ثقافة الحوار.. الفريضة الغائبة في العالم العربي
عليه فإن الحوار هو أداة ناشئة عن الاجتماع الإنساني لحل ما يعتريه من حالات تنازع وتدافع واختلاف أو سوء تفاهم. وبالنظر إلى طابعه المتميز بالسلم وإلى ما يقتضيه من حسن إرادة، فهو إذن أداة راقية لحل مختلف الإشكالات التي لا مندوحة منها في العلاقات بين البشر، نظرا لاختلاف الناس في المصالح والثقافات والمعتقدات وما إلى ذلك. وهو أداة راقية، كما سبق القول، لأن غياب الحوار في ظل وجود خلاف، سواء على مستوى اجتماعي ثنائي الأطراف أو متعدّده، في مجتمع واحد أو ما بين مجتمعات، من شأنه أن ينجر عنه التجافي وعدم الانسجام الاجتماعي في أخف الحالات ضررا أو الصراع والحرب واعتماد القوة لحل موضوع الخلاف، في أسوأ الأحوال، كما يجري اليوم مثلا في منطقة العالم العربي، وبالضبط في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وعليه فإن الحوار هو بديل عن اعتماد قانون القوة والغلبة المبني على الجبروت والقدرة على القهر وإخضاع الآخر. فالحوار يعني التحادث مع شخص أو أكثر بشأن مسألة مشتركة بينهما أو بينهم، تشكل في ذات الوقت موضوع خلاف أو لبس أو نحو ذلك، قصد الوصول إلى حل يرضي الطرفين المتحاورين، أو الأطراف المتحاورة.
يتميز الحوار إذن بالنزوع إلى البحث عن أرضية مشتركة بين المتنازعين؛ عن منطقة يتوافقان عليها في نهاية المطاف، مما يعني ضمنيا أن منطق الحوار يفترض من الذات المتحاورة نوعا من التعاون مع الذات الأخرى، المقابلة، من أجل الوصول إلى هذه الأرضية المشتركة، إلى كلمة سواء، ذلك أنه، وكما يقول هابرماس بشأن متطلبات الحوار، فإن “المعايير الوحيدة القابلة للصلاحية هي تلك التي يمكنها نيل قبول كل المعنيين بوصفهم مشاركين في مناقشة (حوار) عملية”. ففي الحوار لا يسعى المتحاور فقط إلى تبليغ آرائه ومطالبه وانشغالاته وما إلى ذلك إلى الطرف الآخر، بل ينفتح أيضا على ذاته، مصغيا إليها ومستعدا للنظر في رؤيتها للإِشكال المشترك بينهما أو بينهم. من هنا يتبين لنا أن الحوار يفترض اعترافا قبليا بوجود الآخر وبأهليته لأن يكون متحاورا وشريكا بشأن حل موضوع الإشكال المشترك بينهما. كما يتطلب احتراما للحق في الاختلاف ومرونة في الرأي والموقف والتفكير. وهو الشيء الذي يعني أن منطق الحوار يتعارض مع منطق التطرف والغلو والدوغمائية والتعصب والعنف والإقصاء والاستئصال والخضوع، إذ أن الحوار يقوم على الانفتاح على الآخر، على الغيرية، على مجهود تقوم به الذات على ذاتيتها من أجل لقاء ذات الآخر، وأيضا على امتلاك سلطة التحاور والتمثيل، وكذا المساواة بين المتحاورين، فلا حوار يمكن أن ينشأ بين العبد والسيد. مثلما يقوم أيضا على مبدأ النسبية، لكن ليس بالمعنى العدمي الذي نجده عند السفسطائيين الذين يجعلون الفرد مقياسا لكل شيء، لأن مثل هذه النسبية تترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام مختلف أشكال سوء النية، حتى أنه يروى بأن الفيلسوف السوفسطائي بروتاغوراس “كان يتبجح بقدرته على أن يجعل الحجة الضعيفة تبدو قوية وسليمة”. فالنسبية التي يفترضها منطق الحوار الذي يهمنا هنا يعني الانفتاح على الرأي الآخر والاقتناع بعدم احتكار “الحقيقة”. إنها النسبية التي يمكن أن يلخصها المبدأ المعروف في الثقافة الإسلامية المتمثل في القول التالي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
النسبية التي يفترضها منطق الحوار الذي يهمنا هنا يعني الانفتاح على الرأي الآخر والاقتناع بعدم احتكار "الحقيقة"
ثقافة الغلبة
وإذا ما نظرنا إلى العالم العربي من خلال هذه الرؤية، من السهولة بمكان أن نلاحظ أن هذه المنطقة المشتعلة من العالم لا تمثل أرض حوار، بل أرض صراع واقتتال، كما يدل على ذلك ما حدث ولا يزال، في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر، وقبل ذلك في الجزائر، إبان تسعينات القرن الماضي، الفترة المعروفة بالعشرية السوداء. فلماذا غابت في هذه المنطقة من العالم ثقافة الحوار وسادت بدلا من ذلك ثقافة الصراع والغلبة؟ قبل محاولة الإجابة عن السؤال، خليق بنا أن نشير إلى أهمية المنطقة عالميا من حيث الثروات الباطنية والموقع الجيواستراتيجي، وإلى عامل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي لا ينبغي تجاهله. كما يتعين التأكيد على ما تتميز به المنطقة من تعقيد من حيث تركيبتها البشرية على الصعيد الديني والثقافي واللغوي والقبلي والإرث التاريخي. وهي كلها عوامل يمكن لها أن تشكل أرضية خصبة لنشأة ثقافة الحوار والتعايش والتبادل، أي لـ”التذاوت” بمفهوم هابرماس، يعني للعيش سويا وفق تعبير المفكر التونسي فتحي التريكي، مثلما يمكن أن تكون أرضية حبلى بالنزاعات والصراعات. فلماذا اتخذت لها الوجهة الأخيرة؟
لعل أحد أسباب ذلك يعود إلى طبيعة الأنظمة السياسية التي عرفتها هذه المنطقة، أنظمة تقوم بصورة عامة على نظام الحكم الفردي المُتسيِّد الذي يفرض نفسه على المجتمع بالقوة. من ضمنها تلك التي تستند إلى القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، الشيء الذي يشكل مناخا ملائما لإنماء الشعور بالتهميش لدى فئة أو فئات الشعب المقصاة هكذا بسبب ما يكون لديها من خصوصية دينية أو لغوية أو نحو ذلك، مما يسهم في تشديد تمسكها بهويتها الفرعية، على حساب الهوية الكلية، أي الوطنية. ففي ظل نظام يستند إلى القوة بمعناه التعسفي وغير الشرعي، يتعذر ظهور بيئة مناسبة تؤسس لثقافة الحوار، خصوصا وأن المجتمع يعيد إنتاج أشكال صغرى ودنيا من التسيد وتكرارها، كالزمر والعصب والولاءات وغير ذلك، مما يجعل المجتمع قائما في جوهره على علاقات القوة على مختلف مستوياته، ابتداء من العائلة. ويتحقق ذلك كما يؤكد أركون بشأن هذه الخلية الاجتماعية الأساسية “عن طريق المحرمات العديدة التي تحيط بالمرأة، وعبر إخضاعها إلى مكانة أدنى وإبقائها فيها، وأيضا من خلال الامتيازات والسلطات الموكلة للرجل من قبل القانون” الديني” (…) و أيضا عن طريق الطاعة المباشرة التي يقدمها الابن للأب، أو البنت للأخ أو للأب، أو المرأة للزوج أو الصغير للكبير…” (مع بعض التصرف). كل ذلك يسهم، بسبب اعتماد مبدأ عدم المساواة بين الذكر والأنثى، والاستناد هكذا على مبدأ القوة، في الحيلولة دون ظهور ثقافة الحوار داخل العائلة وتبلورها، ومن ثمة في المجتمع، إذ أن المساواة، كما سبق وأن أشرنا، تمثل أحد مقومات ثقافة الحوار.
احتكار الحقيقة
وبالرغم من أننا نجد هنا، وفق أركون، تأثير القانون”الديني”، كما يسميه، إلا أن دور هذا العامل، ممثلا من قبل من يصفهم ماكس فيبر بـ”مسيّري أملاك الخلاص”، يبدو أكثر وضوحا ومباشرة فيما يخص دعم المحظورات المتعلقة بالتفكير في موضوع الدين وإعادة إنتاجها. وهكذا تقوم “المؤسسة الدينية” التي يمكن أن يشملها أيضا مفهوم السلطة الرمزية بمفهوم بورديو، بالرغم من أن هذه الأخيرة، في الحالة التي تعنينا هنا، ليست دائما مستقلة عن السلطة السياسية، بإعادة تكريس مبدأ مجاف لمنطق الحوار: احتكار الحقيقة. وذلك في مسألة ذات أهمية جوهرية على مختلف الصعد، في المجتمعات العربية- الإسلامية، ألا وهي المسألة الدينية. ويمكن أن نتذكر بهذا الصدد تجربة نصر حامد أبو زيد في مصر، أو أركون في الجزائر، في ملتقى من ملتقيات الفكر الإسلامي. إن الحوار لا يعني بالضرورة الجلوس حول طاولة واحدة، بل يمكن أن يجري عن بعد، من خلال ضمان حق الآخر في التعبير عن وجهة نظره أو عن قراءته دون أن يتعرض لخطر التكفير أو لفتوى تبيح هدر دمه. وإذ أن مثل هذا المنع من التفكير يجعل هذا الدين “غير مفكر فيه تاريخيا” بالمعنى الذي نجده عند أركون، فإن ذلك يسهم في إبقاء الشعوب الإسلامية، بهذه المنطقة، أسيرة تناقضات ماضيها الديني، تعيد إنتاجه بمفرداته وعنفه وممارساته الإقصائية للشريك في الوطن ولكنه المغاير في ذات الوقت بسبب ما قد يكون لديه من بعض الخصوصية الدينية أو نحوها. إذن يشكل استمرار هيمنة الماضي وتناقضاته، على تفاصيل الحاضر العربي أحد معوقات انتشار ثقافة الحوار، لأنه يفرز الإقصاء والعنف. وعليه يمكن أن نعتبر الماضي داء العرب المزمن. غير أنه لا يمكن إرجاع سبب هذه المشكلة إلى مجرد عدم قراءة الدين على ضوء المنهجية التاريخية، إذ لا يجب أن ننسى دور نظام الحكم العربي، كما سبق وأن أشرنا، في عدم حصول الشفاء من تناقضات الماضي وآلامه وذكرياته.
الإقصاء وما يجره من عنف كان ثقافة مشتركة، يتخذ تارة لبوس الدين وتارة لبوس العقل، كما اليوم، من خلال لبوس "الإسلاموية" أو لبوس "العلمانية"
إقصاء متبادل
والمنع من التفكير في الموضوع الذي سبقت الإشارة إليه ليس في الحقيقة من جانب واحد. إنه منع متبادل. وهنا نصل إلى ما يميز النخب العربية المثقفة من عجز عن التحاور وإلى ما يعرف في الأدبيات الإعلامية بـ”الاستئصال” أو “الاجتثاث”. ذلك النوع من المنع عن الوجود الأيديولوجي والسياسي للآخر. إنه المعادل الموضوعي للتكفير أو التكفير المضاد. فالآخر متهم هنا بالكفر بــ”الحداثة”. لهذا تحدث إدوارد سعيد في كتابه المعنون بالفرنسية ” Des intellectuels et du pouvoir » عن “بؤس اليسار العربي” ومحمد أركون في ” الفكر الإسلامي . نقد واجتهاد” عن العلمنة الدوغماتية أو المتعصبة قائلا بأنها “خطرة من الناحية العقلية والثقافية”. وهذا النوع من “التكفير” يؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها التكفير التقليدي: “الإفتاء” بهدر الدم أو السجن. فمشاهد القتل الجماعي والمتبادل التي شهدتها بعض البلدان العربية ولا تزال منذ 2011، وكذا ما سبق وأن عاشته الجزائر خلال ما يعرف بالعشرية السوداء، ليست غريبة لا عن هذا “التكفير الحداثي” ولا عن “التكفير التقليدي”. إن الصراعات الأيديولوجية لا تقل ضراوة عن الصراعات الدينية، ذلك أن الأيديولوجيا تكاد تكون دينا، والحقيقة أن الصراع الأيديولوجي بين النخب العربية “العلمانية” و”الإسلامية” يمثل أحد معوقات الانتقال إلى مجتمع الحوار. ولعل هذه الظاهرة تشي عن وجود ثقافة قاعدية واحدة لا واعية تتجاوز حدود التقسيم إلى “حداثي” و”إسلاموي”، تم استبطانها جيلا بعد جيل، لتنتج وتعيد إنتاج الإقصاء والأحادية كيفما كان نوع الأيديولوجية المعلنة، الشيء الذي قد يفسر تعذر ظهور ثقافة الحوار بالمعنى الذي سبق وأن أشرنا إلى بعض قواعده العامة. ومع ذلك فإن الثقافة الإسلامية لا تخلو من مبادئ خليقة بأن تؤسس لثقافة الحوار، فقد وردت في القرآن آيات تحض عليه: “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”؛ “لا إكراه في الدين”؛ “لكم دينكم ولي دين”. كما أن الحضارة الإسلامية وإن كانت لا تخلو من أمثلة تدل على الاضطهاد الفكري، وذلك تارة باسم الحفاظ على الدين، كما حدث مع إحراق كتب الفيلسوف ابن رشد، أو باسم العقل كما فعل المعتزلة في محنة الإمام ابن حنبل، مما يؤشر إلى أن الإقصاء وما يجره من عنف كان ثقافة مشتركة، يتخذ تارة لبوس الدين وتارة لبوس العقل، كما اليوم، من خلال لبوس″الإسلاموية” أو لبوس “العلمانية”، إلا أن هذه الحضارة شهدت أيضا مظاهر للنقاش الحر، تتضمن بعض قيم ثقافة الحوار، كالمناظرات التي كانت تجري بين المسيحيين والمسلمين زمن الأمويين الأولين، وخصوصا بعد ذلك في عصر المأمون الذي كانت تقام في حضرته مناظرات دينية من هذه القبيل. وإذا ما شئنا ألا نحصر مفهوم ثقافة الحوار في حدود ضيقة، يمكن القول بأن الحضارة الإسلامية كانت حضارة حوار، إذ تحاورت مع الحضارة اليونانية ومع غيرها من الحضارات والثقافات، من خلال الترجمة إلى العربية من مختلف اللغات السائدة في تلك الأيام، والتفاعل معها نقدا وشرحا وإضافة. فالحضارات تتحاور دائما، على خلاف البشر في كثير من الأحيان.
الشرعية السياسية
ولأن المساواة بين المتحاورين من متطلبات الحوار، فإن ما يميز العالم العربي من تبعية بسبب التخلف وعدم حل مسألة الشرعية السياسية، لا سيما في موضوع الحكم، وذلك في جل بلدان المنطقة، أمر يسهم بدوره في إضعاف مبدأ الحوار، فالتابعون لا يستطيعون التحاور. وذلك سواء فيما بينهم أو مع الآخر. ففي الحالة الأولى هناك العائق المتمثل في غياب الاستقلالية، وفي الحالة الثانية هناك العائق المتمثل في غياب التكافؤ مع الآخر. لهذا نفهم عجز القمم العربية، مثلا، على اتخاذ قرارات تنبع عن إرادة حرة، أو التأثير على الآخر في قضايا عربية مصيرية، كقضية فلسطين مثلا. مما يفسر وجود المقاومة، باعتبار أن السلاح هو سبيل الضعيف الذي يريد إسماع صوته، مثلما يفسر أيضا كون قرار “الحوار” أو الحرب في هذه المنطقة رهن إلى حد كبير بإرادة الآخرين، الإقليميين منهم والبعيدين. فالتابعون يتحاربون بالوكالة و”يتحاورون” بالوكالة.