تقرير من كوكب غامض
بعد رحلة هائلة المسافات، هبطنا أخيراً على سطح ذلك الكوكب النائي، مستعدّين للقيام بمهمة الإنقاذ. كانت إشارات الطوارئ التي تلقيناها مسعورة في كثافتها، لكنّ كلّ شيء بدا منتظماً ههنا. وأكّد أوّل مسح أجريناه أنه ليس من احتمال لوقوع كارثة طبيعيّة. كان الغطاء المناخي ودوران الغلاف الجويّ، مستقرّين، على الرغم من الارتفاع أخيراً في مستويات الإشعاع الباقي. ثمة دليل على التآكل طويل الأمد للقاعدة الإيكولوجية، لكنّ هذا لا يزال أكثر من كاف لاستدامة الحياة.
يشي الاستطلاع الجوّي لمئات المدن التي تحتلّ قارّات ضخمة بأنّ سكّان الكوكب، يصل عددهم إلى المليارات، وإن لم يكن قد ظهر أيّ من السكان في استقبالنا. من المحتمل أنهم ما زالوا يلوذون في مخابئهم بعد الكارثة التي هدّدت بفنائهم. لقد دخلنا العديد من المدن ووجدناها مهجورة، لكنْ ليس من علامة على الملاجئ تحت الأرض لإيواء هذا العدد الضخم. ويظلّ الاحتمال قائماً بأنّ السكان فرّوا من كوكبهم يائسين، خشية من أنّ طلبهم العون لم يسمع. غير أنّ القدرات المحدودة لتكنولوجيا الفضاء الخاصة بهم، تستبعد هذا الهروب، وافترضنا أنهم ما زالوا مختبئين.
في محاولة لطمأنتهم، فقد استفدنا من المنشآت التلفزيونية والإذاعية المحلية، وقمنا ببثّ إشارة ترحيب وصداقة. وللمفاجأة، أدّى هذا إلى تفعيل شبكات الكمبيوتر الموسّعة في الكوكب، والتي تفاعلت في إظهار مفاجئ للإنذار، كأنّها معتادة على عدم الثقة في هذه التعبيرات عن النوايا الطيبة.
وجدنا أنّ نظام الكمبيوتر يعمل بالكامل. أجزاء كبيرة من النظام، خصوصاً وظائفه الإدراكية والتنبؤية، تولدت ذاتياً خلال الماضي القريب، ويبدو أنّ شبكات الكمبيوتر فعّلت نفسها بصورة مستقلة لمواجهة كارثة وشيكة.
يؤكّد محقّقونا أنّ هذا التهديد كان مرتبطاً بصورة وثيقة بتاريخ مهم في التقويم الكوكبي، ممثلاً بدورة الأربع وعشرين ساعة، الحادي والثلاثين من ديسمبر 1999. من الجليّ أنّ هذا حدّد نهاية عصرين بالغي الأهمية، وبداية قرن وألفية جديدين. ويبدو الآن بصورة مؤكدة أنّ وصولنا تزامن، وإن زاد قليلاً، مع هذه اللحظة المشؤومة، التي تفهمها شبكات الكمبيوتر على أنها موعد نهائي يائس.
ما زال نظام الكوكب الكمبيوتري في حال استثارة مطلقة، مسجّلاً تجاوباً شاملاً ردّاً على خطر مطلق. فقط قدر قليل من حركة الإشارة يتنقّل بين الأقمار الاصطناعية، لكنّ ثمة مخزونات ذاكرة عملاقة مع قدرة تفوق احتياجات النظام بما لا يقاس. بنوك الذاكرة تلك مليئة الآن، تحميها رموز معقّدة لم نتمكّن من فكّها، وربما تكون موضع دفن كنز والمخزن الأخير لمعرفة الكوكب عبر الأجيال.
وجدنا أنّ دفاعات النظام مثيرة للإعجاب مما جعلنا نقتنع أنّ تلك الكمبيوترات هي التي سمحت ببث إشارة الطوارئ مستدعية إيانا لإنقاذ عالمها.
غير أنه، ما زال لا يوجد إشارة على السكان، ولا ردود على تحيتنا. المدن وضواحيها ومطاراتها وطرقها السريعة، تظلّ صامتة. وفي الأثناء نقوم بمسح لأولئك الأقوام، وعددهم ومزاياهم المدنية، وقد وصلنا إلى مجموعة من التناقضات الصادمة. من الواضح أنّ مهاراتهم التكنولوجية والعلمية متطوّرة، تتيح لهم بناء مدن واسعة والسيطرة على الكوكب. وقد أنشأوا في الماضي القريب بنية تحتية هائلة من الطرقات والجسور والأنفاق، معزّزة بنظام طيران يصل إلى أبعد أركان العالم.
كما وجدنا أنّ موارد الكوكب المعدنيّة والزراعية وموارد الطاقة، فعّالة، وقد استُغلّت دون هوادة. كان ثمة نظام مقايضة جذاب رغم بدائيته، يقوم على مفهوم المال، يُسهّل نقل البضائع والخدمات والثروة الفائضة تموّل علوماً وتكنولوجيا تتطوّر باستمرار. أما الرحلات إلى الفضاء، إلا في أشكالها الأكثر بدائية، فما زالت دون قدرات هؤلاء القوم، لكنهم استطاعوا استخراج الطاقة من الذرّة وفككوا الشيفرة الذرية التي أشرفت على إعادة إنتاجهم، وبدت في طريقها للقضاء على الأمراض وحلّ ألغاز الحياة والخلود.
في الوقت نفسه، فقد أظهر باحثونا أنه على الرغم من تلك الإنجازات، فإنّ شعوب هذا الكوكب بالكاد ارتقوا في مناحي أخرى فوق أدنى مستويات البربرية. فالاستمتاع بالألم والعنف طبيعيّان بالنسبة إليهم كالهواء الذي يتنفّسونه. أما الحرب فهي رياضتهم المفضّلة، حيث يقوم سكان متنافسون وغالباً قارّات بأكملها، بمهاجمة بعضها البعض بأكثر الأسلحة شرّاً ودماراً، بصرف النظر عن الموت والمعاناة التي تنشأ عن ذلك. تلك الصراعات قد تستمرّ سنوات أو عقوداً. والأمم التي تعيش ظاهرياً في سلام تكرّس نسباً كبيرة من دخلها الجماعي لبناء ترسانات الأسلحة المدمّرة، وإرضاء شهية سكانها في عرض للترفيه الوحشي الذي يتكوّن حصراً من العنف والإذلال والجريمة.
ليس مفاجئاً، مثلما تؤكّد أبحاثنا الأخيرة، أنّ التهديد المحتوم الذي نبّهتنا إليه كمبيوتراتهم، يتمثّل في الواقع بوجود أولئك الناس. لقد شكّلوا الخطر الذي سوف يهيمن على كوكبهم، وبهدف إنقاذ نفسها، فقد استدعتنا شبكات الكمبيوتر من الطرف القصيّ من الكون.
الموعد النهائي الذي حدّدته الكمبيوترات، الساعة الحاسمة حين تنتهي ألفية وتبدأ أخرى، ربما تشرح سبب شعورها بالخطر. أخذاً في الحسبان جوع أولئك القوم للعنف، فربما رأت الكمبيوترات أنّ ولادة الألفية الجديدة قد تشكّل رخصة لكرنفال أضخم من الدمار. كانت تلك الأقوام تقف على حافة الفضاء، فصيل بربري مع سرّ الخلود في متناول أيديهم، متشوّقين للعب بالسيكولوجيا الخاصة بهم بوصفها اللعبة المطلقة.
لا بدّ من أنّ احتمال انتشار هذا الوباء الخبيث في أرجاء الكون، حفّز كمبيوترات هذا الكوكب للمطالبة بالتوقّف. لكنّ اللغز الأكبر يبقى أين اختفى السكان. لو أنهم انقرضوا جسدياً في نوع من التطهير الكوكبي، فليس من أثر لمليارات الجثث في هذه المقبرة الواسعة المطلوبة لاحتوائهم.
يخطر لنا تفسير محتمل بينما نستعد للعودة إلى نجمنا الأم. لا بدّ من أنّ سكان هذا الكوكب التعس، مدفوعين بالحاجة إلى المزيد من مشاهد الإبادة التي تسليهم أكثر من كلّ شيء آخر، اخترعوا نسخة متقدّمة داخلية من شاشاتهم التلفزيونية، نسخة افتراضية عن الواقع يمكنهم أن يُطبّقوا عليها أكثر خيالاتهم انحرافاً. تلك المحاكاة الثلاثية الأبعاد، كانت تتولد من قبل كمبيوتراتهم، وقد وصلت إلى مرحلة من التطوّر خلال السنوات الأخيرة من الألفية، بحيث أنّ تقليد الواقع بات أكثر إقناعاً من الواقع نفسه. قد يكون ذلك غدا الواقع الجديد إلى درجة أنّ مدنهم وطرقهم السريعة، ومواطنيهم وفي النهاية هم أنفسهم، بدوا مجرّد أوهام بالمقارنة مع التسلية المتولّدة إلكترونياً. هنا يمكنهم استئناف هويتهم، وخلق وإشباع أيّ رغبة واستكشاف أكثر الأحلام انحرافاً.
لكنْ في مرحلة ما في الألفية الجديدة ربما يكونون قد قرّروا العودة إلى العالم وأن يختبروه بإزاء تلك الأحلام، مستعدّين لتدميره مثل طفل يدمّر لعبة لا تتجاوب معه. من المحتمل أنّ الكمبيوترات في هذا الكوكب، وقد استقبلت السكان في هذا الكهف الوهمي، اتخذت بعد ذلك قراراً يائساً ودفنتهم مغناطيسياً، محوّلة إياهم عبر علم لم يكتشف بعد، إلى نسخة مُتذكّرة من ذاتهم الجسدية؟ وما إن أصبحوا داخل الكهف، حتى خُتم باب الموت الافتراضي ورُمّز خلفهم، تاركاً الكمبيوترات وحدها آمنة في النهاية.
إن كان الأمر كذلك، فقد وصلنا متأخّرين بضع دقائق. خلال مغادرتنا هدأت الكمبيوترات، وها هي تغنّي بهدوء بصوت موحّد. ربما كانت تفتقد رفاقها القدماء، مهما كانوا متوحّشين. يشير مسحنا النهائي إلى أنهم اخترعوا إلهاً، هو ربما صورة مثالية عن العِرق الذي يمثلوه. خلال رحلتنا إلى الفضاء الخارجي كانت تتناهى إلى مسامعنا أصوات صلواتهم.
1992