تقرير المصير والانفصال
تأخذ مسألة الانفصال وتقرير المصير منحى حادا حول العالم اليوم، إذ تكثر دعوات العديد من الأقليات إلى الاستقلال السياسي عن الدولة التي هي جزء منها. إنها تعبير عن صدع خطير في وحدة ومصير الدول. والسّؤال هنا هو حول ما إن كان يُسمح لأقلّيّة تريد الاستقلال السّياسيّ بالانفصال لتشكيل دولة خاصّة بها. يفضي القبول بهذه الفكرة إلى اتّجاهين متعارضين.
• إذا كانت هذه الأقلّيّة تعتبر نفسها أمّة منفصلة فيبدو أنّ المبدأ يدعم مطلبها، فسكّان الكيبك، أو كتالونيا، أو الكرد في تركيا والعراق مثلا، يرون أنفسهم يمتلكون هويّة خاصّة منفصلة عن الكنديّين أو الإسبان أو العرب العراقيين، وهم يرغبون في الاستقلال السّياسيّ على أساس ذلك، إذن نحن ملزمون، من ناحية المبدأ، باحترام حقّ تقرير المصير وبتأييد مطالبهم، لكن ستواجهنا تحدّيات بمجرّد أن تبدأ هذه الهويّات في التّكاثر، إذ لا توجد طريقة من شأنها المساعدة على استيفاء جميع مطالب هذه الأقلّيات طبقا لحقائق الجغرافيا والانتشار السّكّانيّ. أنّ هذه العمليّة قد تأتي بكلفة أخلاقيّة غير مقبولة على شكل تمزّقات ونزوح، وحتى بإبادة لجماعات وجدت في الإقليم.
• أنّ فكرة تقرير المصير نفسها ستفسح للكنديّين والإسبان أو العراقيين – التي أخذناهم كمثال هنا- حقّ الدّفاع عن مصيرهم أيضا، وحقّ المطالبة بتحديد مستقبل الإقليم الجغرافيّ الذي حُدّد تاريخيّا بوصفه كنديّا أو إسبانيّا أو عراقيا حفاظا على الوضع السّياسيّ القائم. فهذه الفكرة تتحوّل بشكل حاسم وفاصل في الممارسة العمليّة إذا ما استخدم مبدأ “تقرير المصير” كدعوة إلى تقرير مصير الدّولة نفسها وليس الأمّة. إذ يأتي حقّ تقرير المصير هنا ليدعم مطالبة الدّولة بحقّ ممارسة السّيادة داخل حدودها القائمة، لكن هذه الطّريقة في التّفسير تفقد الفكرة حكمها الأخلاقيّ الأصيل والكثير من مناشداتها التي تتأتّى برؤية مجموعة من النّاس يتقاسمون هويّة مشتركة يرغبون في ارتباط بعضهم ببعض، وفي اتّخاذ قرارات بشأن مستقبلهم على أساسها من جهة. وهي من جهة ثانية تدفع التّمييز الحاسم بين الأمم والدّول من خلال معاملة الأمم كمجموعة من النّاس، الذين هم في الواقع، تحت ولاية قانونيّة لدولة معيّنة ولكنها معرضة إلى الانهيار.
تكشف مسألة تقرير المصير عن أنّها توظّف إمّا كوصفة لإثارة فوضى سياسيّة تكون سببا في إراقة الدّماء، وإما كوسيلة للدّفاع عن حقوق إنشاء دولة. والهدف من إثارتها هنا هو استنطاق الوقائع القائمة للبحث عمّا إن كان ممكنا بناء موقف متماسك بشأنها يتجنّب كلاّ من الموقفين المتطرّفين انطلاقا من مبدأ الوطنيّة.
من أجل النظريّة في الانفصال
قبل البدء في المسائل الجوهريّة يجدر التّوقّف للتّساؤل عن الغرض من وضع نظريّة في الانفصال، فقد اقترح بعض المختصّين تحديدا شبه قانونيّ للانفصال يمكن إدراجه في دستور الدّولة أو في ميثاق الهيئة الأمميّة. ويقصدون بذلك تحديد الشّروط والأوضاع التي يمكن تقنينها رسميّا لتكون مساغا مقبولا تحتكم إليه كلّ جماعة تحاول الانفصال عن دولة قائمة، ولأجل أن يعامل مطلب الانفصال بطريقة مستقلّة من قبل محكمة دستوريّة أو دوليّة تفاديا للاقتتال الدّاخليّ وهو ما يفسح مجالا للنّقاش حول المعايير. فمن ناحية وعن سبيل المثال، من المرجّح أن يكون هناك تحيّز باعتبار الأغلبيّة المطالبة بانفصال الإقليم المعنيّ لصالح المعايير الإجرائيّة التي لا يكون تطبيقها مثيرا للجدل نسبيّا، على حساب المعايير الأخرى التي تواجه صعوبة في التّطبيق لما تنطوي عليه من مضامين وأحكام متنازع حولها كادّعاء التّعرّض للقمع، أو للتّمييز بتجاهل اللّغة، أو بتدمير الثّقافة والتّراث الخاصّين. ومن ناحية ثانية، يتعيّن التّفكير في الآثار المحفّزة على اختلاف تعاريف حقّ الانفصال؛ فالضّرورة تقتضي السّؤال عن إمكانيّة وكيفيّة إدراج هذا الحقّ في دستور الدّولة الذي من شأنه أن يضبط سلوك كافّة السّلطات وطرق إدارة الشّأن العامّ سواء داخل الدّولة القائمة أو على صعيد الإقليم المطالب بالانفصال. ويتوجّه السّؤال الابتدائيّ لأثر هذا الحقّ، ولنتيجة إدراجه في الدّستور إن كان سيجعل الدّولة القائمة مستعدّة لنقل السّلطة للمناطق المرشّحة للانفصال بما قد يتعزّز فيها من مطالب انفصاليّة أو تكون أقلّ استعدادا لذلك. غير أنّه يبدو من الخطأ أن يهيمن الانفصال على تفكير الطّرفين المعنيين بالمسألة، إذ ينبغي وضع المبادئ الأساس أوّلا، ثمّ السّؤال عمّا يمكن أن يترتّب عن هذه المبادئ العامّة من نتائج ومن أثر على سلوك مختلف الفاعلين السّياسيين.
ومقابل هذه النّظريّة القانونيّة يمكن اعتبار نظريّة الانفصال نظريّة في السّياسة تقدّم معنى يوضّح تلك المبادئ التي ينبغي أن تقود التّفكير بمطلب الانفصال، سواء من قبل انفصاليّين أو من قبل مواطنين في الدّولة القائمة نفسها أو أعضاء المجتمع الدّولي الذين قد يُطلب منهم التّدخّل لصالح هذا الطّرف أو ذاك. فالمتعيّن هنا وفي مثل هذه الحالة هو الدّليل الذي يبرّر مطلب الانفصال ويدعم أيّ قرار قد يتّخذ بشأنه سواء تعلّق الأمر باستفتاء شعبيّ حرّ يخيّر سكّان الإقليم المعنيّ بين الانفصال وبين البقاء ضمن الدّولة القائمة والإبقاء على وحدتها وتماسك مكوّناتها، أو تعلّق الأمر بغير ذلك من المبادرات السّياسيّة. فالدّليل الملموس الذي يقبل الملاحظة والقياس حول استجابة المواطنين لمطلب الانفصال، ويبيّن بوضوح تامّ مبرّراته وأهدافه لازمة من اللّوازم السّياسيّة ومن ضروراتها، وفي غيابه لا يكون مطلب الانفصال مقبولا من النّاحية القانونيّة ولا مستساغا من قبل أعضاء المجتمع الدّوليّ بالنّظر إلى النّواحي السّياسيّة.
لن تكون النّظريّة الإجرائيّة البحتة حلاّ معقولا ولا مرضيا للانفصال، لأنّه إذا اعتبرنا تصويت الأغلبيّة لصالحه كافيا للتّبرير فسيطرح السّؤال مباشرة من جهة، عن كيفيّة تحديد الدّوائر الانتخابيّة ومن ثمّة عن مشروعيّة التّصويت ومصداقيّة النّتائج. ومن جهة ثانية، عن كيفيّة تحديد الإقليم المعني بالانفصال الذي سيشكّل نفوذ الدّولة الجديدة
قد يدفع منتقد بعدم جدوى السّؤال المطروح لانعدام الحاجة إليه مادامت المسألة تسوّى إجرائيّا إمّا بالتّصويت والوصول إلى تحقيق أغلبيّة مساندة وإما معارضة وإما بإعمال طرق أخرى، فالسّؤال حول المبادئ يبقى غير ضروريّ، لكنّ هذه الطّريقة في التّفكير والتّحليل ليست هي الطّريقة المعتمدة في صنع القرار الدّيمقراطيّ، فالملاحظ، مثلا، أنّ النّاخبين يوافقون على ما أقرّه الدّستور للحزب الذي يفوز في الانتخابات من إمكانيات في تدبير الشّأن العام بتشكيل الحكومة لأجل تنفيذ ما وعد به من برامج ومبادرات، ولأنّ نتيجة أيّ استفتاء ينبغي أن تكون ملزمة سياسيّا، لكن هذا لا يمنع من طرح المبادئ الواجب اعتمادها كقواعد مرجعيّة يُحْتكَم إليها عند الاقتضاء كما هو الشّأن بالنّسبة لمبادئ العدالة الاجتماعيّة مثلا. قد يخطئ النّاخبون في بعض الأحيان بتأييد حزب يبيّن عمله الحكوميّ أنّ سياساته أقلّ عدالة ولا تحقّق المصالح والانتظارات، ومع ذلك تبقى الثّقة سائدة في الإجراءات الدّيمقراطيّة من حيث أنّها إجراءات تستوجب الاتّـباع. كيف تختلف الأمور عندما تكون المسألة متعلّقة بالانفصال؟ فحتى لو اعتقدنا يتعيّن أن يتمّ الحلّ إجرائيّا تبقى هناك أسباب معقولة للانفصال وأخرى غير معقولة، ومن غير المناسب ألاّ توضّح تلك الأسباب.
لن تكون النّظريّة الإجرائيّة البحتة حلاّ معقولا ولا مرضيا للانفصال، لأنّه إذا اعتبرنا تصويت الأغلبيّة لصالحه كافيا للتّبرير فسيطرح السّؤال مباشرة من جهة، عن كيفيّة تحديد الدّوائر الانتخابيّة ومن ثمّة عن مشروعيّة التّصويت ومصداقيّة النّتائج. ومن جهة ثانية، عن كيفيّة تحديد الإقليم المعني بالانفصال الذي سيشكّل نفوذ الدّولة الجديدة. فالمرجّح من النّاحية العمليّة أن يتمّ التّفكير بشكل مسبق في مناطق تُحدّد إداريّا بالفعل، مثل منطقة كردستان بالعراق، ومنطقة الكيبك بكندا لكي يتمّ تحديد القاعدة الانتخابيّة الحقيقيّة بشكل علميّ واقعيّ وعمليّ يساعد على تحديد “الشّعب” المستهدف بالاستفتاء. فالخلفيّة النّظريّة تستدعي ضمنا كلّ الظّروف التي من شأنها أن تجعل الاستفتاء مخرجا مناسبا لمعضلة سياسيّة قائمة، أي الموازنة بين الانفصال كمطلب مبرّر وبين الانفصال كأمر غير مبرر لتحقيق السّلميّة وتفادي الحرب الأهليّة. فبالدّسترة واحترام الخلفيّة النّظريّة لكلّ سلوك سياسيّ من النّاحيتين القانونيّة والسّياسيّة يمكن التّعامل مع مثل هذه الحالات بواقعيّة وفعاليّة تميّز المعقول والمقبول منها عن غير المعقول والمقبول. وعلى أساسها أيضا، يمكن الرّدّ على اقتراح فرد أو مجموعة أفراد يطالب بتنظيم استفتاء للاستقلال. فأن يقترح المسيحيون في سهل نينوى في العراق الأنفصال، مثلا، يعتبر اقتراحا غير جدّيّ وغير مبرّر، فيكون الرّد وفقا لما تمّ تشريعه من قواعد آمرة.
إنّ إنجاز نظريّة في الانفصال ليس بالمهمّة البسيطة، لأنّ تقسيم دولة وإنشاء واحدة جديدة مسألة في غاية الجديّة، فهي تطرح أسئلة جوهريّة تتعلّق بالسّلطة السّياسيّة، بالهويّات التّاريخيّة، بالعدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبحقوق الأقلّيّات. ولكي تكون نظريّة كافية عليها أن تعالج جميع تلك المسائل بكفاية مفاهيميّة وإجرائيّة، يعني هذا أنّ عليها أن تتبنّى تعدّد المعايير وألاّ تكتفي بالبحث عن الشّروط الضّروريّة الكفيلة بتبرير مطلب الانفصال. إذ عليها أن تراعي مختلف المعايير التي تنسحب على كلّ الاتّجاهات مهما كانت متعارضة لأجل أن تصل إلى رأي محكم وقرار حكيم يوازن بين المطالب المتصارعة، ويساعد بنجاعة على حلّ المسائل المعروضة بما يستدعي احترام وحدة التّاريخ والمصير. باختصار شديد عليها أن تسعف في وضع الهويّة الوطنيّة في اعتبار كلّ الأطراف، وفي التّحسيس بما تقدم تلك الهويّة من أجوبة ومن جاذبية.
مبدأ الهوية الوطنيّة
يمثّل مبدأ الهوية الوطنيّة (مبدأ الجنسيّة) أحد العناصر الثّلاثة التي يشترك فيها سكّان إقليم أو جماعة وطنيّة، ومطلبا مقنعا لتقرير المصير السّياسيّ. فبالرّغم من أنّ الدّولة ذات السّيادة ليست هي الوسيلة الوحيدة والممكنة لتقرير المصير إلاّ أنّها كانت ولا تزال الوسيلة الرّئيسة لتحقيقه، لذلك يحقّ لإقليم أن يطالب على أساس هذا المبدأ بالانفصال عن دولة تعاقديّة. مع أنّ هذه المطالبة ليست بالضّرورة هي الإمكانيّة الوحيدة ولا الوسيلة التي يتعيّن أن تهيمن على غيرها من الوسائل، لذلك يمكن أن تُبطلها اعتبارات أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا. وللإشارة فقط، ليس الغرض من هذا المبحث تعداد الأسباب المؤيّدة لتقرير المصير، لكنّ الغاية هي النّظر في بعض تداعيات هذا المبدأ.
إنّ الأقاليم التي تقطنها أمّة متجانسة (عرقيّا) حالة استثنائيّة إلى حدّ بعيد في العالم اليوم، فالمقصود بالدّولة الأمّة أو (القوميّة الوطنيّة) بحسب المتداول والمشهور من التّعاريف جماعة من النّاس يعتبرون أنفسهم أنّهم ينتمون إلى الجماعة نفسها، فيعترفون ببعضهم البعض، ويقرّون بالتزامات خاصة تُجاه بعضهم البعض، ويطمحون إلى استقلال سياسيّ بحكم ما يشتركون فيه من خصائص يؤمنون أنّها تشكّل قاعدة لانتمائهم، وهي التّاريخ المشترك، والارتباط بالمكان الجغرافيّ، والثّقافة العامّة التي تميّزهم عن غيرهم من الجيران. إذا أخذنا هذا التعريف بالاعتبار ونحن ننظر إلى تلك الكيانات التي توصف عموما بأنّها دولة أمّة أو (قوميّة) فمن المحتمل أن نجدها مؤلفة ممّا يلي:
• أقلّيات لا تشارك الأغلبيّة في الهويّة الوطنيّة مثل المهاجرين الأتراك في ألمانيا.
• أقلّيات تقيم في إقليم ترى نفسها أنّها تشكّل أمّة، وتطمح إلى درجة أكبر من الحكم الذّاتيّ مثل الأكراد في تركيا.
• تجمّعات سكّانيّة مختلطة تنحدر من أمم مجاورة مختلفة وتتجمّع في مناطق معيّنة مثل الرّومان والهنغار في ترانسالفانيا.
• تجمّعات سكّانيّة تحمل هويّة مزدوجة أو متداخلة، تعيش في مناطق معيّنة كأقلّيّة قوميّة داخل دولة كبيرة مثل الكاتلون في إسبانيا.
وإذا أردنا تطبيق مبدأ الهويّة الوطنيّة (الجنسيّة) على ما يناسب حالة أو أكثر من هذه الحالات المذكورة فينبغي أن يتوجّه السّؤال لماهية السّلطة السّياسيّة بنية وأداء بما يحقّق هذا المبدأ بالنّسبة لكلّ جماعة مادام الحلّ البسيط لها المتمثّل في الأمّة المتجانسة أو الدّولة الواحدة غير ممكن في مثل هذه الظّروف. لا شكّ في أنّ هذا التّطبيق سينطوي لا محالة على أحكام تتعلّق بالكيفيّة التي يتصوّر بها النّاس هوّيّاتهم، وبالكيفيّة التي تربط هويّة جماعة معيّنة بهويّات أخرى. ومثاله مقارنة بين وضع الأكراد في العراق أو في تركيا مع الكتالونيّين في إسبانيا. فعلى الرّغم من أنّ الكتالونيّين ينظرون لأنفسهم في دولة إسبانيا كشعب متمايز عن الإسبان إلاّ أنّهم لا يضمرون أيّ عداء عميق أو متأصّل للإسبانّ، ويقدّرون ما يجمعهم بهم من التّداخل الثّقافيّ المتمثّل في الاعتقاد الملّيّ المشترك (الكاثوليكيّة)، ومن مستوى معيشيّ أعلى قليلا من المتوسّط الإسبانيّ إذ تعتبر كتالونيا تقليديّا أكثر المناطق الإسبانيّة نموّا وازدهارا اقتصاديّا، كما يعترفون بما يعاملون به من نظرة التّقدير من قبل الإسبانيّين في المناطق الأخرى التي يعيشون فيها. وفي مثل هكذا ظروف لا يعدّ إشكاليّا أن تنظر أغلبية من الكتالونيّين إلى أنفسهم بوصفهم كتالونيّين وإسبانا في الوقت نفسه، لكن تختلف الحالة الكرديّة في بعض أوجهها عن الحالة الكتالونيّة، مع ما يوجد داخل الحالة الكرديّة من اختلاف في الوضعيّة بين العراق وتركيا. ففي تركيا مثلا يقلّ نصيب الفرد الكرديّ من الدّخل عن نصف المعدّل الوطنيّ، بينما لا يوجد هذا التّمييز في العراق، لأنّ الأكراد متساوون مع باقي العراقيين. وفي تركيا تقمع اللّغة والثّقافة الكرديّة من قبل الدّولة، بينما يتمتّع أكراد العراق بما يتمتّع به جميع العراقيين من الحقوق. ويشترك أكراد تركيا وأكراد العراق في ما لهم من تاريخ حافل بالصّراع المسلّح مع الدّولة عراقيّة كانت أو تركيّة. وإذا التفتنا إلى الحالة التركية فسنلاحظ أن القيادات التّركيّة المتعاقبة التزمت لسنوات كثيرة بالمثل الأعلى لأمّة تركيّة متجانسة وموحّدة، ولم تترك مجالا للتّعدّديّة الثّقافيّة خلافا لما كان في العراق، ونظرا لأوضاع الكرد في تركيا طالبوا بالاستقلال فكان مطلبهم يختلف نوعيّا عن الكتالونيّين مثلا. واذا لم يحدث هناك أيّ تحول مأساويّ في الوضع التّركيّ السّائد كالتّحوّل الذي حصل في الدّولة العراقيّة منذ حصول الأكراد على الحكم الذّاتيّ وحتى إعلان الفيدراليّة، فإنّه لا توجد أمامهم فرصة للحصول على اعتراف بهويّتهم الثّقافيّة المميّزة، إلاّ أن يعمل الأتراك والأكراد معا سويّا على تحقيق ديمقراطيّة وعدالة سياسيّة واجتماعيّة. وهذا يعني أنّ الانفصال ليس حلا وحيدا بالضّرورة. فتطبيق مبدأ الجنسيّة على مشكلة كهذه يقتضي البدء بالنّظر إلى ما لهويّات كلّ المجموعات من محتوى فعليّ لاكتشاف ما إن كانت المجموعة (س) لها هويّة متميّزة تجعلها متناقضة مع المجموعة (ص) التي تخضع لمؤسّساتها السّياسيّة على سبيل المثال. وبقدر ما لا يكون ذلك كذلك، فإن أيّ مطلب يمكن أن تقدّمه الجماعة (س) من أجل الاستقلال السّياسيّ لا يكون معزّزا بما يكفي من المبرّرات، وهو ما يعني أنّ مطلبها لن يثبت بشكل حاسم في نهاية المطاف كما هو مبيّن أعلاه بسبب العوامل التّعويضيّة.
بالرّغم من أنّ الدّولة ذات السّيادة ليست هي الوسيلة الوحيدة والممكنة لتقرير المصير إلاّ أنّها كانت ولا تزال الوسيلة الرّئيسة لتحقيقه، لذلك يحقّ لإقليم أن يطالب على أساس هذا المبدأ بالانفصال عن دولة تعاقديّة. مع أنّ هذه المطالبة ليست بالضّرورة هي الإمكانيّة الوحيدة ولا الوسيلة التي يتعيّن أن تهيمن على غيرها من الوسائل، لذلك يمكن أن تُبطلها اعتبارات أخرى
فأحد العوامل التي يجب النّظر إليها بجدّيّة هو المطالبة المُنافسة من قبل المجموعة (ص)، وهي الأمّة الأكبر حجما التي ستقسّم أراضيها الحاليّة إذا ما تمّ المضيّ قدما في الانفصال. لذلك فإنّ مطلب الانفصال لا يكون وجيها مقبولا ومشروعا عندما لا يساوي بين الطّريقة التي ترت عبرها الجماعة الصّغيرة علاقتها بالجماعة الكبيرة، وبين الطّريقة التي ترى عبرها الجماعة الكبيرة علاقتها بالصّغيرة. لقد أكّدت الحالات التي سبق أن كانت تحت المناقشة أنّ الجماعة الكبيرة ستهوّن دون تردّد ممّا يميز الأقلّيّة: ستعمد إلى النّظر إليها باعتبارها جماعة تمتلك تباينا واحدا إلى جانب مشتركات كثيرة بدلا من النّظر إليها بوصفها ذات هويّة مستقلّة وخاصّة، ستتّجه حتما إلى اعتبار أنّ الجماعة (س) ليست جماعة متميّزة ولكن جماعة تتكلّم لغة مختلفة أو لها ثقافة خاصّة. فبينما ينظر الأكراد لأنفسهم كأمّة مميّزة عن الأتراك، ينظر هؤلاء إلى الأكراد باعتبارهم مجرّد أتراك يتحدّثون لغة مختلفة، وما يناظر هذه الحالة نجده عند الأسكتلند والإنكليز، وعند المقدونيّين واليونان. قد يكون هناك إغراء للتّفكير في مثل هذه الحالات بأنّ الغالبيّة سارت باتّجاه خاطئ، فإذا كانت الجماعة (س) لا تعتبر نفسها منتمية للجماعة (ص) فإنّ هذه تتجاهل الهويّة المشتركة مع نظيرتها (س) وقد تصل إلى حدّ رفض أيّ مواجهة للحقائق بهذا الخصوص، لكن نادرا ما تكون هذه المسألة بمثل هذا الوضوح، إذ على افتراض أنّ الجماعتين (س) و(ص) تشتركان في الهويّة الوطنيّة باعتبار الارتباط السّياسيّ لفترة طويلة من الزّمن وهو ما يؤكّد بالفعل أنّ لهما معا سويّا صفة مشتركة حقيقيّة، يكون من المرجّح أنّ الجانبين اعترفا حقّا بالهويّة الوطنيّة كهويّة جامعة، وأنّ الجماعة (س) أدركت ذلك بإحجامها عن التّلويح باللاّفتة القوميّة. وبالتّالي، فإنّ السّؤال هو كيف يمكن أن تكون للأقلّيّة هويّة خاصّة مميّزة وفي الوقت نفسه شعور بالانتماء لمجتمع أكبر؟
لعلّ الخطأ المغري هنا هو ما قد يغلب على ظنّ الأغلبيّة من شعور بغياب الإحساس بالهويّة المشتركة عندما تعلن الأقلّيّة عن الرّغبة في الانفصال وإنهاء الاتّحاد السّياسيّ، يقارن بعض الكتّاب ذلك بطلاق الأزواج عندما تقرّر امرأة إنهاء ارتباطها بزوجها الذي لا يزال يعتقد أنه يشكّل معها أسرة، ولا يدرك بحكم الموقع في تلك العلاقة أنّ الاتّحاد يستمر بموافقة الطّرفين، لكنّ هذا التّشبيه غير ملائم، ففيما يخصّ الإرادة الواحدة التي يمكن أن تنشأ عن علاقة بين طرفين، فإنّ علاقة الأمم بعضها ببعض ليست كالعلاقة بين الأفراد لأنّ الأمر يختلف حتما عندما يتعلّق باتّحاد إقليم مع أقاليم أخرى، أو جماعة بنظيراتها ضمن دولة أكبر، أو يتعلّق بنقل السّلطة أو بإدارة دولة مستقلّة. فنقطة كهذه تحتاج إلى معالجة هادئة ومتّزنة لما تثير من قضايا حسّاسة سيشار إلى أهمّها ضمن الفقرات التّالية من هذه الدّراسة. إذ لا ينطوي الانفصال كما هو معلوم على الجانب السّياسيّ فحسب، بل يتعدّاه إلى جوانب استراتيجيّة أخرى كالجانب الجغرافيّ بتقسيم الأراضي وما يستتبع هذا الجانب من جوانب اقتصاديّة واجتماعيّة أيضا. وهو ما يقتضي البحث عن أفضل السّبل لفهم حقوق القوميّات في الأراضي التي تقطنها والتّعامل معها على أساس العدل والإنصاف. قد يبدو أنّ ما على المحكّ في مثل هذا الموضوع هو حقوق الملكيّة، فعن سبيل المثال: أنا أملك قطعة الأرض هذه، وأنت تملك تلك، وهكذا الكلّ يملك أراضي الإقليم الذي له مسمّى معين. وإذا كانت هذه هي النّظرة التي تؤطّر التّفكير في المشكلة، فإنّ الجماعة التي تقطن منطقة متّصلة وتطالب بالانفصال ستكون مضطرّة إلى تأكيد حقوق الملكيّة المشتركة لإنشاء مطالبة تجزم بملكيّة الأرض التي تسعى لأن تؤسّس عليها الدّولة، لكن والحال كما قال بوكانان، لا يمكن فهم العلاقة بين شعب والأراضي التي يقطنها على هذا النّحو وبهذه الشّروط فقط. إنّنا عندما نقول أراضي كردستان، مثلا، لا نعني أنّ الأكراد يمتلكونها كما يمتلك الفرد عقّارا محدّدا، وإنّما نعني أنّ للكرد مطالب مشروعة في ممارسة السّلطة على أراض يقطنها غالبيّتهم، وتعرف باسمهم في إطار حكم ذاتيّ للمنطقة يشمل كلّ الصّلاحيّات كتحديد السّياسات، وتقرير الأحكام، وصيانة الحقوق وفي مقدّمها حقّ الملكيّة، لكنّ الأكراد لم يعودوا مقتنعين بحكم ذاتيّ فقطّ وإنّما يسعون إلى بناء دولة قد يتجاوز إقليمها حدود العراق إلى الدّول المجاورة، ومن ثمّة فهم يستلهمون من الحالة الآيسلنديّة التّأسيس للدّولة عبر التّأسيس لمؤسسات جديدة تماما حتى مع ما قد يُحدِث مثل هذا التّأسيس في المنطقة من زلزال سياسيّ.
لا شكّ أنّ الشّعب الذي يقطن إقليما محدّدا يشكّل مجتمعا سياسيّا، لذلك فهو يؤسّس لمطلب الانفصال عبر ما يرسي من أعراف من خلال الممارسة السّياسيّة، فضلا عن قرارات تدبير الأشغال العامّة وتشريع القوانين، وتشريع الحقوق الجماعيّة والفرديّة، بالإضافة إلى الانخراط في ما يشكّل سمات الإقليم ومظهره المادّي المميّز. يأخذ هذا مع مرور الوقت أهمّيّة رمزيّة، كدفن الموتى في أماكن معيّنة، وإقامة الأضرحة والآثار الدّنيويّة وغيرها من الأنشطة ممّا ينشئ روابط بالأرض لا تزعزعها عروض بديلة، وهو ما يبرّر في المحصلة مطلب ممارسة السّلطة السّياسيّة على الإقليم على نحو يلغي مستقبلا كلّ مطالبة منافسة تستند إلى التّاريخ في المجادلة باستلحاقه وحكمه. بالعودة إلى حالة المجتمع المتعدّد حيث الأقلّيّة (س) ترغب في الاستقلال عن الأغلبية (ص) على أراضي الإقليم الذي تقطن به يبرز السّؤال عمّا إن كان ممكنا لـ(س) تقديم مطلب مشروع قانونيّا ومبرّر سياسيّا لكي تستمرّ في فرض السّيطرة على الإقليم المعني؟ يعتمد الجواب على نوعيّة العلاقة بين الجماعتين وكيفيّة تطوّرها تاريخيّا. فقد تكون هنالك حالة متطرّفة تعبّر من خلالها الجماعة (س) عن عدم الرّغبة في أن تكون جزءا ضمن الجماعة (ص) التي تعتبرها قوّة احتلال، ومثاله علاقة سكّان دول البلطيق الأصليّين بالأغلبيّة في الاتّحاد السّوفيتي سابقا، حيث لم يكن هناك مجتمع سياسيّ حقيقيّ بين الجماعتين (س) و(ص)، ولم تكن مشاريع جماعيّة مشتركة وحرّة بين الطّرفين. فمن الصّعوبة الإقرار بشرعيّة مطالب الجماعة (ص) بأراض تقطنها جماعة (س) إلاّ بقدر ما تملك فيها من استثمارات ماليّة، وفي مثل هذه الحالة تدفع الجماعة (س) تعويضات للجماعة (ص) مقابل تلك الاستثمارات إن هي أعلنت الانفصال. وفي حالة متطرّفة أخرى نجد الجماعة (س) رغم امتلاكها خصائص أو سمات تميّزها عن الجماعة (ص) إلاّ أنّها مع ذلك تشعر بالحرّيّة والمساواة في مجتمع تعدّدي، غير أنّ القوميّة الجديدة التي تسعى لبنائها وإحراز الاعتراف بها ليست نتيجة استغلال تاريخيّ وإنّما ناجمة عن التّطوّرات الثّقافيّة التي تجعلها تريد الآن السّيطرة على مجريات الأحداث في إقليمها الخاصّ درءا لما قد يهدّد لغتها بالانقراض أو يهدّد سماتها الثّقافيّة بالمسخ والتّشويه. ففي مثل هذه الحالة يقف مطلب الجماعة (س) على أرضيّة حقوقيّة صلبة تجعله شرعيّا، لا ترقى مطالب الجماعة (ص) إلى منافسته وإبطاله حينما تسعى إلى تجريد الأقلّيّة (س) من جزء من الأراضي تحت طائلة الدّفع بالمساهمة في تنميتها أو بزعم امتلاكها. فقد يثبت مطلب الجماعة (س) في النّهاية إذا لم يكن هناك حلّ توافقيّ للمسألة لأنّه الأقوى، غير أنّ هناك سببا قويّا في مثل هذه الحالة لإيجاد حلّ يعطي الجماعة (س) شكلا من الحكم الذّاتيّ الذي لا يصل إلى الاستقلال. وتنطبق هذه الحالة في ما أعتقد على الأسكتلند والولش في بريطانيا، والكتالون والباسك في إسبانيا وكندا وممكن جدا أن تنطبق على الأكراد في تركيا والعراق.
لوحة: يوسف عبدلكي
ننهي هذه المناقشة بالقول: إنّ الاحتكام إلى مبدأ الهويّة الوطنيّة أو “الجنسيّة” وتقديمه مبرّرا لتقرير المصير، يقتضي تطبيق معيارين على أيّ انفصال محتمل: يقضي الأوّل بتشكيل هويّة منفصلة بوضوح عن هويّة الأمّة الأوسع، والتّحرّر من الشّراكة معها. بينما يتطلّب الثّاني القدرة على التّحقّق من مطلب الانفصال بتبريره قانونيّا، وإثبات شرعيّة ممارسة السّلطة على الإقليم المعنيّ بالانفصال سياسيّا إذ لا يمكن تطبيق هذه المعايير آليّا، لأنّ تطبيقها يتطلّب حكما ودرجة من الفهم التّاريخيّ. وفي حال استيفاء كلا المعيارين يكون لدى الجماعة المعنيّة مطلب حقيقيّ وواقعيّ يسمح لها بالانفصال، لكن يبقى هذا المطلب غير حاسم متى ما تدخّلت عوامل أخرى ذات وزن ومقبوليّة في الاتّجاه المعاكس، حيث تفضي النّظرة الأوّلية على المطلب المناهض للانفصال إلى القبول به حتما ودون تردّد. وفي ما يلي عرض لبعض العوامل الأخرى التي قد تحتسب في الحكم النّهائيّ.
مسألة الأقليات والأعداد
الحالة البسيطة هي جماعة وطنيّة غير متجانسة تضمّ أقلّيّة (س) تقطن إقليما محددا تسعى للانفصال عن الدّولة التي تشكّل فيها (ص) الأغلبيّة، لكن الحالة المعقدة هي أن توجد في الإقليم المطالب بالانفصال بقيادة الأقلّيّة (س)، وحتى بافتراض شرعيّة المطالبة طبقا للمعايير المذكورة آنفا، أعداد من الأغلبيّة (ص)، وأخرى لا تنتمي لـ(س) ولا لـ(ص). وهو ما يعني أنّ هذا الانفصال ليس تحوّلا من مجتمع غير متجانس وطنيّا إلى مجتمع متجانس وطنيّا؛ وإنّما يعني في الواقع استبدال نمط غير متجانس بآخر غير متجانس أيضا.
إنّ الافتراض الذي يقود المناقشة هنا هو أنّ لكلّ عضو قيمة بصفته مواطن دولة تحتضن أمّة؛ فلئن كان الفرد عضوا ينتمي لأقلّيّة لا يعني ذلك بالضّرورة أنّ الأمر كارثة ولا خيار أو قدر سيّء. فكيف إذن ينبغي أن تقدّر الأمور قبل الانفصال وبعد حصوله بإعمال هذا المبدأ قاعدة ومعيارا؟ يأتي إحصاء الأفراد الذين يعيشون في دولة ويشكّلون فيها أقلّيّة وطنيّة أحد المخارج المقترحة، لكن السّؤال الذي يواجهنا هنا يتعلق بمن هي الجهة المخوّلة التي لها صلاحيّة تحديد معايير الانتماء ثمّ الإشراف على الإحصاء، وفي الحالة المتوخاة حيث ستفضّل تلك الأقلّيّة الاستقلال بافتراض أنّ الجماعة (س) هي التي تشكّل الأغلبيّة في الإقليم الذي يطالب بالانفصال، فإنّ الدّولة الجديدة ستتشكّل من أكثريّة هي الجماعة (س) إلى جانب أقلّيّة لم تستوف المعيار هي من الجماعة (ص) أو غيرها من أصحاب الهويّات المغايرة. فإذن، بناء الدّولة الجديدة (س) لم يغيّر وضع الانفصاليّين كثيرا عمّا كانوا عليه في دولة الأغلبيّة (ص)، لأنّ التّركيبة الاجتماعيّة المنسجمة لم تتحقّق، كذلك الحال بالنّسبة للأقلّيّات الأخرى في كلتا الدّولتين.
لا يأخذ هذا الاقتراح بالاعتبار سوى الحقائق السّياسيّة للحركات الانفصاليّة التي تفترض على وجه الخصوص، أنّ معاملة الأقلّيّات القوميّة في الدّولة (س) الجديدة لن تكون أسوأ من معاملتها في الدولة (ص) الأصليّة، إذ ستقابل معاملة الأقلّيّة (ص) في دولة (س) بمعاملة الأقلّيّة (س) في دولة (ص)، كما سيقابل الحكم الذّاتيّ الذي سيعطى للأقلّيّة (س) في الدّولة الأصليّة (ص) بما سيمنح من استقلال ذاتيّ للأقلّيّة (ص) في الدّولة الجديدة (س) والعكس صحيح، لكن في الكثير من الحالات يكون هذا الافتراض غير واقعيّ إلى حدّ بعيد، حيث يرى عالم الاجتماع دونالد هورويتز أنّ الانفصال يزيد من حدّة الصراع بين الجماعات دائما. فمن أجل تبرير مطلب الانفصال قد تلجأ الجماعة (س) إلى المبالغة في السّمات التي تجعلها تختلف عن الجماعة (ص)، ومتى ما نجحت في ذلك، فمن المرجح أنّها سترغب في تطهير الدّولة الجديدة من التّأثيرات المهلكة بتذويب العناصر المنتمية للجماعة (ص) من خلال حملات القمع وعمليّات الإخضاع الثّقافيّ وفي الحالة المتطرّفة عبر التّطهير العرقيّ الذي يشاهد اليوم في بورما. إنّ التّأثير الجانبيّ للانفصال قد يكون محفّزا لنزاعات جماعية جديدة،، وهو ما يفضي إلى سلوك طريق الاقتتال الدّاخليّ بين الجماعات الفرعيّة.
ومن الخطأ البالغ افتراض عدم وجود تغيير في الموقف الأقلّيّ لجماعة (س) التي تعدّ نفسها مجرّد ما تبقّى من دولة (ص) نتيجة التّواجد في هذا المكان، يبدو واضحا أنّها تشكّل أقلّيّة صغيرة تعتقد أنّ تأثيرها السّياسيّ سيكون أقلّ ممّا لو كانت مستقلّة. فقد لا تكون هناك أي دوائر انتخابية تنتخب أعضاءها بانتظام للبرلمان، وقد تجرّد من الحقوق الخاصّة كالحقوق الثّقافيّة باعتبار أنّه لم يبق منها سوى فئة قليلة جدّا تستدعي القلق بشأنها بالإضافة إلى الاهتمام الخاصّ. كما قد يجادل قادتها السّياسيّون في الدّولة (ص) بأنّ وجود الدّولة (س) يوفّر حماية نوعيّة لتلك الجماعة ولثقافتها، إذ سيغيّر إنشاء دولة (س) الهويّة السّياسيّة لأعضاء الجماعـة (س) ممّن بقي منهم خارجها. فقد يعزّز وجود تلك الدّولة إحساسهم بقيمتهم الذّاتيّة في بعض الأحيان النادرة، أو قد يشعرون بالمزيد من الاستبعاد من قبل جماعة (ص) غير أنّ هذا الشّعور سيكون بالمثل [إذا كنت تعتقد أنّك لا تنتمي لهذه الأرض فلماذا لا تنتقل إلى أرض (س)؟]. ومن ثمّة، سيكون من المرجّح أن تزداد حالة من تقطّعت بهم السّبل من جماعة (س) نتيجة الانفصال.
للأسباب المذكورة يبدو أنّ اقتراح تسوية مسألة الأقلّيات عن طريق الإحصاء وعدّ الرّؤوس غير كا على الإطلاق، إذ يتعيّن إصدار أحكام تتعلق بكيفيّة تغيير وضع المجموعات المختلفة عبر إنشاء دولة جديدة. والسّؤال في مثل هذه الحالة يتناول البحث عمّا إن كان مبدأ الهويّة الوطنيّة (أو الجنسيّة) يرشد إلى حلّ واقعيّ وعمليّ، ولا بدّ في هذا الصّدد من توضيح حقيقة أنّ المبدأ لا ينادي بإنشاء دول متجانسة ثقافيّا أو عرقيّا، ولكنّه يدعو إلى تقاسم هويّة وطنيّة مشتركة واحدة وموحّدة تترك قدر الإمكان مساحة للتّنوّع الاجتماعيّ المبنيّ على الاختلاف والمغايرة في العرق واللّغة، في الملّة والمذهب، كما في الرّأي السّياسيّ وما إلى ذلك. والمؤكّد أنّه إلى جانب مبدأ الجنسيّة يأتي إقرار مبادئ أخرى كمبادئ حقوق الإنسان مع ما تتضمّن من مبادئ تحمي حقوق الأقلّيّات، ومبدأ العدالة، ومبدأ المساواة وغيرها. فتنزيل هذه المبادئ في الواقع اليوميّ بوضعها موضع التّنفيذ يخلق ارتياحا في الأوساط الاجتماعيّة على اختلافها. كما أنّ وضعها بالاعتبار عند النّظر في قضايا معيّنة خصوصا عندما يتعلّق الأمر بمطلب الانفصال يساعد على الحكم، وعلى تقدير ما إن كانت حقوق تلك الأقلّيّات أفضل أو أسوأ لقبول أو ردّ المطالبة بالانفصال.
والواضح أنّ هذه التّقديرات صعبة، لكن الفعل الوحيد الذي لا يمكن ارتكابه هو قبول الوعود والتأكيدات التي قد يقدّمها الانفصاليون هكذا ببساطة كما هي، ودون ضمانات. فالفلاسفة السّياسيون الذين كتبوا عن هذا الموضوع يميلون في الواقع إلى القبول بالانفصال شريطة أن يلتزم الانفصاليون باحترام حقوق الأقلّيات في الدّولة الجديدة التي هم بصدد إنشائها وتشكيلها. لكن كيف يمكن تطبيق هذا الشّرط على حالة فعلية؟ ما هي القيمة الحقيقيّة لتعهد يقدّم بهذا الخصوص؟ علما أنّه بمجرّد تشكيل الدّولة الجديدة والاعتراف بها تدخل حيّز التّنفيذ قواعد آمرة قويّة تقضي بعدم التّدخّل الدّوليّ في الشّأن الدّاخليّ، واذا وضعنا هنا في الاعتبار تجربة يوغوسلافيا السّابقة فسنجد أنها أكّدت لنا أنّه من الصّعب جدّا السّيطرة على الانتهاكات واسعة النّطاق لحقوق الأقلّيات من الخارج. فهناك خطورة كبيرة في السّماح للانفصال بالحدوث لما قد يكون من تغاضٍ ضمنيّ عن سوء معاملة الأقلّيات في الدّولة المشكّلة حديثا، وهو أمر لن يكون من الممكن القيام بشيء حياله في مراحل لاحقة من سوء المعاملة تلك.
قد يقود مبدأ الهويّة الوطنيّة نفسه إلى التّفكير في وجهات نظر أخرى، وجهات تستدعي رؤية كامنة تدعو إلى أن يتقاسم مواطنو الدّولة هويّة وطنيّة شاملة تتيح مجالا للاختلاف الثّقافيّ، لكن إلى أيّ مدى يمكن تحقيق هذه الرّؤية المثاليّة على حالة معيّنة؟ بل إلى أيّ مدى تتضمّن الهويّة المعنيّة بطبيعتها عناصر يمكن أن ترتبط بثقافة مجموعة إثنيّة معيّنة؟ فإذا كانت الهويّة الوطنيّة للـجماعة (ص) غير متبلورة نسبيّا وكانت هوية الجماعة (س) تتضمّن عنصرا دينيّا أو عرقيّا أقوى عن سبيل المثال، فمن الواضح أنّ هناك فرصة متاحة بشكل أفضل للجماعة (س) بسبب ما لها من هويّة مشتركة يمكن أن تتطوّر في الدّولة الأصل (ص) على العكس ممّا قد يحصل لها في الدّولة الانفصاليّة (س). وللإشارة لا يعني هذا المعيار بالضّرورة تأييد الوضع الرّاهن أو تزكيته، وإنما يقصد به التّنبيه إلى حقيقة أنّه في الكثير من الحالات لا سيما منها تلك التي تكون فيها الدّولة القائمة راسخة منذ وقت طويل، الشّيء الذي مكّنها من إرساء آليّات جيّدة للتّعامل مع التّعدّديّة حيث يغدو مطلب الانفصال غير واقعيّ وغير مبرّر بما يلزم من النّاحية السّياسيّة. إذ لا يتوقّع أحد بخصوص قضيّة الكرد في العراق مثلا أن تقوم دولة كردستان المستقلة بحماية الحقوق الخاصة بالأقليات في كردستان بكفاءة وفعالية أفضل مما هو حاصل من انتهاك لحقوق هذه الأقليات في العراق، وأيضا لا يتوقّع أحد بخصوص قضيّة الكيبيك مثلا، أن تقوم دولة الكيبيك المستقلّة بحماية الحقوق الخاصّة بالأقلّيّة النّاطقة بالإنكليزيّة على الأقلّ بنفس الكفاءة والفعاليّة التي تقوم بها كندا اليوم في حماية حقوق المتحدّثين بالفرنسيّة. بتعبير أكثر وضوحا يصعب أن نتصوّر تطوّر هويّة وطنيّة متفتّحة ومتقبّلة لغير الكرد في كردستان بسبب غياب تقاليد أحترام حقوق الإنسان والأقليات في الشرق الأوسط عموما وفي العراق خصوصا، أو للنّاطقين بالإنكليزيّة في كيبيك، على نحو ما تطوّرت به الهويّة الكنديّة للمتحدّثين بالفرنسيّة في جميع أنحاء كندا بفضل التّرويج النّشط للحديث بها الذي أدى إلى أن تكون الثّقافة الفرنسيّة عنصرا مؤسّسا في تلك الهويّة.
الجماعة (س) ليست جماعة متميّزة ولكن جماعة تتكلّم لغة مختلفة أو لها ثقافة خاصّة. فبينما ينظر الأكراد لأنفسهم كأمّة مميّزة عن الأتراك، ينظر هؤلاء إلى الأكراد باعتبارهم مجرّد أتراك يتحدّثون لغة مختلفة، وما يناظر هذه الحالة نجده عند الأسكتلند والإنكليز، وعند المقدونيّين واليونان. قد يكون هناك إغراء للتّفكير في مثل هذه الحالات بأنّ الغالبيّة سارت باتّجاه خاطئ
لا يوجد سبب يدعو إلى الاعتقاد بإمكانيّة احترام حقوق الأقلّيات عندما يتعذّر التّعايش السّلميّ في المجتمعات المختلطة ومع اندلاع حرب أهليّة تصبح المصالحة أو التّوافق أمرا غير ممكن بسبب ما تأصّل من عداء متبادل، وحينئذ لن تنجح أيّ صيغة لتقسيم الإقليم. إذ يكون من الضّروريّ التّفكير في تبادل السّكان ابتداء لأجل إنشاء كيانات متجانسة وطنيّا، فاقتراح كهذا سيرحّب به معظم اللّيبراليّين لأنّ خلافه يذكِّر بالشّبح المرعب للتّطهير العرقيّ وبالتّرحيل القسريّ. لا شكّ أنّ الكثير من التّحوّلات السّكّانيّة قد حدثت في الواقع بشكل أو بآخر تحت طائلة الإكراه الفعليّ، لذلك ينبغي أن نكون مستعدّين للتّفكير في عمليّة تخضع لإشراف دوليّ تكون أقل كلفة من النّاحية الإنسانيّة وأقلّ ضررا من النّواحي الاجتماعيّة، بحيث يتمّ منح المرحّلين حوافز ماليّة لتبادل الممتلكات والعقارات إذا كان البديل عن ذلك هو ما شهد العالم من أحداث دامية في البوسنة.
وعموما ينبغي عند معالجة مسألة الأقلّيات ألاّ يكون المبدأ هو السّماح بالانفصال عندما تطالب به أغلبيّة إقليميّة، بل يتعيّن حثّ كلّ الأطراف على البحث عن الوسائل العمليّة التي تحقّق التّعايش بشكل أفضل، وتوفّر فرصا فعليّة لخلق دول ذات هويّات وطنيّة متجانسة نسبيّا تحمي حقوق الأقليّات داخليّا من النّواحي الاجتماعيّة والثّقافيّة وغيرها. للإحصاء أهمّيّة في معرفة الخارطة السّكّانيّة والإحاطة بالوضع الاجتماعيّ والثّقافيّ لمختلف الفئات، وينبغي أن تحتسب العواقب لأكثر من ذلك عندما تبدو الأوضاع سيّئة للغاية بالنّسبة للأقلّيات حيث قد يكون من الضّروريّ تشجيع بعض السّكّان على نقل مساكنهم قدر الإمكان.
مسألة العدالة والتّوزيع
يرد التّساؤل عمّا إن كانت الاستجابة للمطالب الانفصاليّة المتعلّقة بتطبيق مبادئ العدالة التّوزيعيّة تحقّق نتيجة أفضل في الاستجابة للانفصال، عندما يبدو أنّ المطالبة بتطبيقها أمر مستخف به لا سيما في فترات الرّكود الاقتصاديّ التي تؤثّر سلبا على الأوضاع الاجتماعيّة داخل الدّول بما فيها المستحدثة نتيجة الانفصال، والتي من المرجّح أن تؤثّر على حجم التّبادل بتغيّر نمط التّوزيع الاقتصاديّ بينها. من الملاحظ عند تتبّع المناقشات التي تناولت هذه المسألة أنّها تعطي لمبادئ العدالة بعدا استراتيجيّا، ومكانا بارزا في نظريّة الانفصال المشروع. ومن ثمّة يأتي السّؤال عن الدّواعي والاعتبارات الفعليّة التي تحتّم تعديل الاستنتاجات المتوصّل إليها بخصوص هذه المبادئ.
إنّ المسألة الأولى التي يتعيّن تسويتها هنا هي نطاق المبادئ المعنيّة. بمعنى هل ينبغي اعتماد مبادئ العدالة التّوزيعيّة كأعراف موجّهة في تحكيم القانون الدّوليّ مع ما يكتنف تطبيقها على الصّعيد العالميّ من صعوبات ومشكلات، أم اعتمادها كمبادئ لها نطاق محدود يتأتّى من التّطبيق العمليّ لها عبر المؤسّسات المحلّيّة؟ يحلّل بوكانان هذه القضيّة برسم التّباين بين “العدالة كمعاملة بالمثل” وبين “العدالة التي تركز على الموضوع″، حيث يرى أنّ التزامات الأولى لا تقع إلاّ بين مساهمين في مشروع تعاونيّ، بينما لا تفرض الأخيرة أيّ قيود من هذا القبيل. غير أنّ مبادئ العدالة التّوزيعية لا سيما المبادئ المقارنة منها مثل المساواة والحاجة والاستحقاق، لها بالفعل نطاق محدود لا تعيّنه الممارسة التّعاونيّة التي تستهدف تحقيق منفعة متبادلة؛ بل تعيّنه مواضعات مجتمع يعترف فيه الأعضاء بعضهم بالبعض وبالانتماء إليه جميعا على السّويّة. يتجنب هذا الرّأي طبعا ما يعتبره بوكانان الضّعف الرّئيس للعدالة بوصفها معاملة بالمثل حينما يعتبر أنّه لا يمكن الاعتراف بالتزامات العدالة تُجاه أولئك الذين لا يستطيعون الإسهام في خطّة للتّعاون الاجتماعيّ، مثل ذوي الإعاقة الخطيرة. وإذا كان نطاق مبادئ العدالة يحدّده ما يتواضع عليه المجتمع المعنيّ من حدود، فإنّ هذه المبادئ ستشمل حتما أولئك الأفراد الذين لا يستطيعون المساهمة في النّاتج الاجتماعيّ لسبب أو لآخر، إذ ستطبّق عليهم مثلا مبادئ المقارنة مثل مبادئ المساواة والحاجة والاستحقاق، لها بالفعل نطاق محدود. وعموما الأمم ليست هي المجتمع الوحيد الذي يمكن أن يُحسب على هذا المنظور، وإن كانت هي الأهمّ.
إذا كانت هذه هي الصّورة فكيف إذن نحكم على عدالة مطلب الأنفصال؟ لا شكّ أنّ الأصل يقضي بالحفاظ على مبدأ الوحدة في مجتمع تخضع مؤسّساته لدرجة أوثق من مبادئ العدالة التي يوافق عليها المواطنون، ومتى ما حدث الانفصال نتيجة سبب من الأسباب، أو تحت أيّ ظرف من الظّروف تتشكّل بالتّبع جماعتان سياسيّتان يتجّسد بشكل أو بآخر في كلّ واحدة منها إحساس بالعدالة بين الأعضاء، لذلك يكون من المزايدة الباطلة اعتبار الانفصال سببا لتحقيق العدالة. إذ يحاجج الموقف المؤيّد للانفصال بسخط الأقلّيّة (س) بسبب ما عانت من ظلم في الدّولة الكبيرة، إمّا لأنّ المبادئ التي اشتركت فيها مع الأغلبيّة لم تنعكس بشكل كاف في سياسات الدّولة، وإما لأنّ تلك المبادئ التي تقاسمتها داخل الجماعة (ص) قد نُفّذت بطريقة تمييزيّة. ويحاجج الموقف الرّافض للانفصال بما جنّدت الدّولة الأكبر من موارد وفّرت الحماية من أنواع العوز والحرمان لجميع الأعضاء في كلتا الطّائفتين. والحقيقة التي لا تقبل المراء والمجادلة أنّ الجماعة (س) والجماعة (ص) ستتلقّيان معا معاملة مختلفة بعد الانفصال سواء من قبل الحكومتين أو من قبل المؤسّسات الدّوليّة، وهو سبب آخر ينضاف لمعارضة الانفصال والوقوف ضدّه. وينطلق ذلك من مقدمة هي أن مبادئ العدالة النسبية تطبيق داخل المجتمعات وليس في ما بين مجتمعات في دول أخرى. فإنه ليس من الظلم مثلا أن الألمان يتمتعون بمتوسط دخل أعلى أو رعاية طبية أفضل من الإسبان، لذلك إذا كان الباسكيون ينفصلون عن إسبانيا، فلن يكون هناك أي ظلم إذا كانوا يحصلون على مستوى معيشي أعلى (أو أدنى) من مواطنيهم السابقين.
يعني هذا بشكل عامّ أنّ حجّة العدالة ستتعزّز بإعلاء الوطنيّة كانتماء ومبدأ جامع بدل التّعويض بالحجّة الأصليّة لتقرير المصير، لكن عندما تتعارض الهويّة الجماعيّة لمجموعتين أو أكثر داخل الدّولة بشكل جذريّ، فيعني ذلك أنه من المحتمل جداً سيحصل مجتمع الأقلّيّة على معاملة غير عادلة لواحد أو لكلا السّببين المبيّنين أعلاه. ومن المرجح أن تنافر الهويّات الخاصّة يأتي كمحصلة طبيعيّة لما يعتمل داخل الثّقافات العامّة من تناقض، وبالتالي فهو مختلف نوعا ما لما تتطلبه العدالة. وبالمثل عندما يوجد قدر كبير من العداء بين المجتمعات المحلية، سيشعر الزعماء السياسيون في مجتمع الأغلبية بإغراء قوي لممارسة سياسات تمييزية لصالح أتباعهم. إنّ الهويّات الجماعاتيّة تتقارب بشكل أوثق على المستوى الوطنيّ كلّما تحقّقت العدالة، وليس محتملا أن يدعم مبدأ الجنسيّة ولا العدالة التّوزيعيّة مطلب الانفصال.
عند التّفكير في ظروف أخرى يمكن أن تلجأ إليها العدالة للاعتراض على حالة انفصاليّة يبدو أنّ لها ما يبرّرها من نواح أخرى، تبرز حالتان هما:
أولا، أنّ الانفصال كما لاحظ العديد من الباحثين قد يكون غير عادل إذا حرم الدّولة الأصليّة من بعض الموارد القيّمة التي تمتلكها أو التي تمّ إنشاؤها بمجهود جماعيّ مثل ثروة طبيعيّة نصّ عليها دستور الدّولة السّابقة للانفصال بوصفها ملكا عامّا لكلّ المواطنين، أو استثمار ماليّ كبير قامت به تلك الدّولة في إنشاء محطّة لتوليد الكهرباء على أراضي الإقليم المطالب بالانفصال؛ حيث يمكن من حيث المبدأ حلّ هذه المسألة من خلال نقل الدّفع من الدّولة الجديدة (س) إلى ما تبقّى من الدّولة الأصل (ص) بالرّغم من صعوبة الاتّفاق على شروط دقيقة بهذا الخصوص. كما يمكن عندما يفرض انسحاب الجماعة (س) معاناة على الجماعة (ص) أن يعقد الطّرفان اتّفاقيّة ذات صبغة دوليّة تستمرّ من خلالها الجماعتان (ص) و(س) في التّعاون وفق الظّروف والشّروط والشّرعيّة المتوقّع معها استمرار ذلك التّعاون. فقد يكون لدى الجماعة (ص) بعض المطالب بالتّعويض التي تنخفض تدريجيّا مع تقدّم الزّمن وتوالي السّنين، لذلك فإنّ من الأفضل اعتبارها من مسائل العدالة الانتقاليّة التي لا ينبغي أن تُخلَط بالفكرة المرفوضة أعلاه التي ترى أنّ الانفصال سبب لتحقيق العدالة، فالموقف النّسبيّ للطّائفتين اللّتين تشكّلتا بفعله لا بدّ من أن يحتكم إلى تطبيق مبدأ المقارنة مثل المساواة والحاجة والاستحقاق عند كليهما.
ثانيا، عندما يكون الانفصال سببا مباشرا لأن تبقى الدّولة الباقية قليلة الموارد لا تقدر على حماية مصالح أعضائها وتأمين متطلباتهم الأساس، فيضطرّها ذلك إلى الرّضوخ والانصياع لأجندات القوى الدّوليّة أو الإقليميّة كأن يختار إقليم غنيّ الانفصال عن أقاليم فقيرة وهامشيّة، وهو أمر يستحقّ التّفكير لأنّه يلقي الضّوء على المبدأ العامّ الذي يستند إليه هذا الافتراض وهو أنّ سعي الجماعة (س) إلى تقرير المصير يتعيّن حتما ألاّ يفضي إلى حالة تحرُم الجماعة (ص) من تحقيق العدالة في ما بين أعضائها ما يجعلها محقّة في المطالبة بالحقّ في تقرير المصير أيضا. وهذا يذكّر إلى حدّ ما بضرورة أن تكون الدّولة الانفصاليّة والدّولة الباقية كلاهما “كبيرتين، ثريّتين، متماسكتين ومتّصلتين جغرافيّا بما فيه الكفاية لتشكيل حكومة تؤدّي بشكل فعّال الوظائف اللاّزمة لخلق بيئة سياسيّة آمنة”. ومع اعتبار عدم جدوى الإصرار على مطالبة كلّ دولة بالوصول إلى مستوى من الشّرعيّة اللّيبراليّة قبل تشكيلها يبقى مهمّا بالفعل أن يكون لكلّ من الدّولتين (س) و(ص) ما يلزم من الأراضي والموارد التي تمكّنها من إنشاء مجتمع سياسيّ قابل للحياة؛ أمّا كيفيّة القيام بذلك عمليّا فهذا يعتمد على الثّقافات السّياسيّة المتحصّلة لدى الجماعتين.
الخلاصة
لقد حاولت الدّراسة أن توضّح ما يوفّر مبدأ الهويّة الوطنيّة (أو مبدأ الجنسيّة) من وجهات نظر حول قضيّة الانفصال، ومن رؤى تتجنّب الوقوع في مغبّة تجاهل مطالب الانفصاليّين دون انحياز لطرف على حساب آخر، ودون أن يكون في الأمر ما يرغم على الدّفاع عن الدّولة القائمة. ففي بعض الأحيان تحتاج الحدود إلى تغيير، لكنّ القيام بذلك لا يصحّ ولا يتحقّق إلاّ بتطبيق المعايير ذات الصّلة، وليس فقط عبر المطالبة الصّاخبة والتّجييش المنفعل للعواطف القوميّة، إذ من غير الطّبيعيّ أن تنادي أغلبيّة إقليميّة تريد الانفصال بالاستقلال دون أن يكون لها الحقّ في القيام بذلك. فهي تحتاج إلى قياس قوّة مطالبتها، وقياس المدى الذي تطوّرت إليه هوّيتها، كما تحتاج إلى قياس قدرتها على تحمّل كلفة الانفصال وإلى معرفة كيف يمكن أن يكون مصيرها عند تطوّر هويّة أقلّيّة منفصلة داخلها، بالإضافة إلى استيعاب مختلف النّظم الممكنة التي تتطوّر من خلالها مختلف الجماعات والمجموعات وغير ذلك ممّا يتطلّب مستوى من المعرفة العلميّة ومن الحذق السّياسيّ ناهيك عن التّمكّن من فهم الواقع والإمساك بخيوطه المعقّدة والمتشابكة. فبهذه الطّريقة لا بغيرها يمكن أن يكون الانفصال الصّريح مبررا من النّاحيتين القانونيّة والسّياسيّة، وبديلا مقبولا عن الأشكال التّوافقيّة الأخرى المتوفّرة داخل حدود الدّولة القائمة كالحكم الذّاتيّ الجزئيّ، الفيدراليّة، الحكم الذاتيّ المحليّ، وما إلى ذلك من أشكال.