تمرين على الاحتفاء بسنة جديدة

السبت 2025/02/01
لوحة (حسين جمعان)

بعد المسافات

الواقف أمام الطقس

يعرف أنه - منذ الآن - ذكرى

حتى مع حجارة متراصفة      

على هيئة سور

مع يد ثابتة على حجر

مع حجر متأرجح

 أمام العناصر

إذ

بعد قليل تمطر

أو

لا تمطر

الشجرة يابسة تتدلى

من السور

سترة منهكة

لعلنا لا نعرف

أننا نمشي

بعد المسافات.

 

المسافات

كلّ هذه السنوات

لأصل إلى هذا الجدار القرميد

الذي يظنّ أنه يحدّد

الشرفة

ثم لا شيء يكتسب معناه

مرة أخرى

إذ، دائماً، تقول الضرورة:

ما الضرورة؟

ويدي تستطيع المكوث طويلاً ههنا

حيث شعاع مخزّن

ثم تستطيع ألا تنسى

حين يهبط الليل

أجاور فكرة أخرى عن نفسي

وأترك الأشياء تَقضم - على مهل -

صور الأشياء.

 

غروب

كنزة طفلتي الزيتية

والعصابة على رأسها

وانشغالها الهادئ بطبق الباستا

والصوت الذي يتوقّف

والضوء الحائر على الحافّة

كلّ شيء الآن يقول: غروب.

 

شجرة في المساء

يدانا وشجرة

حتى ننسى المساء

على مقربة

 من النسغ

هناك حياة

وهناك شارع يهبط

ثم يعلو

شيء ما - وقت الغروب - لا يستوي

مع العيون

دار العجزة

تخرج منها سيارة قديمة

نتمهّل بجوار مقعد خشبي

على حافة النهار

بيننا شجرة وهذه الشمس

على الخطّ تماما

بين الماء واليابسة

تحتاج تربيتة منك

كي تصحو

أو تنام.

 

ساعة جميع الأشياء

عصر المذبحة؛

أشياء معروفة في الأخبار

وظهيرة وجودكِ

تحت هذا السقف الواحد

ساعة جميع الأشياء

صوت يقول:

الكثير يحدث هناك

والكثير يحدث هنا

صوتك في الهواء

أبواب قريبة

فلا نحتاج إلى مخيلة جديدة

حكايتي أيضا لا تحتاج إلى سرد

لأنك الآن

في الطرف المقابل

من الطاولة.

 

البيوت

ما دامت البيوت فينا،

ما دمنا نحملها

مثلما تحمل طفلة دميتها إلى النوم،

أو مثلما تحمل دمية نفسها إلى النوم،

ما دامت البيوت هناك، في الأبصار،

حيث لا نحتاج إلى مفاتيح،

حيث لا دخول ولا خروج،

فقط مشهد دافئ وبطيء يكرّر نفسه،

فلمَ لا نعيد النوافذ والأبواب

إلى أماكنها الأولى،

لمَ لا نضع رغيفاً على المائدة

ونقول: هذا بيتنا

ساخن

ومستدير

وكامل

كالحب.

 

الكلمات التي فارقتني، كلّ الكلمات

المخيلة دمية ناقصة الطفل؛

الدمية لا تعرف "الحب"

ولا "الحكمة" من هذا الوقت المتسلسل:

الدمية هي الدمية في كل وقت

الدمية ليس لديها موقف من تعاقب الضوء واللا ضوء

الصوت واللا صوت،

النوم واللا نوم،

الدمية تجلس فحسب

ولا تبتئس

ولا تبتهج

ولا تعلّق على الأحوال.

لكن الدمية لا يمكنها الجلوس حقاً

ولا الوقوف

الدمية ليست ساكنة ولا صماء

ليست متحركة ولا ناطقة؛

الدمية هي الدمية فحسب

ناقصة الطفل.

لذا أقف وحيداً بلا كلمات

في قلبي سكين ناصعة

دفنت فيها

جميع أعدائي.

 

في القطار

تلك الوجوه المتفرّقة على المقاعد،

بما في ذلك الشابة السمراء

التي غطّت ثديها الأيمن بفم رضيع،

والسيدة الآسيوية التي ألقت رأسها

على زجاج النافذة وأغمضت عينيها (لا نعرف إن كانت نائمة حقاً)،

والسيدة الثمانينية بجوارها التي تحلّ الكلمات المتقاطعة،

والرجل الستينيّ الذي صفّف شعره بالزيت ربما لينسجم أكثر مع التماع سترته الجلدية،

كلّ تلك الوجوه،

نائمة ومستيقظة،

تترقّب شيئاً ما،

شيئاً مرعباً وحتمياً سيحدث (لكنها لا تعرف متى)

يُستثنى من المشهد كلب بنيّ ضخم،

ألقى رأسه على أرضية القطار،

كطابة ضجر منها فجأة،

وأغمض عينيه

على مطر

في حقول بعيدة.

 

هواء

الأرجوحة لم تعد هنا،

لكنّ يد أبي

ما زالت

في الهواء

الذي هبّ بنا

ذات سماء.

Thumbnail

أشياء كامنة

ما الذي في رجل؟

رجل آخر، ربما، زنابق،

أو أقبية يستوطنها الصمت؟

ما الذي في امرأة؟

صفحة بيضاء، أصابع تغني،

صباحات تتمهّل،

أشياء مُتذكّرة؟

مثلما هي الذكريات عادة:

أشياء بجانب أشياء

تحت أو فوق

أو داخل أشياء؛

أشياء في أشياء

مثل يد فاتت

وبقيت لمستها.

ما الذي في شجرة؟

سكون لا يُرى

شقاء كائنات صغيرة

لا تُرى أيضاً

وقد يظنّ أحدهم

في الشجرة موج،

في الشجرة بحر،

في الشجرة نوافذ،

في الشجرة وقع أقدام

تعبر دون أصحابها،

في الشجرة غروب يتواصل

بعد الغروب.

ما الذي في صمت؟

رجل يعبر العتمة

مثلما يعانق امرأة

ثم يذوب في بياض خفيّ،

رجل يصغي إلى ما يقوله رجل آخر

في أنفاسه،

رجل يلمّ حياته كلها

في صرّة من ضباب،

يسمع صوتاً في غابة بعيدة،

يمشي ويصل

أو لا يصل

إلى جسده القابع

في طرف السرير.

 

تمرين على الاحتفاء بسنة جديدة

هذا الطنين في أذني

سيقودني في النهاية إلى مكان ما

ربما إلى بيت أمي

الذي أصبح ذكرى

كطبق البطاطا المقلية الذي تركناه على الطاولة

بعد أن أتخمتنا الموسيقى

ودعوات "الصحة والسعادة والنجاح"

التي ما انفكّت تنهال علينا عبر القارات،

لكننا الآن في المطبخ

نلتهم أصابع البطاطا الباردة

ونفكر بحياتنا السعيدة

على هذا الكوكب الجديد.

 

وقت الوصول

سيارة الأجرة وصلت قبلنا،

والبناية،

وزبائن الزحمة الدائمة،

لكننا لا نشعر بالقلق

لأن الحياة دورة في طريقها إلى الاكتمال

كهذا القمر الفلورسنتي أعلى جدار

في متاهة "إيكيا"

حيث نمشي منذ نصف ساعة

بحثاً عن كنبة.

 

بعد غياب

هادئ كل شيء

أو يوحي بذلك.

الجدران تغادر

وتتوارى خلف الظلال.

الستائر تعاويذ مخاتلة

الضحكات مناديل ضوئية

تتجعّد على الشفاه.

الأطفال يرتفعون

أعلى من نظراتنا.

التلفزيون ضوء باهر.

الصمت بئر سوداء.

نقف مترقّبين

صعود شيء ما

من هذا القاع.

 

جوع

أريد أن أبتلع هذا الليل،

أن أقضم السماء كرغيف

وأزعم لنفسي أسنانا كلبية

أغرزها عميقا في عظام السحب،

أن أجمع نظرات الغرباء

ونوافذهم وآهاتهم

وتلك الأصوات المخنوقة

أصوات من غابوا،

وأحولها لشيء واضح

وقابل للالتهام.

 

نحت الأيام

هنا، على هذه الطاولة، أمام هذا الضوء الناقص،

قبل الكلمات وبعدها،

يحدث شيء، كالعادة،

أقلّ من أن يُروى

بأيّ لغة صرفاً

كالحبّ

كالألم.

الكلمات، هزيلة، تمضي إلى مصائرها،

هنا، في هذا الهولوكوست الليليّ حيث كلّ شيء عرضة للغبار، أشياء كثيرة تنهض؛

صور، في ذروتها، في ذروة حضيضها، كرة في تحليقها الدائم بين هواءين، تسقط من يديك، وتسقط من عينيك، ثم تختفي.

لا بأس بأن تسميها الذكرى

وتنشغل بنسيانها.

لأنّ كلّ شيء وارد

مثلما يذوب حجر في بئر،

مليارات النظرات الضائعة،

دوماً،

بين مسافتين؛

أحياناً

نظرة

تسقط

من السقف

كأنها شعلة ترتعش

نكوّر أيدينا على نظرة

كي لا تنطفئ.

هذا نحت الأيام.

نتنقّل بين الغرف، بين ضوء في المطبخ، وضوء في غرفة النوم، حيث أشياء نحسبها عادية: حذاء عند السرير، سرير في لحظة تأمّل، نافذة ساهمة، فرشاة أسنان في كوب زجاجي، قميص ليلة ماضية ملقى على الكنبة.. أشياء تنزاح من أماكنها بقوة لمسات لا مرئية، هجرات جماعية تحدث طوال الوقت داخل هذه الجدران الغفل.

ومن يستطيع القول إذن

لا سماء تنمو الآن داخل هذا الدرج،

لا غيوم تزحف

على هذا الجدار،

لا شعوب تولد، وتنقرض،

في ظلّ المشجب الواقف، كتمثال؟

عالم يتكرّر بلا نهاية، وليس مهماً، بعد الآن قياس المسافة بين حياتين، لأنك مهما فعلت لن تستعيد رعشة الطفل في أول يوم مدرسي، ولن تفهم لمسة يد الأم على شعره. لا معجزة تستطيع محو تلك الأمسية أو إعادتها إلى الحياة؛ حياة بأكملها تحتشد في حساء، في لثغة، في لحظة عابرة، في هواء.

كأننا منذ البداية كنا نعرف أن الكلمات مجرد قطار بطيء يقود إلى صمت؛ أمي الآن، في الثلاثين، وأنا في الخمسين، نجلس ونتبادل النظرات، عبر طاولة المطبخ؛

بيننا ستارة قديمة

تتقمّص موجة

بيننا غرفة

تتسلق الصيف

بيننا وردة

تتعلم الأسى.

لم أكن أعرف أنني سأكفّ تماماً عن البكاء.

لم أكن أعرف أيضاً أنني سأقف في كل وقت، أمام كوب مهجور في المغسلة،

أمام لوح زبدة في الثلاجة،

أبكي،

وأبكي

وأبكي

أفتح عينيّ فأرى كل شيء ولا أرى. أمشي طويلاً في صحراء المساء، على آثار أقدام تمحو نفسها، فأصل ولا أصل، وأظلّ أنتظر ولو همسة تعيدني إلى تلك الوجوه التي ضاعت في عتمة المرايا

أبواب تفضي إلى أبواب

ونوافذ إلى نوافذ

ويكفي

أن تشيح بيدك

في الهواء الصرف

لينبت وجه

يلوح ثابتاً كحجر،

ثم يختفي.

 

شقوق

ذلك الشق الذي ظهر أعلى الطاولة

خط رفيع تراه، مثل كلّ شيء،

فقط إن أطلتَ النظر

وفي الجدار الذي طليته للتو

جرح بالكاد يُرى

شقّ عنيد آخر

يأبى أن يختفي

من أين تأتي الشقوق؟

صرخة بلا صوت

رصاصة تنطلق من القلب

وإليه،

زلزال صغير في المعدة،

أظافر تحفر تحت الجلد

علّه يخرج شيء؛

نقطة دم بالكاد تُرى

لديها، هي الأخرى، قصة ترويها

لا أعرف الشجرة باسمها

أعرفها بالمكتوم من صوتها

إذ يستحيل ارتعاشة صغيرة

تجعل العصافير

تفزع منها

في ومضة مدوية

لا أسميها الندوب

لكنني أحاول أن أتخيّل

الخط الذي تركه مشرط

في جسدكِ

تلك البقعة الكستنائية

مطرح الثدي،

و"ليس من ألم" تقولين

لكنه شيء يشدّ

من الداخل

شيء يعرف أنه لم يعد هنا

مثل كلّ الأشياء

التي تعرف

أنها لم تعد هنا

والشقّ، أحياناً، يمتدّ طويلاً وبعيداً

إلى شوارع قديمة

تولد من أشواقنا فحسب

إلى مطر نسيناه، ذات طفولة،

على سطح بيت

أضعنا الطريق إليه

لكنّ الشجرة تعرف الطريق

دون أن تعرف السبب

مثلما تصبح قطرة مطر،

في رحلة السقوط،

قطرتين

دون أن تعرف السبب أيضاً

مثلما، الآن،

في قلبي

هذه الدمعة

التي تحفر

شقاً آخر

يأبى أن يختفي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.