تنازع الهويّات
القتل من أجل الهوية في غالبه ينشأ من فكرة “إن لم تكن معي فأنت ضدي” وهذا حصيلة الأوضاع المرسخة لثقافة الاستبداد من ظلم اجتماعي وقمع سياسي وكبت فكرى، يصاحب ذلك شعور دائم بالغضب والثورة الداخلية التي تظل قابلة للانفجار في أيّ وقت ومهيأة للقتل وتحويل المجتمع إلى غابة.
إن الوعي التام لمجموعة من البشر الغاضبين بتوحدهم في الأسباب الدافعة لهذا الغضب يؤصل لانتمائهم لجماعة معينة ويوقعهم تحت تأثير المبررات التي تولّد العنف ضد من يضطهدهم، والصراع حول الهوية آفة عرفتها البشرية طيلة تاريخها المديد، بدءا من التناحرات العشائرية والقبلية وحتى صراع الدول والإمبراطوريات والحضارات.
واستنادا لما فسرناه من تداعيات نظام الدولة السلطوية ونتائجه لم يكن هناك بدّ من اندفاع الشباب وراء العنف، لكن هذا العنف كان جراء فساد المنظومة الاجتماعية. “أما العنف السياسي في مصر فيعزى بالأساس إلى صراع الهويات الذي كان مكبوتا أيام حكم مبارك بفعل القوة الأمنية، ثم انفجر بعد رحيله بطريقة غير مسبوقة، فوجدنا مخاوف الأقباط من تقدم ‘الإخوان’ والسلفيين في الحياة السياسية، وهتف بعض المسيحيين في المظاهرات التي نظموها احتجاجا على هدم وحرق الكنائس. ذلك على مستوى اختلاف الأديان، أما على مستوى الدين الواحد فوجدنا السلفيين وأتباع ‘الجماعة الإسلامية’ والجهاديين قد قلبوا هتاف الثورة ‘الشعب يريد إسقاط النظام’ عقب رحيل مبارك مباشرة إلى ‘الشعب يريد تطبيق شرع الله’. وانقسمت مصر إلى ‘مدنيين’ يصفهم ‘الإخوان’ والسلفيون بأنهم ‘علمانيون’، وإلى ‘إسلاميين’ حسبما يصفون هم أنفسهم، ووسط هذا الضجيج، عادت أصوات تتحدث عن الخوف من اختطاف الهوية المصرية التي ألفوها وتعايشوا معها، وكانوا يعنون بها طبائع المصريين وثقافتهم العميقة وطريقتهم الوسطية أو المعتدلة في فهم الدين وتطبيقه، وزادت هذه المخاوف مع اتجاه ‘الإخوان’ إلى التحالف مع التكفيريين والسلفيين الجهاديين، بعد عقود بدوا فيها كأنهم قد تماهوا مع مقتضيات الهوية المصرية أو تكيفوا مع طبائع وقيم وموروث المصريين، وهي مسألة كانت تعطيهم ميزة على تيارات العنف والجمود التي اتخذت من الإسلام أيديولوجية لها أو زعمت أنها تحمل لواءه في الدعوة. وفور سقوط حكمهم اشتد الصراع على السلطة ضراوة وهو يلبس لبوس الهوية، فأتباع بعض الطوائف الدينية كانوا طيلة الوقت يصدّرون خطاب الهوية، رغم أنهم يعلمون بينهم وبين أنفسهم أن مقصدهم هو الاحتفاظ بالسلطة والاستعداد للقتال من أجل هذا تحت راية ‘شرعية’ فقدوها قبل الثورة بكثير لأسباب عدة. فخطاب الهوية هنا كان الهدف منه تجميع القوى ‘الدينية’ للوقوف إلى جانبهم في معركتهم السياسية البحتة. وظل الكل، في سذاجة مفرطة، في التناحر من أجل تحديد هوية مصر”، كما رأى عمار علي حسن في “صراع الهويات في مصر”.
ترويض الهويات
كان دور الهويات القاتلة في مصر؛ وعلى مستوى العناصر الأكثر تحديدا للهوية “العرق، الدين، الجنس″ متقلصا بدرجة كبيرة، فحين تحدثنا عن العرق لم يكن هناك ثمة قتل من أجل ذلك. أما الصراع الديني، وأقصد هنا “المسلمين والمسيحيين” فالأمر يشوبه على فترات متفاوتة بعض الفتن التي قد يلعب فيها عامل الشحن النفسي من قبل جهات مستفيدة دورا فاعلا، إلا أنه في سنوات الثورة قد زادت حدة هذا التوتر والعنف لنفس السبب السابق. بينما على مستوى الطوائف الإسلامية فقد كانت ترتدي عمامة الهوية وتخفي تحتها رأسا يدبر ويخطط للقتل من اجل تحقيق مصالحها والسعي الدؤوب وراء السلطة. أما الصراع الجنسي فيتمثل في حزمة من المطالب وبعض الحقوق المسلوبة للمرأة المصرية رغبة منها في الحصول على حياة كريمة، وعلى الجانب الآخر فئة منهن تطالب باللحاق بالرجل والوقوف بجواره على خط مستقيم. وبشيء من الشفافية نقول إن في هذا الصراع أيضا خسائر بشرية. ولكن السبب هنا ليس الإيمان بقضية حقوق المرأة الجنسية بشكل مباشر ولكن بشكل ضمني (كان مثلا لا يحترمها ولا يرعاها ويشعرها بالدونية والحقارة أو يستخدم العنف معها) وهو في أول الأمر وآخره عدم اعتراف منه بحقوقها. ولكن تلك الحوادث لم تكن خالصة من أجل الهوية الجنسية. كلا، ولم تكن لحاجة من أحد الجنسين في تصفية الجنس الآخر وإزاحته من طريقة. بل هي ثمرة خلافات اجتماعية. وإذا افترضنا جدلا أن جانبا من الذين ارتكبوا جرائم كان فعلهم بدافع الحفاظ على هويتهم فالسؤال هنا “كيف يمكن ترويض تلك الهويات؟”.
يقول الكاتب أمين معلوف في “الهويات القاتلة”، “إذا كنا نسعى إلى تقليص التفاوتات والمظالم والتوترات العرقية أو الدينية أو الجنسية أو غيرها، فالهدف المنطقي الوحيد والمشرّف هو أن نعمل لكي يعامل كل مواطن بوصفه مواطنا كامل الحقوق مهما كانت انتماءاته، بالطبع لا يمكن بلوغ هذا الهدف بين عشية وضحاها، ولكنه ليس سببا لنقود القافلة في الاتجاه المعاكس، لا بد من إصلاح المناخ الاجتماعي والفكري والتفكير الرصين والشامل في ترويض وحش الهوية، أريد أن يتمكّن كلّ منا لإدراك هويته بوصفها حصيلة انتماءاته المختلفة بدلا من حصرها في انتماء واحد يستخدم كأداة استعباد وقهر بل وحرب أيضا”.
إن الأداة الأشد فتكا على الأمم هي دولة الحزب الواحد، ولا بد إذن من التعددية، وإذا كان القضاء على الطائفية والتمكن من توحيد الفرقاء أمرا مستحيلا، فلا بد من إيجاد قاسم مشترك بين كل الألوان والأشكال. لن تتمكن شمس الهوية من البزوغ في ظل حكم الأقلية ولا الأكثرية المستبدة.
وهنا نقول إن على الدولة بكل مؤسساتها ووزاراتها المختلفة ولا سيما التعليم والثقافة والإعلام؛ وضع خريطة شاملة من أجل ترسيخ مبادئ المواطنة السليمة والحفاظ على الهوية وتدعيم عناصرها، والتدشين للقاءات وحوارات وبرامج من شأنها تقريب وجهات النظر بين الهويات المتصارعة والمختلفة والدخول تحت مظلة واسعة تتسع لتقبل جميع الانتماءات التي تصب في النهاية في نهر هوية واحدة بحجم السماء. لا بد من قبول الآخر المختلف والحوار معه وخلق نوع من التواصل الثقافي بينهما. فالتواصل الثقافي عملية حضارية متكاملة تفتح العقول والنفوس على آفاق جديدة وإمكانات حديثة. وهي حضارية لكونها وسيلة استيعاب منجزات الآخرين والتعرف على ثرواتهم المعرفية وإمكاناتهم الثقافية، وبدونها تتحول الاختلافات الثقافية إلى بؤر للتوتر والصراع المدمر والمميت.
“ولا بد أن ندرك في هذا الصدد أن التواصل الثقافي لا يستهدف الوصول إلى حالة من المطابقة بين الثقافات، وإنما يستهدف بالدرجة الأولى الحوار والاستيعاب وإبراز المضامين الإنسانية والحضارية للثقافات. التواصل والتبادل الثقافي ليسا عملية استيراد ثقافة وافدة. ونحن نتفق على أن نستفيد من حضارة الغرب وننهل منها لكن بما يتناسب مع أصالتنا وقيمنا وأن يتم النهل أو الاقتباس بشكل إداري واع وعن طريق الانتقاء لما يلائمنا فنأخذ ما نراه أوفق لنا وندع غيره، ونضع ما نقتبسه في مكانه الصحيح من حياتنا، وذلك من منطلق أن الحضارة الإنسانية الحالية ليست ملكا لشعب بعينة بل إنها إرث الإنسانية جمعاء وقد ساهمنا فيها وساهم غيرنا فيها لكننا نفرّق بين حضارة عطاء إنساني وحضارة استبعاد واستغلال واستلاب واغتصاب للعقول وتمزيق لهوية الآخرين الثقافية والاجتماعية”.
يجب علينا أن ننظر إلى الآخرين دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العرق أو اللغة أو الاتجاه السياسي أو أيّ سبب آخر، طالما أن الاختلاف لا يكون على حساب حياة الآخر. إن فكرة القبول تعتمد أساسا على مدى استعدادنا لتغليب المصلحة العامة على اختلافاتنا.
شجرة لا تموت
نعم، عدد ليس بالقليل من محاولات الاغتيال تعرضت لها الهوية، من تغريب للغة أو العادات والتقاليد أو تشويه العقيدة، وأزمات ثقة وإحساس بالغربة وزعزعة الثوابت والأفكار.. وغيرها، إلا أن ريح التغيير التي سُخرت لإحداث ما سبق ربما تكون أسقطت بعض الأوراق الذابلة، وحركت الفروع الرقيقة يمنة ويسرة، ودفعت الأغصان في اتجاه حركتها قليلا، لكن ما تلبث الأوراق الذابلة أن تنبت مكانها أوراقا مخضرة، وما تلبث الفروع الرقيقة أن تثبت مكانها. والأغصان تعود سامقة. وبالرغم من كل ما حدث لا تزال الشجرة واقفة مكانها، شامخة، راسخة الجذور، واضحة المعالم، فالهوية المصرية شجرة لا تموت. بدليل أن هناك عادات وتقاليد فرعونية لا زالت تمارس حتى الآن. لغتنا هي العربية، ديننا الإسلام والبعض يدين بالمسيحية، لا حروب عرقية أو جنسية، نعم تحدث الانتكاسات لكن سرعان ما ينجلي الجوهر الأصيل للإنسان المصري.
ويقول الصحفي محمود مبروك “يشهد العالم كله على حضور الهوية المصرية باستقلاليتها، خاصة خلال مراحل التنقل من عصر إلى عصر، وهى جزء من هوية العالم العربي والإسلامي، وقد كانت الهويات تتأثر كلها بالمصرية وتقف هي شامخة، دون خوف من أيّ مدّ من الخارج، ونتذكر مفاصل تاريخية فارقة على هذه الحوارات خلال القرنين الأخيرين على الأقل الحملة الفرنسية وثورة 19 وثورة 25 يناير و30 يونيو ظلت الهوية حاضرة على نحو ايجابي، حيث ظلت الثورة موقفا حضاريا على مستوى العالم، ونموذج الحضارة يؤكد أن هوية مصر ثابتة وهي ليست هوية حكومة أو حاكم، وأنها نتاج حركة حضارية دؤوبة من قبل المصريين عبر العصور. لذا يعتبرها محمد شفيق غربال حصيلة تفاعل بين الاستمرارية والتغيير. فمصر مرّت عليها أشكال وألوان من الثقافات والأديان والأجناس من المنتمين للحضارات المختلفة بعضها استقر بها وبعضها الآخر عبر أرضها.. الخ. وكانت مصر في كل الأحوال تستوعب وتهضم وتتمثل وتعيد الإنتاج سواء علي المستوي المادي أو المعنوي من فنون وعمارة وفقه ولاهوت وأدب شعبي.. الخ”.
الغزو الفكري وحسب مجمد جلال كشك في “الغزو الفكري” فإن “الأمم الباقية.. هي التي تجعل وجودها فوق كل التفصيلات، والحضارة المزدهرة هي التي توفق إلى فلسفة أو دين أو نظام يحمى وجودها”.