تَبَصُّراتٌ جَمَاليَّةٌ فِي عِيَارِ الشِّعْر

أَسْئِلَةُ "الْجَدِيدِ" ومُكَوِّنَاتُ المَنْظُومَةِ المِعْيَارِيَّةِ.. مُقَارَبَة تَمْهِيْدِيَّة
الأربعاء 2020/07/01
لوحة حسين جمعان

قبل نحو مائة عام وألف، وفي غضون مطالع القرن الرّابع الهجريّ (العاشر الميلاديّ)، كان الناقد الشّاعر ابن طباطبا العلويّ (ت 322 هجريّة – 934 ميلاديّة) قد سئل أن يصف ما سئل عنه من سمات "الشّعر"، وخصائصه، وأوصافه، وأن يُبيّن "السّبب الذي يُتوصّل به إلى نظمه"؛ فوضع كتاباً أسماه "عيار الشّعر" ليجيب به سائله الحقيقيّ، أو المُفترض، كما كل مُتسائل سيتوخّى، بتوجيه السّؤال نفسه ذات يوم قادم، الحصول على جواب عنه فيه، وذلك عبر قراءته بعيون حيّة، وعقل متبصّر، منفتحان على ثراء الحياة المنشودة، وعلى غنى الوجود المتطلّع إلى وجوده، وعلى نحو يمكنه من استيعاب قوله عبر تفسيره، وفهمه، وتأويله، وإعادة تأويله، بما يتأسّس على مكوّنات القول نفسه وطريقة قوله، وبما لا يفارق إدراك شروط زمن قوله من جهة، وبما يستجيب لحقائق زمن إعادة توجيه السّؤال من جديد، ومعطيات هذا الزّمن العامة، والشّروط التي تحكمه، والحساسيّات الأدبيّة والثّقافيّة المائرة في أعماقه، وفِي رحابه، ونفوس أهله.

ويبدو لي، كما لأيّ متابع معنيّ بالشّعر والنّقد من أيّ وجهة جاءت عنايته بهما معاً، أو بأيّ منهما منفرداً عن آخَرِهِ الذي لم يُفارقه، والذي ليس له أن يُفارقه، أبداً، يبدو لي أنّ هذا التساؤل المكرور المُعاد، والذي أوغلت إجاباته المتكاثرة، سواء في الثّقافة العربيّة أو في غيرها من الثّقافات المكتنزة في أيّ لغة مثقّفة من اللّغات، في الإشكاليّة والالتباس والتداخل المُلغز، بل وفي التناقض والغموض والقصور أحياناً، قد تابع الحضور على مدى الأحقاب والمراحل والعصور والأزمنة، وهو لم يزل مفتوحاً على تجديد نفسه بحثاً عن جواب جديد، مؤصّل من كل منظور ووجهة، ويستجيب لمنطق الصّيرورة والتحوّل، ولحساسيّة الزّمن الذي وجه فيه، ولا يُفارق حقيقة الشّعر، وصلب ماهيّته، ولبّ جوهره، وتنوّع تجلياته المفتوح على تنوّع لا يُحْصَى ولا يُحَدُّ.

عيار الشّعر، وأسئلة "الجديد"

بعد مرور كل هذا الزّمن الرّأسيّ الوجوديّ المائر بالتَّنامي الحضاريّ الإنسانيّ في مساحات وأحياز شتَّى من مساحات العالم وأحيازه، ومع استمرار ثبات الزّمن الأفقيّ العربيّ الغافي على أسرّة التكلّس والعجز والعتمة ومراوغة العدم، وفي ضوء إدراكها ما يعتري الحياة الشّعريّة العربيّة الرّاهنة من "فوضى معياريّة"، وربّما في سياق يُغاير، قليلاً أو كثيراً، ما أدمن عليه العرب من استعادة الأسئلة لاجترار الإجابات، وجدت مجلّة عربيّة ثقافيّة مرموقة، تصدر في لندن، هي مجلّة "الجديد"، أنّ ثمة حاجة ماسّة لإعادة طرح السّؤال نفسه، ولكن في صياغة محدّثة تتأسّس على إدراك عميق لتاريخ الشّعر العربي وتحوّلاته مُذْ نشأته المعروفة الأُولى، أو ربّما مُذْ ما قبلها ممَّا يمكن السّعي، عبر الحفر الآثاريّ والتاريخيّ والنّصّيّ المعرفيّ، لمعرفته وإدراك امتداداته وأبعاده، ومروراً بعصور نهوض الشّعر وتطوّره، وبأزمنة سكونه وجموده وانحطاطه وتكلّسه، على مدى ألفيّة كاملة ونحو قرن من أزمنة أعقبت النّكبة العربيّة الحضاريّة الأولى، وتوالت عصورها وأحقابها مُوَاكِبةً أزمنة الغزو والاستعمار والسّقوط الحضاريّ العربيّ الشّامل والرّاسخ، والمُوغل في الأزمنة متمدّداً في الأمكنة، ومخترقاً، بكل قسوة وأسف، نفوس الأعمّ الأغلب من النّاس الذين جَعَلُوا أنْفُسَهُم، أَو جُعِلُوا، محض كائنات بشريّة بلا رؤوس!

وفي اتّساق مع هذا التَّأسيس الإدراكيّ، تُريد "الجديد"، أنْ تستكشف، من جديد، لتستوعب، على نحو أعمق وأفضل، ما مرّ بالشّعر العربيّ ونقده على مدى آخر قرن وبضع عقود من الزّمن الحديث، والمعاصر، والرّاهن، من حالات وأحوال، ومن مساعي إنهاض وإحياء وتطوير وتحوّلات تبدّت في مدارس أدبيّة، وتيّارات شعريّة، وجماعات إبداعيّة مُتغايرة الاتّجاهات والرّؤى الفكريّة والجمالية. وفي هذا الضَّوء، تُريد "الجديد" أنْ تدرك، بعمق، ما اكتسبه، أو طوّره، أو بلوره، الشّعر العربيّ، مع هذه المدارس والتيارات والجماعات والاتّجاهات، من سمات، وميزات، وأساليب نسج وتكوين وبناء، وصيغ تشكيل شعريّ جماليّ، وأشكال تجليات نَصّيّة، لا تني تتعدّد وتتنوّع، وتقترح، من داخلها، ما يُحَفِّزُ عموم الشّعراء والنّقّاد، وضمنهم عديد من مبتكريها والمسهمين في تحقيقها، على تطويرها بالبناء عليها وتجاوزها، وعلى إعادة وضع السّؤال حول ماهيّة الشّعر، ومكانته، ووظائفه، وكيفيّات إبداعه، والمعايير التي تكفل تمييز ثمينه عن غثّه، في بؤرة التبصّر، وفي مركز التَّفكير الإبداعيّ النّقديّ، والفلسفيّ الجماليّ، من جديد!

مفارقة، ومعضلات، وسؤال مركّب

تحيل مجلّة "الجديد" وَسْمَهَا حالة الحياة الشّعريّة العربيّة بما اعتبرته "فوضى معياريّة"، إلى مُفارقة أسرفت في الوجود فرسخت، وأفضت، ضمن ما قد أفضت إليه من مُعضلات تُنْتِجُ إشكاليات ومشكلات، إلى مُعضلة "ضياع المسافة الموضوعيّة بين ما يمكن اعتباره أصلاً شعريّاً صادراً عن تجربة محدّدة"، وما هو بمثابة "نسخة صادرة عن تثاقف" أو عن "استلهام"، أو عن "استهلاك" سهل لهذا الأصل.

أما المُفارقة المشار إليها، هنا، فإنَّمَا تتمثّل في توصيف واقعيّ يقول إنّ أساليب الكتابة الشّعريّة العربيّة وتجلياتها النّصّيّة قد تعدّدت في نتاج عدد من الشّعراء فيما لم يستطع "النّقد الشّعريّ العربيّ" قراءة هذا النّتاج وتقديم مراجعات نقديّة كاشفة تتوّج بخلاصات معياريّة تأسيسيّة تضيء "ذائقة القراءة"، وهو، كما قد يلاحظ القارئ الفطن، توصيف يحمّل النّقد والنّقاد عبء تقاعس وتقصير فيما يُشير إلى فُقْدَانِ "المعياريّة النّقديّة المؤصّلة"، مُرْجِعَاً هذا الفُقْدَانِ، وإن على نحو مُضْمَر، إلى ما يُعْطَى من قبل النّقاد الأكاديميين العرب، والمؤسّسات الأكاديميّة العربيّة، من أولويّة لإعمال مناهج نقد الشّعر المستوردة من الغرب (الأوروبيّ والأمريكيّ على الأغلب) على التَّجليات النّصّيّة للشّعر العربيّ التي يجري إخضاعها، تعسّفاً، لمشيئة تلك المناهج، والتَّعامل مع هذه التَّجليات باعتبارها "وثائق" تستخرج منها "شواهد" تُؤكد صوابيّة هذا المنهج أو ذاك، لتزعم له مصداقيّة وفاعليّة وجداراة ليست له، ولا يمكنه التوافر على أيّ منها، لكونه منهجاً مستنبطاً، في الأصل، من تجليات نصّية لشعر ليس عربيّاً!

وتأسيساً على هذا التَّوصيف الإدراكيّ، تُبَلْورُ "الجديد" سؤالاً مركبّاً ومتشعّباً، توجهه "لنّقاد الشّعر العرب"، ليكون، بمثابة محورين رأسيّين متقابلين هما الشّعر العربيّ والنّقد العربيّ، مثبّتين بترسين متعاشقين يتحرّكان، معاً، على محور رئيس هو محور "المعياريّة" الذي تتحرّك على وقع حركتهما عليه، وبالسّرعة نفسها، دوائر أفقيّة متداخلة تضمّهما معاً، وتمور بالأسئلة النّاجمة عن مسبّبات المُفَارقة الواقعيّة التي فصلتهما عن بعضهما بعضاً، وحالت دون تواكبهما الضَّروريّ النّاجم، بدوره، عن أوّليّة، وأسبقيّة إبداع الشّعر على التَّنظير له عُقِبَ تَحْلِيلهِ ونقده نقداً تطبيقيّاً تتأسّس عليه مدركات جمالية، وتنظيرات، ونظريّات قابلة للبلورة والتَّطوير، وتنبثق عنه مناهح قراءة وسبر وتحليل نقديّ قابلة للإعمال والتَّكييف الخلّاقِ، ودائماً بحسب مكوّنات النّصوص المنقودة ومقتضياتها الإبداعيّة الجماليّة، وذلك على نحو يغطّي جميع لوازم الشّعر، ومكوّناته، وأدواته، وأساليبه، ومقتضيات إبداعه، ويستخلص العلاقات التَّفاعلية القائمة فيما بين هاته اللوازم والمكونات والأدوات والأساليب والمقتضيات، وفيما بين أطرافه جميعاً ولا سيّما منها ثالوث: الشّاعر/الشّاعرة (المبدع، المبدعة، الذّات الشّاعرة، الأنا الكاتبة، المؤلف الضِّمنيّ، الصَّوت الموثوق، القناع)؛ والنّصّ الشّعريّ (القصيدة، النّصّ، الكتاب، وغيرها من التَّجليات النّصّية الشّكلية القابلة للتّضنويع والتَّعدّد)، والمُتلقّي (الفرد، الجماعة، المجتمع، الذّات القارئة، أو أيّ متلق موجه إليه القول الشّعريّ سواء أكان مذكوراً، بوضوح، في النّصّ، أو مُضْمَراً بخفاء فيه، أو يُمْكن استنباطه من أيّ من سياقاته، أو متروكاً للتأويل المفتوح).

تسأل "الجديد" نقاد الشّعر العرب عمَّ إذا كانوا لا يزالون يعتقدون بفكرة "المعيار" التي بلورها أسلافهم من قدماء النّقاد ومحدثيهم في منظومات معياريّة استخلصت مما بين أيديهم من تجليات الشّعر العربي القديم، ووفق انشغالاتهم ومَجَالِي تخصّصهم المعرفيّ، وجعلت أساساً لتلقّي هذا الشّعر واستساغته، وفهمه، وتذوّقه، وتقييمه، وفرز غثّه من ثمينه، أم أنّهم قد انتهوا، مع نقدهم الحديث، إلى اعتبار الشّعر "ظاهرة" (ليس بالمعنى الفلسفي الذي بلورته ظواهريّة إدموند هسرل Edmund Husser، مَثَلاً) تُدْرَكُ كمثل غيرها من الظّواهر الأدبيّة والاجتماعيّة وغيرهما من الظّواهر المنبثقة عن الأنشطة الإنسانيّة إدراكاً موضوعيّا وضعيّاً مُطْلَقاً، مهما كان حجمها، ومهما بلغ عدد الظّواهر والتَّجليات التي تنطوي عليها أو تظهرها، وبعيداً عن أيّ منظومة معياريّة مُتكاملة تستجيب لطبيعة الشّعر، كنشاط إبداعيّ إنسانيّ مُمَيَّز لا يقدر على ممارسته إلّا أفراد من النّاس موهوبون به، ويتوافرون على جل ما يؤهّلهم لممارسته وتجلية وجوده في نصوص لُغَويّة مبتدعة سُمِّيَت، في البدء، "قصائد" ثم تعدّدت أسماؤها، أَو هَكذا ينْبِغي لَهَا، بتعدّد أشكال تجليها؟!

سؤال محوريّ، وتفرّعات مُضْمَرة

تفتح"الجديد" سؤالها المحوريّ على تفرّعاته المُضْمَرة فيه، وذلك عبر الإشارة الإلماحيّة إلى بعض أساسيّ من مكوّنات المنظومة الشّعريّة النّقديّة المعياريّة المفترضة الوجود ومَنْشُوْدَتِهِ، أو التي يُفَضَّلُ لها اللّاوجود، أو الإهمال والتَّعديم، من قبل كتبة المذكرات اليوميّة والخواطر الطّارئة، أو من قبل ناقديهم الترويجيين الذين يَدْعُوْنَهُم "شُعَراءَ بَارعين" ويَدْعُوْنَهَا "شعراً عظيما"! وكذلك عبر الإشارة الإلماحيّة إلى بعض أساسيّ من المبادئ والقيم الإبداعيّة الجماليّة المرتبطة بفكرة "المعيار": بلورةً تأسيسِيَّةً له كفكرة مفهوميّة، واستنباطاً لما سينجم عن وجوده وإعماله، وإحالةً ضمنيّة لما يُوجبه وجُودُهُ من مقتضيات ولوازم ستلحق، لُزُوماً وجُوبيّاً، به، فتسأل عن القيمة المعياريّة المحتمل أخذها في الاعتبار لمكوّنات وعناصر، أو لمبادئ وقيم: كالموهبة وعيارها، وثقافة الشّاعر، ومنابعه المعرفيّة، وفلسفته الحياتيّة، ومفهومه للشّعر، ورؤيته للعالم، وقاموسه اللّغويّ"، وتجربته الحياتيّة والوجدانيّة، ومشروعه الشّعريّ، ومصادر ابتكاريّة القصيدة لديه ومُحَفِّزات هذه الابتكاريَّة ومقاصدها، والقصيدة نفسها بوصفها بنية لغويّة، والخيال الشّعريّ وطبيعته، وغير ذلك من عناصر ومكوّنات تتضافر في تشكيل "تجربة الشّاعر" التي يتشكّل "مشروعه الشّعريّ" على أساس منها، والتي تُحَدّدُ "خصوصيّة" هذا المشروع، وتُمْلِي درجة قيمته، وتُضْمِرُ فيه ما يبقيه حيّاً، أَوْ ما سَيأْخذه إلى أفول عاجل، أو آجل إلى بعض حين ليس له أن يعدوه!

تمييز نفيس الشّعر عن مبتذله

صورة

وإذ تفعل "الجديد" ذلك كله، وإذ تعود لتغلق نصّها التَّحفيزيّ هذا بإعادة التَّذكير بالمُعْضِلة الرّئيسة المُتَمَثّلةِ في "ضياع المسافة الموضوعيّة بين ما يمكن اعتباره أصلاً شعريّاً صادراً عن تجربة محدّدة"، وما هو بمثابة "نسخة صادرة عن تَثَاقُف"، أو عن "استلهام"، أو عن "استهلاك" لهذا الأصل، فإنّها لا تفتح مسألة الحاجة الماسّة إلى وجود منظومة، أو منظومات، نقديّة معياريّة تَقْييمِيّة، على عمقها ووسعها، فحسب، وإنَّمَا هي تلمح إلى غاية هذه الحاجة التَّقييمِيّة المُتَمَثّلةِ في ضرورة فصل ثمين الشّعر ونفيسه عن بخسه ومبتذله، وتشير إلى اتّجاه الرّؤية الجماليّة التي تتبنّاها انسجاماً مع "مانفيستو" إنشائها كمجلّة ثقافيّة تنويريّة، وتحيل إلى مسألة ترجمة الشّعر الحديث والحداثيّ وما بعده، وما بعد ما قد جاء بعده، ولا سيّما الشّعر المكتوب بالانجليزية والفرنسيّة والألمانيّة واليونانيّة والرّوسيّة، إلى العربيّة، وما صاحب هذه التَّرجمة، وما لم يزل يصاحبها حتَّى اللّحظة، من تقليد استهلاكيّ غثّ، ومحاكاة متسرّعة مُبْتَذَلَةٍ وهَوْجَاءَ، لنماذج شعريّة ترجمت باستسهال وخِفّة، وذلك على نحو يقصرهما، أي التَّقليد والمحاكاة القائمين على استهلاك ما يُنْتِجِهُ المترجمونَ، وعَلَى مَا يُنْتِجُهُ مُسْتَهْلِكُو تَرْجِماتِهم من الأشخاص كتبة الخواطر و"المزابط"، المسكونين برغبة إحالة أنفسهم، في الواقع الموضوعيّ، شعراءً وشاعراتٍ، على النُّصُوص الثّواني، أو حتَّى على النّصوص الثّوالث وما بعدها، مما يجعل النّسخ النّاشئة عن مثل هذا التقليد، أًو هذه المحاكاة، ضرباً من نُسَخٍ مُشَوَّهة تُحاكي نُسَخَاً مُشَوَّهةً لاصل غائب شوَّهَهُ تقليدُ النّصّ المترجم، أو النّصّ المُحَاكي للنّصّ المترجم، بعد أن شوّهته التَّرجمة نفسها، أو مسخته، أو استبدلته بشيء ليس منه، وزعمت له نسبةً إليه، بحيث تَصْعُبُ، إنْ لم تستحل، مُقارنة هاته النُّسخ بالأصول المستنسخة: تثاقفاً رخواً، أو استلهاماً شكلياً، أو استهلاكاً رخيصاً، وبحيث يُهَيْمِنُ مُبْتَذَلُ الشّعر العربيّ وغثّه وبخسه، أو لنقل "الشّعر المُعَرَّب عن شعر مترجم لم يُحْسَنْ، في الأصل، تعريبه"، على نفيسه، وثمينه، وأجوده!

ولهذا الأمر، مُتَعَالِقَاً مع تمظهرات أخرى للابتذال، والغثاثة، والبخاسة، وفقدان القيمة، وغيرها من مُسْتَتْبَعَاتِ "الانفلات المعياريّ"، وعقابيل ترافق العجز عن التهيّؤ الجادّ لإبداع الشّعر بامتلاك لوازم إبداعه، مع الإصرار العنيد على الانتساب، زوراً واستسهالاً، إليه، من قبل كثرة متكاثرة من طالبي الشّهرة الاجتماعيّة، وناشدي علوّ الشّأن، عبر تمييز النّفس برهافة وجدانيّة مدّعاة، وبادّعاء امتلاك ملكات وقدرات نادرة الوجود، أنْ يضعنا، من جديد وبإلحاح، أمام السّؤال الخالد، والمفتوح على مُتَغَاير الإجابات، بل وعلى مُتَنَاقِضِهَا النّاجم، أحياناً، عن تعريف اختزالي مقرون بأخد وترك، وإثبات ونفيّ: ما الشّعر، فيما هو يُحَفِّزُنَا على الاستجابة، بامتنان ومسؤولية وجدّيّة واجبة، لدعوة مجلّة "الجديد" المتعلقة بالإسهام التَّبَصُّريّ النّشط في بلورة إجابات ممكنة عن أسئلتها التَّحفيزيّة المُتعلقة بخصائص الشّعريّة الحقّة، ومكوّناتها، وسماتها المجلية جوهرها، وهي، فيما أحسب، الخصائص والمكوّنات والسّمات التي ينبثق عنها، في تواشج مع معطيات الصّيرورة الدّائمة، وحساسيات الأزمنة والعصور، وثقافات الشّعوب واللّغات، والمدى الذي بلغه الكائن البشريّ في إدراك إنسانيّته، وإثراء حياته وحضارته، وتوسيع مدارات حرّيّته، وإغناء وجوده: "عِيَارُ الشّعر".

قراءات متواترة متغايرة المنظورات

سعت قراءاتي المتواترة للرّسالة التي تلقّيتها من الشّاعر نوري الجرّاح، رئيس تحرير مجلّة "الجديد"، والمُضَمَّنَةُ خلاصاتها، كقراءات متعدّدة المداخل والمنظورات، في فقرات أدرجت أعلاه، إلى تبيّن حدود الموضوع الذي دعاني صاحب الرّسالة إلى التَّبَصُّر فيه بغية الإسهام، مع غيري من الكتاب والنّقاد الذين أحسب أنّهم قد تلقّوا الرّسالة نفسها، في معالجته والكتابة عنه من أيّ زاوية، أو منظور، أشاء، أو من أيّ وجهة، أو منهج، أراني أقدر على تناول الموضوع المطروح وفق محدّداتهما المنهجيّة والمعرفيّة، ليشكل ما سأكتبه بشأنه إسهاماً من جانبي في ملف متكامل يخطّط لنشره في المجلّة بقصد فتح حوار تفاعلي خلّاق حول المُعْضِلات الإشكاليّة التي تثيرها، أو تنطوي عليها، مسألة إخضاع، أو عدم إخضاع، تجليات الشّعر العربيّ النّصّيّة لمنظومة معياريّة تقييميّة تُسْتَمَدُّ معاييرها المتفاعلة المتشابكة من مصادر وينابيع وثيقة الصّلة بإبداع الشّعر وكتابته وصوغه: التجربة الحيويّة والوجدانيّة الحيّة؛ الخيال الخلّاق والتأمّل المفتوح؛ العقل النّاقد الوقّاد والإدراك العميق؛ الثّقافة المتنوّعة الحقول والمجالات والمعرفة الموسوعيّة المًتجدّدة وذات الصّلة، وغِيرُ ذلك من مَنابِع.

ثم قبل ذلك كله، واثناءه، وبعده، وفي ثناياه، وفي شتى أعطافه، وضمنه، وفي صلب جوهره: اللّغة؛ اللّغة باعتبارها أساساً أوّل، وإطاراً جامعاً، وكانزة كنوز، وليس باعتبارها وسيلة تواصل، أو جسراً، أو أداة توصيل فحسب، بل اللّغة في كليتها، وبجميع ممكناتها الظّاهرة المُتَدَاولة، والكامِنَة المُحْتَجَزة: بنيةً، وقاموساً، ومفرداتٍ، ونحواً، وبلاغةً، وأساليبَ قولٍ وإنشاءٍ ومزجٍ وتركيبٍ وتصويرٍ وإيقاعٍ مُوسِيقيٍّ، وبواعثَ تحفيزِ خيالٍ، ومُمْكِنَاتِ إثراءٍ، وإضافةٍ وتطويرٍ وابتكارٍ وتجديدٍ، وكلّ ما سوى ذلك مما له صلة عميقة بالشّعر، والشّاعر، والحياة، والصّيرورة، والتَّحوّل الدّائم، وتجدّد تجلِيَّات الوجود، وذلك في تواشج مُتَلازِم مع لوازم ومقتضيات إنتاج التَّجليَّات الشّعريّة النّصّيّة، ومع كيفيّات إنتاجها القابلة للمُواءَمة والتَّكييف، والتَّوليد، والتَّنويع، والابتكار والخلق.

وسيكون لكل ما تضمنته الفقرتان الأخيرتان من عناصر ومكوّنات أنْ يُسْهِمَ، بفاعلية، في بلورة المعايير الأساسيّة الكفيلة بتشكيل منظومة معياريّة لنقد التَّجَلِّيَات الشّعريّة النّصّيّة، وتقييمها عبر تقديم قراءات نقديّة، جماليّة ودلاليّة، تأويلية ممكنة الآن، ومفتوحة على إقرار ضمنيّ بممكنات التأويل المُتَغَاير في سياق قراءات مستقبلية مُتَنَوّعةِ القارئين، ومنظورات القراءة، ومعطيات التَّجارب، وشُروط الأزمنة، وذلك لتمكين مُتَلَقِّيْهَا، وقُرَّائِهَا، على تعدُّد مستويات وعيهم المعرفيّ، من إحسان تذوّقها، وإجادة استيعابها، وفهمها، والتقاط أكبر قدر مما يستطيعون التقاطه من دلالاتها ومعانيها، وتعرّف المشاعر والانفعالات التي تَمُورُ في أعماق الذّات، أو الذّوات، التي تخوض تجربتها، بل وعيش هذه التَّجربة، بأدق تفاصيلها، والإمساك بمغازيها، عبر المُشَاركة الحيويّة في خوضها، والتهّيّؤ لخوض شتَّى التَّجارب القابلة للانبثاق عنها، أو للتَّوازي معها، أو التي سَتُواكِبُهَا في هذه اللَّحظَة القِرائيَّة أَو تلك، سواء أكانت هذه التَّجارب قد جرّدت، إبداعيّاً، في خلاصات تصويريّة تُوحي تراكيبها، وصيغها، والصّور الشّعريّة المحمولة عليها، بحيويّتها وحركيّة وقائعها، أو كانت قد جُسِّدت مشهديّاً، فصُوِّرت، إبداعيّاً، أثناء صيرورتها، أو كانت قد استُعِيدَت عبر ذاكرة حيّة تمور بحيويّة تدفّقها وهي تسىترجعها لترويها، ودائماً في مجرى قراءة تفاعليّة مُبْدِعةٍ تتيح للقارئ المُتَخَيَّل من قبل النّاقد، كما للقارئ المُتَخَيِّل، اليقظ، وقّاد الذّهن، وذي الثّراء الجماليّ والمعرفيّ، فرصاً مفتوحة لامتلاك النّصّ الذي يقرأ، وتؤسّس في ذائقته معايير فرز بَخِسِ الشّعر وغثّه عن نفيسه وثمينه.

وإلى ذلك، فإنّ لما بثّه مضمون العبارات الأخيرة من وهج على المسألة التي نقاربها الآن، أنْ يُضِيءَ حقيقة أنّ القراءات التأمّلية الأوّلية التي سعت إلى استنطاق نصّ الرّسالة قدر وسع قارئها مُسْتَضِيْئَاً بأنوار معرفة ذات صلة يتوافر عليها أو يستطيع سعياً إليها، لم تُسْفِرْ عن بيان حدود المسألة النّقديّة التي أثارتها لنكون بصدد تناولها بتركيز لا يشتّتها في مسائل لا تقبع في مركزها، فحسب، وإنّما أسفرت عن كشف جَانبٍ ذِي شَأنٍ وقِيْمَةٍ مِنْ مُؤَسِّسَات هذه المَسْألة، وعَنْ جذورها، وأبعادها، وترابطاتها، والمواقف المُتَبَاينة منها، وشبكة علاقات مُكَوِّنَاتِهَا، ودوافع طرحها، والمقاصد المرجوّة من الدّعوة إلى تناولها بعمق متبصّر، وأناة، وإمعان.

 نكبتان حضاريّتان، وصدمات حداثة

وإذ كان لهذه القراءات أن تحيلنا إلى استرجاع تاريخ أدبيّ شعريّ مُوْغِلٍ، نسبيّاً، في الزّمان والقِدَم، بدءاً من ذلك العصر الذي سُمِّيَ بـ"العصر الجاهليّ"، ومروراً بما أعقبه من عصور ومراحل وأحقاب وُسِمَتْ بـ"الإسلاميّة" مقرونةً بـ"الحضارة"، وسرعان ما انشطرت، مع توالي الأزمنة إلى "خلافات" وممالك، ودول، ودويلات، وانهيارات فاجعة تُوِّجَتْ بما يمكن الأخذ بالاصطلاح على تسميته بالنَّكبة، أو بـ الصّدمة الحضاريّة الأُولى" متعيّنة بلحظة تاريخيّة مريرة أسفرت عن "سقوط بغداد"، في العام (656 ه – 1258 ميلادي)، تحت سنابك خيول المغول، ثم مروراً بـما سُمِّيَ بـ"صدمة الحداثة" مجسّدة بالحملة الفرنسيّة (1798 – 1801) على مصر وفلسطين وغيرها من بلاد الشّام التي أوقفتنا، على قصر مدّتها أو ربّما بسببه، أمام مرايا تكلّسنا وتخلّفنا، لترينا صورنا المكنوزة في بؤرها المشروخة المعتمة وهي تُنَاظِرُ مرايا الحداثة الغربيّة المُشِعَّة بأنوار الفكر، والمعرفة، والإبداع الخلّاق، والتقدّم العلميّ، والتصنيع، وذلك على نحو يجعلنا نتصوّر، ومن دون إغفال ما واكب الحملة (الغزوّ) من غايات استعماريّة، أنَّ هذه الصَّدمة لم تكن صدمة حضاريّة فحسب، وإنّمَا صدمة مصيريّة ذات طبيعة وجوديّة ظلت مفاعيلها قائمة طوال قرن وصولاً إلى اتِّفاقيّة "سايكس- بيكو (1916)، وما أعقبها من اتِّفاقيّات سّرّية أبرمها عدد من القوى الاستعماريّة المهيمنة آنذاك، وهي القوى التي قسَّمت المشرق العربي، وبموجبها جرى تسليم فلسطين للحركة الصُّهيونيّة.

أما "الصّفعة الوجوديّة الأخيرة" أو "الضربة القاضية" فقد تمثلت في "سقوط بغداد الثّاني" في أوائل نيسان (أبريل) من العام 2003 ميلاديّة؛ أي بعد سبعة قرون ونحو عقدين من سقوطها الأوّل. وذلك لإتمام القبض على موارد الأرض، ومقادير العالم، ومنابع الحياة، ومصائر النّاس، والكون بأسره!

إنها، إذنْ، صدمات حداثة متوالية؛ فهل لنا أنْ نُقَارب أيَّ أمر يتعلّق بالحياة والوجود والأنشطة الإنسانيّة، وفي صلبها الإبداع الأَدبيّ والفنّيّ، وفي قلب قلبيهما الشّعر، بمفهومه الأوسع والأعمق (الشّعريّة مفهوماً وتجليات)، بمعزل عن كل هذا الذي جرى، والذي يجري الآن، والذي لا يَجْري؟!

وهل يمكن لنا أن نفهم شيئاً عن أيّ شيء، إنْ نحن أغفلنا فهم طبيعة ما حدث ويحدث، أو إنْ تقاعسنا عن إدراك تآثيراته المُتَنَوّعَةِ، والمُتعدّدة المستويات والأصعدة، وفي صلبها ما أدمى الجسدَ وشظّاه، وما أنهك الأنفسَ وأعتمها، وما أثقل الأرواح وشقّق وشائجها، وما أملاه من تحدّيات حياتيّة ووجوديّة على الكائنِ البشريِّ، وعَلَى الإنْسانِ المبدعِ السَّاعي إلى إدراك أعلى الأهداف الإنسانيّة، وأسْمَى الغَاياتِ والمعَاني الوجُودِيَّة؟!

منبع الشّعريّة وجدان كلي موّار

صورة

ستأخذنا الإجابة العاقلة عن هذه الأسئلة، وعن غيرها من الأسئلة ذات الصّلة، إلى استعادة خلاصة مؤصّلة تؤكد استحالة إدراك الشّعر: مفهوماً، وتجلياتٍ إبداعيّة أدبيّة وفنّيّة، ونشاطاً إنسانيّاً خلّاقاً مُتَعَدِّدَ الأوجه والحقول والمجالات، بمعزل عن إدراك كل هذا الذي جرى، والذي يجري، والذي لا يجري وينشد جريانه، في الخارج، وذلك بقدر ما لا ينعزل عن أخصّ المشاعر والأحاسيس والانفعالات الدّاخلية الواعية، أو التي تكمن في اللّاوعيّ فَتُسْتَشْعَرُ بغموض دون أن يدركها وعيّ، أو التي يُحْدَسُ بها دون أن تجلي نفسها في خارج قد يتيح لأيّ من الحواس إعادة التقاط ما ستمرّره لعقل وقّاد تمور في رحابه مخيّلة طليقة، من معطياتٍ قَدْ تُعَيِّنُ له وجودها في الخارج على نحو من الأنحاء دون سواه، فِيمَا تَظَلُّ مُرَاوِغَةً، مَوّارةً فِي الأعْماقِ، مُتحوّلةَ التَّجليات، تتلاقح مع ما تلتقطه الحواسُ، بأمر هذا العقل المُتَخَيِّلِ الطّليق، من إشارات تبثّها أشياءٌ متعيّنة في الخارج المرئيّ، لِتُحَفِّز مورانها الدَّائِمِ في الأعْمَاق على نحوٍ يَصْهَرُهَا بنظائرها من الأنماط الأصلية والرّموز والعلامات والإشارات والألوان والأضواء والصّور الهاجعة في أعماق اللّاوعيّ، وفي خَلايا الوجدان، لِيَتَجَلَّى شِعْرِيَّاً عَبرَ ما تشرع الذّات الشّاعرة في وعيه من مكوّنات لا وعيها مَمْزُوجاً بِمُكُوِّنَاتِ الْوعيِّ، ومُحَفْزاً بِمعْطَيَاتِ الْخارجِ، بَلْ ومُلْتحماً بها، ومحْمُولاً مَعَهَا، على صُورٍ شِعرِيَّةٍ تَصْهَرُ كُلَّ شيء في لهيبِ الأخْيِلَةِ الطَّليقَةِ، والرُّؤَى الْخَلَّاقَةِ، والوجُودِ المنشُودُ

عبر التفاعل الموّار والانجدال الضَّفائريّ المستمرّ، تتحوّل مكوّنات اللّاوعيّ، وما يَمُورُ في خلايا الوجدان من حَوافِزَ داخِلِيَّةٍ وخَارِجِيَّة، ومكوّنات، إلى "بؤر وجدانيّة" تبثّ إشعاعاتها تجليات لا يتحقّق لها وجود خارجيٌّ جَمَاليٌّ إلّا إن تجسّدت في صُور شِعْريّة ترسمها ذاتٌ شاعرة، مبدعة فنّانة، تلهب رؤيتها الكلمات فترمّزها إذ تسيّل ماءها، وتقطّره، وتلوّنه، وتفعمه بآرائج وأضواء مفعمة بمشاعر وانفعالات وأحاسيس فيّاضة، وبدّلالات ومعان وتصوّرات ورؤىً لا تنيّ تتوالد، مُوَلِّدَةً من الكلمات الصّور، ومن الصّور الْمَوْلُودَةِ للتَّوِّ كلمات جديدة تَلِدُ المزيد من الكلمات والصّور، ومنفتحة، طوال الوقت، على تفاعل رؤياويّ تخيّلي ثريّ تتجلّى خلاصاته في فضاء دلاليّ مفتوح يتصاعد أثيرُ تشكُّله من سطح النّصّ الشّعريّ مُحَمَّلاً بما يمور في قاعه العميق من تفاعلات، وتماهيات، وبؤر تناصّ، تُنَاظِرُ مثائلها المائرة في وجدان الذّات الشّاعرة، بوصفه؛ أي هذا الوجدان الكُلِي، تجسيداً داخلياً، عميقاً وكلياً، لكينونة وجوديّة ملتحمة: نفساً، وروحاً، وذاتاً مُدْرَكَةً ومُدْرِكَةً، وجسداً، وباعتباره منبع الشّعر، ورحم تخلّق دوافع إبداعه، وبدء تشكّل تجلياته النّصّيّة على تنوّع أنواعها، وتعدّد أشكال بيوت الحياة التي تسكنها، بوصفها، في البدء والمنتهى، تجارب حياة، وتجليات أشواق كينونة إنسانيّة، ورسائل وجود!

سنشرع، في ضوء هذه التبصّرات، بالسّعيّ لبلورة، فرضيّات قابلة للتأصيل، وإجابات ممكنة عن أسئلة "الجديد" تكون قابلة لحوز مُصَادَقَةِ العقل النّقديّ عليها، وليس ذلك بقصر منابع إدراك الفرضيّات والإجابات على استقراء، واستنباط، وتجريد خلاصات، لأوسع متن ونطاق من المعطيات والنًّصوص والوقائع وأحوال المجتمعات العربيّة القائمة الآن والمتواصلة الوجود، جوهريّاً، من زمن بعيد، فحسب، وإنّما بالالتفات، طيلة الوقت، إلى الكائن البشريّ العربيّ، وإلى الإنسان الإنسان، فلا يذهب سعينا إلى دروب تجرّد الكائن البشريّ مِنْ ممكنات عُثُوره على إنسانيّته، أو تغرّب الإنسان عن ذاته بنفيّ المشاعر والأحاسيس والانفعالات والحاجات النّفسيّة والحياتيّة والأشواق الوجوديّة، والتي هي، دائماً وأبداً، من مؤسّسات التَّفكير الخلّاق، والإدراك المعرفيّ العميق للعالم، ولبلورة رؤىً مستقبلية قابلة للوجود! 

منهج قرائيّ تكاملي حرّ ومفتوح

وسيكون لهذا السّعيّ أنْ ينطلق من تحليل النّصّ الشّعريّ، وأنْ يُواكب تنوّعَ هذا النَّصِّ وتعدّد تجلياته، وأن يسترشد، في الوقت نفسه وحسب مقتضيات التَّبَصُّر والتَّحْلِيلِ العميقين، بمنظومة منهجيّة متداخلة ومتكاملة تَضُمُّ، في إطارٍ جَدلٍ تَفاعُليٍّ مع مناهج النّقد الأدبي العربيّ القديم، والمناهَجِ المُجَدَّدة، نسيبيَّاً، من داخِلِهَا عبرَ تَواكبٍ نِسْبيٍّ مع تنوّع تجليات القصيدة العربيّة وتعدّدها الشّكلي، المَنَاهِجَ النَّقْدِيَّةَ السّياقيّة الوصفيّة، والوضْعِيّة، والتَّحْليليّة التَّاريخيَّة والاجتماعِيّة والنَّفْسِيّةِ، والمناهِجِ النَّقْديَّة النَّسقيّة النّصّيّة القِرَائِيَّةِ، وما قد تفرّع عن أيّ منها من مَنَاهجَ غير عربيّة المنبع، أو البلورة النّهائيّة، كالمناهج الاجتماعيّة، أو التاريخيّة، أو النّفسيّة، وما قد أعقبها من مناهج حداثيّة وما بعد حداثيّة (كالسّيميائيّة، والأسلوبيّة، والبنيويّة، والبنيويّة التكوينيّة، والظّاهراتيّة، والتفكيكيّة، إلخ).

وإلى ذلك، ستتحوّل مُكَوِّنَاتُ هاته المناهج، وحسب مقتضيات التَّنقيب والتَّقليب والتَّمحيص والتَّبَصُّر والبحث، عمقاً وامتداداً، إلى أدوات ووسائل وإجراءات، وأسرجة تنوير، ومسابير تعرّف وإدراك، وذلك بعيداً عن النَّهج السَّلفي المنغلق على ذاتٍ متكلِّسة، وبعيداً أيضاً عن نهج القطع الجذريّ، والقطيعة التَّامة، مع التّراث الأدبيّ العربيّ (نصوصاً إبداعيّة ونَقْداً)؛ هذا الذي ينتهجه المستغربون من المفكرين والنُّقَّاد الدّاعين إلى تصنيع، أو فبركة، حداثة عربيّة تقطع جذريّاً مع التَّاريخ والتّراث والواقع العربيّ القائم الآن والممتدّ في زمن عربيّ قد أزمن؛ أَيْ أولئك المستجيبين، في دعوتهم تلك، وفي أفضل تقدير لا يفترض معرفة نِيَّاتِهِم ولا يتفحَّص مكنونات ضمائرهم، إلى محفزات شكلية لم تُسْتَخْرَج بوعيّ نقديّ جذريّ من هذا الثّالوث: التاريخ العربيّ، والتّراث العربيّ، والواقع العربيّ، وإنَّمَا نَهَضَتْ على مسوّغات، ودوافع، وغايات تحديثيّة، تم توليد محفزاتها الفعلية، من قبل غيرهم وفي واقع غير عربيّ، تأسيساً على تقليب فلسفيّ: فكريّ، وجماليّ، ورؤيويّ، لتواريخَ مَديْدَةٍ، وتَجَاربِ حَيَواتٍ عَديدةٍ، وآدابَ مُتَنَوّعهٍ، وتراثاتٍ مُتَشَعِّبة، وأحوال مجتمعات بشريّة قائمة في بلاد من بلاد الغرب الذي قادته حداثته، وما بعدها، للإيغال في رأسمالية استعماريّة عنصريّة، مسعورة ومتوحّشة، وإلى السّعيّ اللاهب لفرض عولمة منفلتة منزوعة الإنسانيّة على العالم بأسره!

سيأخذنا المنهج الذي بلورته هذه التَّبَصُّرات إلى الانطلاقِ، بِدايَةً، من قراءة جديدة لكتاب ابن طباطبا: "عيار الشّعر"، بهدف اعِتمادِ فَرْضيّاتٍ أَوَّلِيَّةٍ قابلة للتَّفَحُّص والتأْصيل، وفتح سبل السّعيّ إلى بلورة إجابات مُمْكِنةٍ عن أسئلة "الجديد" حول الشّعر ومعياريّته. وبطبيعة الحال، سَيَكُونُ لِهَذهِ القراءةِ أَنْ تَنْهَضَ عَلَى إدرَاكٍ عَميقٍ لِحَقيقةِ أنّ كتاب "عيار الشّعر" يعرّف الشّعر بأنّه "كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله النّاس في مخاطباتهم، بما خصّ به من النّظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع وفسد على الذّوق". وهو، فيما أحسب، تعريف لم يكن لنا أنْ نتوقّع من "ابن طباطبا" أنْ يأْتينا بسواه، غَيْرَ أنّنا نلحظ فيه ما يُدْهش، ولا سيّما لجهة السّعيّ المُضْمَر في ثَنَايَا كتَاب "عِيَارِ الشِّعْر" للخروج من المعايير الشّكلية (النَّظْمِيَّة المُتَحَقِّقَّة) التي أملته تعريفاً مُكَرَّساً للشِّعْر كما تبدّى في تجلياته المُتَواترةِ زَمَنِيَّاً، والمَعْهُودة في زمن تاليف هذا الكتاب.

من هنا، بالضَّبْط، وفي سياق تأمّلات مُعَمَّقة لما انطوت عليه معالجة "عِيَارِ الشِّعْر" التَّفصيليَّة للشّعر: مفهوماً، ونشاطاً إبداعيّاً إنسانيّاً، وصَنْعَة، كما لجوهر الشّعريّة المُضْمَرِ فيها، والمُنْشِئِ مسابِرَهَا الجماليّة والمَعْرفِيّة والنَّقْدِيَّة، من ثراء وإدهاش، سنشرع في توليد الفرضيّات وبلورة ما يؤسّس لاقتراح إجابات مؤصّلة عن أسئلة "الجديد".

ولهذا سنكرِّسُ المقالَ المُوسَّع، اللّاحق بهذا المقال، لإجراء قراءةٍ تَبَصُّريّة، نتوخَّاها جديدةً وذات مغزىً، في هذا الكتاب اللَّافت: "عِيَارِ الشِّعْر"، ومِنْ باب التَّشَاكل مع قِراءَتِنَا لأَسْئِلةِ "الجديد" ومَعْ تَوقِنَا لإدراكِ الْجَمَاليِّ والرُّؤْيَاوِيِّ "الْمَأْمُولَ" إدْرَاكُهُ في تَجَلِّيَاتِ الشِّعْر العَربيِّ الْمُنْتَظَرةِ، وبَأفْضَلَ مِمَّا قَدْ أدْركنَاهُ في المُتَحَقِّقِ مِنْهَا، على أفْضَلِيَّتِهِ وَجَمَالِه، وأَجْمَلْ!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.