحجارة، والرمل والملح، ومكعبات الألوان، وموازين متدلية، وظلال محسوبة الانعكاس، لحصار ثبات هارب من وقت المدن والجدران، الآهلة بما لا حد له من أجناس وأعراق، ومعتقدات شعوب لا تكف عن التنقل والهجرة وتجديد المواطن، وروابط الانتماء.
جسد يستعير الصلابة
ولم تكن لظاهر الكتل في أعمال نادية الكعبي جِبِلَّة المضموم على فراغه، كانت حيوات في معدن ولون وثوب وخيوط وخشب وورق وبقايا نثار، وظلال يجددها نفس المتروك لشأنه في ما يحيط وسع النظر، تبدو أجسادا لتضمنها إيقاعا ما، حيا، وغير مستقر ولا هادئ، كما أنها امتدادات لأجساد أصلية للنساء، إذ الهوية الجنسية هنا، لازمة في رسم مدارات الغيرية؛ القصد أن الفنانة المعاصرة تجعل الجسد خارج رهانات تشكله في قواعد التمثيل المأثورة لتاريخ الفن، تنقله لما بعد مفارقة صوره الراسخة والمنطوية على إلغازها المسترسل، وتجعله شيئا يُطلّ على مفهوم طارئ، هو غير ما يعنيه لفظ “الجسد”، مضمون يستدعي للذهن عبارة الفارابي في “كتاب الألفاظ” حين يقول “الأشياءُ التي تُرتَّبُ فيُشرفُ الذهن بها على شيء كان يجهلُه قبل ذلك فيعلمُه”(تحقيق: محسن مهدي، 1968، ص 100)، وما “الشيء” هنا إلا نظير التركيب في التجهيزات البصرية المسترسلة.
في سنة 2018 صاغت نادية الكعبي ترتيبا لمقولة “الجنس اللطيف” على نحو مستعار من حقل التكييف البصري لهذا الجسد الهش، عُنون العمل بالعبارة ذاتها “الجنس اللطيف”، حيث ترتصف الحروف ضمن لوحة تركيب لمئات الأدوات المعدنية القاطعة، المستعملة في صالونات التجميل النسائي، أدوات تقليم الأظافر، وشحذ حوافها، ونحت استداراتها، وملاقط دقيقة لإزالة الشعر الزائد من حواف الحاجبين، ودبابيس ومبار، تنتظم شاهرة حدودها إلى الواجهة، كسلاح دفاعي. تسعى لوحة التجهيز المعدني لرسم مدارات المفارقة بين عنفوان أدوات صلبة وباردة وبين حرارة الكتلة الجسدية المصاغة من غضاضة.
تتقدم اللوحة /التجهيز في مواجهة العين بوصفها تخطيطا كاليغرافيا خارج الحبر، أو لنقل “ما بعده” حرفية تحاكي التخطيطات العربية (على الجبص والخشب والزليج) للحكم والآيات والأبيات الشعرية، الساكنة فجوة ما بين الرؤية والاعتقاد: التربيع الخاضعة له الدوال المرصوصة من قواطع التجميل الحادة، يجعلها ترتكس عن وضع أفقية الكتابة ببعد عمودي مستنسخ، من الصيغ المأثورة للنقوش الإسلامية لعبارة: “بركة محمد” أو “غبطة متصلة”… وهو الإيحاء الذي يصل البداهة الساكنة في العبارة (الجنس اللطيف) بعمق الاعتقاد؛ هو جنس لطيف: سطحا وماهية، ويجبل من كتلة صلبة وحادة، حيث تنحتُ حوافَ اللطفِ القواطعُ.
ولا يبتعد هذا التخييل البصري لماهية الأنثى وخطابها وملكوتها في المرئي والمعتقد، عن تفصيل تنويعي داخل عمل عنونته نادية الكعبي بـ”صورة سلبية لشعر أسود على خلفية بيضاء”، كتلة خيوط مجعلكة، غاطسة في الحلكة، تتجلى بوصفها طباقا بصريا يستبدل بسواد الشعر، هيأته في النيغاتيف السالب، يتشكل العمل التصويري من مجرد تفصيل فرعي للجسد، حامل لعلامة الجنس: الشعر المنسدل، المقصوص، أو المحجوب، المنتهك أو المُرفّه، هو مرتكز عقابي في التعامل من الجذع الحامل له، ومع عقله أيضا، ومع إدراكه لطبيعة اختلافه، خضوعه أو تمرده، لذا كانت الصورة السالبة كاشفة المغزى، إنه سواد خارج من طبيعة الشيء، إلى محيطه، متشرب لنقيضه، البياض الموازي للمحو، ضمن جدلية الرسم بالضوء.
وحين نسعى لربط هذا التكوين الطباقي، لماهية أنثوية فارقة، مع طبيعة وعي الفنانة بالزمن والمحيط، وجدل الرؤية والاعتقاد، يمكن أن نستلّ خيطا هديا بين أعمال تبدو لأول وهلة متنائية، ومحمولة على جذر موضوعي تتشظى صيغ ترجمته، إذ في عمل بعيد ظاهريا عن دائرة الجسد الأنثوي، حمل عنوان “على طول برج المراقبة” (لندن 2014)، تختار نادية الكعبي أن تضع الناظر أمام حقيقة المسافة الموجود بين الكتلة المنتفية أو الغائبة وظلالها المستمرة في الوجود، ينطلق العمل التجهيزي، من حقيقة كونه غير “تجهيزي” بالمعنى المباشر أو الحقيقي، ثمة قاعة عرض ينعكس في زاويتها اليمنى المواجهة ظل برج مراقبة عملاق، من ذلك النوع الذي يتخلل جدران المعتقلات، أو الحدود الترابية، لا نكتشف مصدر الظل، ولا تهمنا كثيرا طبيعة تشكله بذلك النحو الطاغي في الزاوية المنظورة، منكسرا على عتبات لقاء الأرضية بالجدار، تحكي الكتلة الظلية سردية ما، تعيد تأويل المراقبة المسترسلة في غياب تعيّنها في المجتمعات المعاصرة، موجودة فقط بوصفها افتراضا مسترسلا في الزمن والأمكنة، ودونما حاجة إلى التجلي، سلطة تستمد عتوها من خفائها، وهشاشتها، وتدميرها للسطوح المتيبسة، البرج المستعار هنا من أصل لا وجود له، يراهن على إعادة كتابة العوالم الكابوسية المنتقلة من نصوص جورج أورويل إلى ما بعد التحليلات النقدية لإلزا غودار، عن هيمنة الرقابة التطوعية للأفراد عبر الوسائط الاجتماعية.
درامية الكتلة الخرساء
وخارج هيمنة البعد الشبحي للظلال، تنتزع نادية الكعبي من الكتل خرسها، وتشحذ طبقات تكوينها بأبعاد درامية صاعقة في تمثيلها لما يحيط مقولات “الانتهاك” و”التلصص” و”المحو” و”هروب العمران” و”تلاشي البينية والتشارك” ونهوض المزاعم في مواجهة عمق إنساني كاذب في حضارات معاصرة تدين الهجرة والنزوح، وتمجد الحدود وتعيش التناقض بين النهم ونوازع الغلبة وتسطير شعارات التسامح والقبول بالآخرين… في عمل حمل عنوان “الدائرة الداخلية” (بورغ 2021)، ينتصب التجهيز لتعرية التناقض بين السطح الظاهر والعمق المكتوم، وإفشاء الجوهر الدرامي للكتلة الخرساء، المناقضة في وضعها الحقيقي لما يفترض أن تنهض به من وظيفة. ثلاثة عشر مقعدا من خشب وصلب من تلك النوعية التي توضع في الساحات والحدائق العمومية، تشكل دائرة مغلقة؛ واجهة الكراسي إلى الخارج، على النحو الموجود في عدة ساحات أوروبية، مثلما هي الساحة المحتضنة للتجهيز، المفارق أنها ليست كراسي عادية هي كراس تنبت فيها المسامير على نحو متمادٍ في ما يشبه جلد قنفذ، بحيث تمثُلُ للناظر كسياج حدودي لمنع تسلل مفترض، ولعل استعارة السياج الشائك هي ما يركب المفارقة الدرامية في عمق الكتلة المرهونة للاسترخاء والتشارك والحديث بين الناس وبين امتناعها عن ذلك في الآن ذاته، ضمن دائرة مفرغة تصل القبول بالآخرين وبنوازع لفضهم على نحو مستمر، محكيات وتآويل وجهود إنسانية مع جدران عاطفية غير قابلة للاختراق بين هويات متنابذة.
تركيب
لقد كانت نادية الكعبي نموذجا لولع الفن المعاصر بالانطلاق من أقدار شخصية، مثّل فيها الوجود الموزّع بين الأعراق والجذور العائلية واللغات، منطلقا لإعادة كتابة تواريخ جماعية لنازحين ومهاجرين، والاعتقاد في التباس الجغرافيا، وما يتصل بها من مفاهيم “المواطنة” و”الذاكرة” و”الغيرية” و”الحدود”….، ومن ثم الانتصار لنحت الزمن، واستعارة صلابة للأجساد، واختراع ثبات لعمران هارب من الخرائط، وربما ذلك ما سعى إلى تخييله جواو سيلفيريو حين شخّص عمل نادية الكعبي، في نص كتبه بالموازاة مع عرضها بلشبونة سنة 2015، باعتباره “مساحة يمكن إعادة اكتشافها في جماليتها السطحية بما هي حيز للتفكير في التحولات الاجتماعية والثقافية الجارية في مجتمعاتنا المتغيرة باستمرار والمتعددة الثقافات. إذ التاريخ غشاء محفوف بالمخاطر وعابر ويكشف النقاب عن طرق حياتنا، ويواجهنا بها مع احتمال استعمالها دوما بوصفها رموزا للخضوع أو المقاومة”.
على طول برج المراقبة 20