تفاحة الإثم
ظلّ المثقف الجزائري بكلّ أطيافه رهين “السّياسي” أو “العسكري” المهيمن على الأدوار الأساسية في حياة المجتمع الجزائري، وتبيّن ذلك في فترة الثورة ثم في فترة ما بعد الاستقلال، فيما ظلّ صوتُ المثقف المعارض نشازا بلا صدى كبير، سرعان ما تُسارع فلول السلطة إلى قمعه وإسكاته وإبعاده وهي “خصلة” مكتسبة من الإرث الكولونيالي.
لم يظهر “المثقف” في الثورة إلا بوصفه رجلاً ينحو إلى العزلة والصمت في أحيانٍ كثيرة وحينا آخر -وهو القليل- يحاول أن يلتحق بالسلطة السياسية الفاعلة، الساعية إلى الاستفادة من “أنفال” الحرية والاستقلال وليس تأسيس وجهة نظر مستقلة عن “الجماعة” السياسية المهيمنة، ولذلك ظلّ ظلاًّ ممتدا للسياسي والعسكري لا يكاد صوتُه يَبين وسط الزحام الشديد للأطياف المجتمعية الأخرى.
في مرحلة الاستقلال تدثّر المثقفون الجزائريون بدثار الحزب الواحد وساروا مع جوقته، شعراء وكتابا وروائيين ومسرحيين وإعلاميين وغيرهم، لم يبرز صوت المثقف العضوي لأنّ عين الرقيب أحكمت قبضتها الحديدية على كل مسارات التعبير ومنابره، كانت السجون مأوى هؤلاء الذين رضوا بالخروج على الحاكم، أعتقد أنّ الحال كان عينه في العالم العربي بفعل هيمنة المد القومي الناصري والاشتراكي الذي اعتبر “خطابة” مفيدة للرد على الإمبريالية وهيمنة الكولونيالية أو بقاياها في الوطن العربي والإسلامي آنذاك.
لكنّ انفجار 5 أكتوبر 1988 حرّر المثقفين من قناعات حزبية أحادية وجعلهم ينخرطون في مسالك فكرية وثقافية وسياسية جديدة، جعلت بعضهم ينشئون أحزابا وجمعيات وآخرين يسارعون إلى حمل قناعات أيديولوجية مختلفة، بدت الفترة تلك، أشبه ما تكون بكرنفال شعبي، متعطّش للحرية والتعبير، آملا في الخروج من أسر الأحادية والدكتاتورية التي عمّرت طويلا في البلد باسم الاشتراكية.
كانت فترة الرئيس هواري بومدين فترة الأحلام الوطنية والخطابات القومية الشخصانية، لكنَّها كانت ملأى بالثغرات والمثالب، ولعلّ أكبر الخيبات هي إبعاد المثقفين الأحرار وقمعهم والزجّ بهم في المعتقلات والسجون وتوجيه قاطرة حكام الجزائر المستقبليين وفق نظرة حزبية معبّأة بوطنية ضيّقة شوفينية وأفكار مغلقة.
من ناحية أخرى لا بدّ أن نشير إلى الدور الهام الذي لعبته المؤسسة العسكرية، فلقد كان للجيش الجزائري دور حاسم في كل محطات التحوّلات السياسية في الجزائر، بدءا من الانقلاب على بن يوسف بن خدة ثم أحمد بن بلة ثم الانقلاب على الشاذلي بن جديد وإجباره على الاستقالة عقب أحداث 5 أكتوبر 1988، ومن هنا لا يمكن الرهان على الجيش في مسألة حرية التعبير والديمقراطية، لكنّه يؤدّي دوره الكلاسيكي وهو حماية البلد من الاعتداءات الخارجية ويجهّز نفسه في كل سنة بميزانية تسليح ضخمة تربو عن كل الميزانيات الأخرى.
تشكلّ أحداث الحراك الشعبي الأخيرة في الجزائر التي أبرزتها أصواتٌ متعدّدة من شرائح المجتمع الجزائري، منهم المثقف والعامل البسيط في الإدارة أو المصنع والكشك الصغير أو سوق الخضار وباعة الأرصفة من مطرودي المدارس والبطّالين، الوجه المضمر من الشَّعب الجزائري، يكون قد ملّ من سيطرة جماعة من الوجوه على ريع البترول وهيمنة الجهوية المقيتة على تولّي المناصب الوزارية وفي الإدارات المركزية.
استطاع الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعد انتهاج طريق المصالحة الوطنية واعتماد محاربة الجماعات المتطرّفة أن يكسب ودّ الشعب في البدايات، كما جلب إليه رضا دول الجوار المتوسطية وخاصة فرنسا التي رأت فيه سدّا أمام انتقال موجة الإرهاب إلى أراضيها، لذلك عملت على دعمه والوقوف إلى جانبه وكانت المؤسسات الإعلامية الفرنسية تسارع إلى تزكية مشاريعه السياسية.
ويبدو أنّ أجواء الحياة السياسية كانت تحت أنظارها، لذلك لم تدخل مؤسساتها الاقتصادية إلى الجزائر إلا بعد أن استقرّ الوضع الأمني في بداية الألفية الثانية، ويجب أن لا ننسى أن مال البترول الذي كان مرتفعا في وقته ساهم إلى حد كبير في تنفيذ مشاريع السكن خاصة التي أعطت فرصة لتنظيف العاصمة وبعض المدن الداخلية من بيوت القصدير التي فرضتها الهجرة القسرية للسكان في العشرية السوداء الحمراء.
في رأينا، تصاعد موجة الاحتجاج الأخيرة أمر طبيعي لأنّ الشعب الجزائري على قدر كبير من الوعي السياسي، ولم يعد الخوف يثنيه عن الجهر برأيه علانية أمام العالم، كما أنّ الطبقة المثقفة المتكونة من النقابات والجامعيين والإعلاميين والطلبة أكثر الفئات تضررا من الفترة البوتفليقية نظرا لهشاشتها وانهيارها ماديا بفعل السقوط الحر للدينار الجزائري، فضلا عن تفاقم البطالة بين فئات الطلاب والعمال البسطاء، وانعدام آفاق حقيقية للتنمية.
كما يمكن القول إنّ انتشار الفساد السياسي والمالي وهيمنة العشائرية والمحسوبية في التعيينات في مختلف المناصب الحكومية وتوزيع الريع غير العادل أصبح من الأمور البغيضة في فترة الرئيس، ربّما ليس للرئيس يد في كل ما حدث.. لكنّ تدهور صحته وابتعاده وعزلته ولّد في الشعب شعورا بضرورة إراحته واستبداله بوجه آخر يستطيع بالفعل أن يؤدي دور الرئيس الحقيقي، كما فتحت حالة الرئيس الفرصة لبعض الانتهازيين ليعيثوا فسادا بالمال العام ولسيطرة وجوه غير بريئة على مراكز القرار في قطاعات حيوية مهمة في البلد.
لقد سار المثقفون (صحافيون، محامون، جامعيون، طلاّب..) في صف واحد مع الفئات الأخرى من الشعب، لأنهم رأوا أنّهم لا يمكن لهم أن يبقوا بعيدين عن هذا الصوت الشعبي الهادر، صحيح أنّ المثقّفين لم يكونوا دائما من الفئات الأسبق احتجاجا، بحيث قلّما يصنعون الحدث بأنفسهم في الجزائر، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يفوّتوا لحظة التاريخ هذه، فكان لهم حضورهم الكبير في كلّ المسيرات والوقفات الاحتجاجية التي تنظّم عبر الوطن.. وهي بادرة طيبة وشهادة على أنّ المثقف الجزائري يعيش اللحظات نفسها التي يعيشها الشعب ويتألم لما يؤلمه ويحلم حلمه ويسعد لسعادته.
وعودا على بدء، فالمثقفون الجزائريون منقسمون فيما بينهم بين معرّب ومفرنس، وبين بربري ووطني شوفيني منغلق، وبين جامعي يعيش فقط في ردهات الأقسام ومنابر المؤتمرات المغلقة المعزولة عن محيطها السياسي والاجتماعي العميق، بحيث لا يمكن الحديث اليوم عن نخبة “أنتلجنسيا” تجمعها روابط عقلانية وثقافية كبيرة.
لقد نخرت هذه الفئة أحلام عاجلة ودخلت دائرة الفساد أيضا، لقد سعى المتعلّمون “والمثقفّون” مجازا، إلى أخذ نصيبهم من الريع أيضا، فانخرطوا في أحزاب صنعتها السلطة السياسية من أجل إقناع العامة بالديكور الجديد، هكذا نجد أن ” الصحفي” و”الفنان” و”البروفيسور” و”الطالب”.. كلّهم حاولوا الوصول إلى الكعكة الكبيرة التي يسارع كل الوصوليين إلى الأكل منها.. ولم تكن في الأخير سوى تفاحة الإثم.