تمثلات النوع الاجتماعي في اللغة
تعد مسألة النوع الاجتماعي؛ سواء تعلق الأمر بمصطلح الجنس كمفهوم تقليدي أو تعلق بالجندر كمصطلح بدأ يفرض نفسه حديثا، من الظواهر التي يكتنفها الغموض والارتباك. وتتعدد أسباب هذا الغموض والارتباك لعوامل لها خلفيات وحمولات ثقافية واجتماعية وأيديولوجية وسياسية… ولعل علاقة اللغة بهذه الظاهرة لا تشكل استثناء ضمن هذا الغموض وهذا الارتباك. فالتذكير والتأنيث تطريز اجتماعي، وتصنيف نمطي يعتبر تفكير الجماعة اللغوية وتصوراتها عن الكون والإنسان والأشياء مصدرا لها.
إن اقتران مسألة المذكر والمؤنث بالغموض، من الناحية اللغوية، كامن في أسباب عديدة ومختلفة في الزمان والمكان، وقد أرجع عيسى برهومة في كتابه “اللغة والجنس: حفريات لغوية في الذكورة والأنوثة” أسباب هذا الغموض في ارتباط التأنيث والتذكير بالتاريخ اللغوي، ذلك أن نشأة اللغة والتطور الذي طرأ على مسيرتها أمر نجهله، فلم تترك الأمم من الأمارات الكافية ما يدل على لغتها، فانقرض كثير من اللغة الأولى، ودرست آثارها، وعفت رسومها. وهناك سبب آخر أسهم في خفاء مسألة المذكر والمؤنث، هو تصنيف الجنس في اللغة، فقد تم توزيع المحسوسات والمجردات على قسمين وحسب، هما: المذكر والمؤنث، فداخل القسم الواحد ما لا يتعالق مع غيره بقرينة، فالمذكر والمؤنث ارتبطا بالجنس الطبيعي وهو قرينة مادية حسية، وانتفاء هذه القرينة بالضرورة أسفر عن غموض في التصنيف وفوضى في التوزيع. وانعكس هذا الغموض على تفسيرات الباحثين وتأويلاتهم، فتغلفت آراؤهم بالخيال والأسطورة، مما زاد الظاهرة عماء.
إن التقسيم لأدوار الذكر والأنثى ليس من تبعة الحاضر، بل هو وليد الفكر الإنساني عبر ركامه المعرفي، فقد أطبقت المجتمعات على تفضيل الذكر على الأنثى، واصطبغت بهذا الاعتقاد الأنظار الفكرية، ولا سيما التصنيفات اللغوية، فقسمت الجنس إلى مذكر ومؤنث، واتخذت من الذكر أصلا للمؤنث.
النوع الاجتماعي والتطور اللغوي
لم يقتصر الاهتمام بمسألة التذكير والتأنيث على حقبة زمنية دون أخرى، بل ظل الجهد موصولا، قديما وحديثا، فبذل السابقون كل ما في وسعهم، وتبعهم في ذلك اللاحقون، لاستجلاء مسألة الجنس في اللغة والوقوف على كنهها وماهيتها. فاختلفت الرؤى وتعددت التفسيرات، فمنها من اكتست طابعا دينيا أوغيبيا أو أسطوريا، ومنها من اتخذت منحى ذهنيا مجردا. ومن هذه الرؤى نجدها عند Antoine Meillet في “Esquisse d’une histoire de la langue latine” الذي ذهب إلى أن الأمر يتمحور حول تطور الجنس في اللغات الهند أوروبية القائلة بأن أول تقسيم للأسماء هو تقسيمها إلى حية وغير حية. ويرى أن فئة الكلمات التي تعود على الأحياء تنقسم إلى مذكر ومؤنث، وأن اللغة العائدة على غير الأحياء أصبح معظمها مؤنثا، لكن بعضها احتفظ بالتذكير.
كما ركز آخرون، ومنهم عصام نورالدين في مقاله “المحايد أو المذكر والمؤنث من غير الحيوان“ على أصالة التذكير، وأن التأنيث شذوذ عن القاعدة، ذلك أن مذهب اللغة التطوري كما نفترضه يذهب إلى التذكير، ولا يعتد بالتأنيث الذي إن وجد فلا يعدو كونه انحرافا لغويا لا تبنى عليه قاعدة… عدا ما قد يوقع باللغة من الغموض والاضطراب في حال الأخذ به.
ولأنه لا يمكن تناول هذه الظاهرة بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي أنتجتها؛ فاللغة في جوهرها متأصلة في حقيقة الثقافة ونظم الحياة والعادات عند كل جماعة، حيث يرى Casey Miller في “Words and Women” أن اللغة الألمانية ليس فيها للمرأة الشابة جنس فارق، فيما يحظى نبات اللفت، بجنس محدد، فأيّ وقار ومهابة يتمتع بهما نبات اللفت، وأيّ مهانة لحقت بالبنت أو الفتاة. أما الزوجة في الألمانية ليس لها جنس، فهي محايد.
ويرى Leonard Bloomfield في كتاب “Language” من جهته أن تصنيفات الجنس في معظم اللغات الهند أوروبية لا تتفق في شيء في العالم العملي، وأنه لا توجد قاعدة أو مقياس عملي يمكن بوساطته تحديد الجنس في الألمانية أو الفرنسية أو اللاتينية. فاللغات الهند أوروبية لم تستقر على حال في تعاطيها مع الجنس، بل طرأت عليها تغيرات عديدة خلال العصور؛ ففي تاريخ اللغات الرومانية والجرمانية والكلتية، وفي الفرنسية كثيرا ما جرّت نهاية التذكير أو التأنيث معها الجنس المقابل لها.
ومن جهة أخرى، تطلق اللغات في الوسط الأفريقي على الجنس اسم “الطبقة“، ويعلل فندرس في مؤلفه “اللغة” ذلك بأنه محاولة قام بها العقل لتصنيف المعاني المتنوعة التي يعبّر عنها بوساطة الأسماء، وأغلب الظن أن هذا التصنيف يقوم على التصور الذي كان في ذهن السابقين عن العالم، وقد ساعدت عليه بواعث غيبية ودينية.
اللغة في اللاشعور الجمعي
يبدو أن اللغة في اللاشعور الجمعي تخاطب المتلقّي كما لو كان رجلا دائما؛ لأن العرف العام يبدو أنه تشكل بوساطة الذكور، ويتجلى ذلك في الإعلانات التي توظف المرأة كأداة إغرائية لعرض المنتوجات. وتستبعد هذه الإعلانات الأنثى كمتلقّ على نحو صارم، ومن ثم تصبح المرأة في اللاوعي؛ مسكونة بنزعة تلقينية مفروضة من الخارج ليس إلا. كما أن اللغة التي تستعمل في الألقاب تعني اعتراف المجتمع وتقييمه للدور الذي يقوم به الفرد داخل هذا المجتمع، وهذه الألقاب ممنوحة للرجال فقط، وأن الاعتراف بدور المرأة وهويتها في المجتمع ذاته ضئيل ويتمحور في حدود ضيقة تعكس الشرط الاجتماعي لمنتج اللغة ومتلقيها. وتبعا لذلك، كما يوضح برهومة، فإن اللقب يُمنح للإنسان رجلا كان أو امرأة باعتباره قد يشكل حالة ثقافية معينة داخل المجتمع، ويكون منح اللقب لهذا الكيان الثقافي تحديدا لدور الإنسان ذاته، وإبراز له في مناشط الحياة. واللغة، في هذا السياق، وإن كانت محايدة في مستوياتها؛ فإنها أداة للتعبير عن هذه الثقافة الاجتماعية، تتأثر بالأبعاد المعرفية والاجتماعية للأفراد، وبالمحيط الذي ينتج فيه الكلام.
انحياز اللغة
إن انحياز اللغة في أكثرها إلى الرجل، وتصويره معيارا للإنسان عموما، جعلت من الأنثى فرعا وانحرافا عن المعيار، ومن ثم، فإن اللغة، كما ذهب إلى ذلك Dale Spender في مؤلفه “Man Made Language” إلى أن اللغة ليست عربة تحمل أفكارنا، بل هي تشكل الأفكار، إنها برنامج النشاطات العقلية. وفي السياق ذاته هي لا شيء أكثر من تخيلات البشر المثيرة للسخرية كالقدرة على التمسك بالأشياء كما هي موجودة. وعندما تكون هناك لغة متحيزة لجنس ما، ونظريات تقليدية متحيزة أيضا، فإن ملاحظة الواقع ستكون أيضا قابلة لأن تكون متحيزة لجنس دون آخر.
ويرجع Luci Li gray من خلال “Language and Gender” هذا الانحياز اللغوي إلى أن الذكور قاموا، بوعي أو دون وعي، بتمثيل أي شيء له قيمة بما يوافق صورتهم أو جنسهم النحوي لضمان سلطتهم وهيمنتهم على الخطاب. فأغلب النحويين قالوا بعشوائية الجنس النحوي، وأنه مستقل عن الدلالات والإشارات الجنسية، لأن ذاتهم قد انسربت في يخضور اللغة، فجهدوا إلى تثبيت المذكر، وإقصاء المؤنث، وأن ذلك تم بطرائق مختلفة ومستويات متنوعة، فقديما اعتقدوا أن هناك تطابقا بين ما يسمى بالواقع وجنس الموضوع المتكلم، فالأرض هي المرأة، والسماء أخوها، أما الشمس فهو الرجل الإله، والقمر هي المرأة أخت الرجل الإله.
إن تصنيف التذكير والتأنيث يختلف من لغة إلى أخرى وفي نظام اللغة ذاتها؛ لاعتبارات عرقية، وأخرى تتعلق بالطبقات الاجتماعية والظروف الاقتصادية، فبعض التقسيمات مردها القوة والضعف، أو الخشونة واللين. فالتذكير تبعا لذلك معادل للقوة والشدة والشجاعة والأنفة والصلابة، أما التأنيث فيلتصق باللين والسهولة، والإنتاج والخصب والإنبات. ويتسق هذا التصور مع الرأي الذي يقول إن التذكير أصل، والتأنيث ثان، وهذا ما همس به سيبويه عندما اعتبر أن كل الأشياء أصلها التذكير، ثم تختص بعد ذلك، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكر، فالتذكير أول وهو أشد تمكنا، ولذلك ميز العرب بين جنس الذكر وجنس الأنثى، فالمرأة إنما سميت أنثى من البلد الأنيث، لأن المرأة ألين من الرجل، وسميت أنثى للينها.
إن مبعث هذا التحيز اللغوي هو الثقافة وقيم المجتمع لا اللغة. فاللغة محايدة في مستوياتها، ولكنها تعكس تمثلات الثقافة التي تشربت منها؛ لأن اللغة في حقيقتها، حسب برهومة، نتاج اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة من التقاليد الضرورية التي يتبناها مجتمع لتترجم من خلال تحققات فردية. فالفرد يكتسب اللغة لأنها الذاكرة الجمعية التي تودع الشعوب فيها خبراتها، وتنقلها إلى الأجيال اللاحقة.
إن اللغة بهذا المعنى، تمثل ظاهرة مجردة من المحمولات التي قد تلحق بها من جراء المؤثرات الخارجية، ليس من المنطق أن نصف اللغة بالتحيز، ثم نلجأ إلى تعديل مستوياتها وأنظمتها؛ فتلك مغالطة منطقية كالذي يضع العربة أمام الحصان؛ لأن تعينات التحيز تثوي في تضاعيف الثقافة والمجتمع، لا في جبلّة اللغة، وبالتالي يتعين تعديل الثقافة وقيم المجتمع، لينعكس ذلك على التحققات اللغوية. ولعل ذلك ليس إلا مظهرا من مظاهر علم اللغة الاجتماعي.
ولم تخل العربية، حسب برهومة، من ظاهرة التحيز اللغوي، ولم تكن بمنأى عن السياق الاجتماعي السائد، والذي يخضع لسلطان البيئة والثقافة المتحكم، وله ما يبرره؛ فاستمد قواعده ومعاييره من الواقع اللغوي السائد، وقد رتبت العربية أحكاما نحوية وصرفية وفيرة للتمييز بين المذكر والمؤنث… ولعل هذه الوفرة في أبواب النحو والصرف تحققت؛ لاعتقادهم بأن التذكير والتأنيث طريقة من طرق التقسيم النحوي لإظهار التوافق في السياق حتى يكون التماسك فيه واضحا. ولكن الحرص على التوافق السياقي لم يكن خلوا من تداعيات الثقافة ووطأة المجتمع.
إن التفريق بين الذكر والأنثى على أساس الدور الاجتماعي لكل واحد منهما؛ يرجع إلى التأثر بالقيم السائدة في المجتمع التي تضفي على الإنسان اختلافات غير قابلة للتغيير لأنها فوارق ثابتة وأبدية، في حين يقتصر فيه مفهوم الجنس أو النوع البيولوجي على الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة.