ثقافة الناس
لكي نكون أكثر قرباً من واقعنا، يمكن القول على أن الثقافة المحرّكة للناس أكثر في الاضطرابات الكبرى وفلتان الأمن، تضعهم بين فكي كماشة ما هو سياسي وأمني، بما أن السلطة في علامتها الفارقة الكبرى محورية ومركزية، فتكون الأعين عليها.
هنا، ماذا يمكن للمثقف أن يعمل، أن يمارس تأثيراً؟ إنه- من حيث الانتماء- واحد من كل "مجتمعي" وإذا كان له من ميزة خاصة، فهي تتمثل في أنه يستطيع الظهور أكثر عبر وسائل إعلامية أو في أوساط الناس، ولكن ماذا يمكننه فعله، والخيط مشدود إلى السلطوي؟
ذلك عائد إلى خاصية اللاانفصال في التاريخ العربي الإسلامي بالذات غالباً، بقدر ما بدا ويبدو هذا التاريخ كما لو أنه يعيد انتاج نفسه، من خلال حامل محوري مستبد بما حوله " صاحب السلطة "، رغم أن ثمة تغيرات هائلة فيه، سوى أن ظل السلطان في مختلف مراحله هو الذي يلقي بنفسه عليها دون استثناء، وكأني بصاحب السلطة حلقة وصل لا تعوَّض بين الناس وخالقهم، أو أن الديني هو الذي يلون مشاعر الناس وينظّم حتى أنفاسهم، بقدر ما يمتد تأثيراً إلى عالم اللاشعور وأحلام اليقظة وسواها.
وربما برز المثقف الأكثر تعرضاً لعنف مزدوج، ولضعف الحيلة والوسيلة، وهو متبصر كثيراً ما يجري في وسطه: عنف قادم من جهة المتنفذ الأول ومن يمثله أو يليه مرتبة بالمعنى الأمني أو الانضباطي، في مراقبته، ولزوم تجميل صورة الحاكم أو التشديد على جماليات السلطة اللافتة من خلال مديح لا ينقطع للمجتمع الذي يسوسه، أو لينتظر ما لا يتمناه، وعنف يأتيه من المحيطين به، بوصفه أجير الحاكم أو التابع له، وكونه محل شبهة في الوقت نفسه، لأن لا يرسم معاناتهم، فهو إذاً بين مطرقة الحاكم وسندان الجمهور.
ذلك بعمل مبرمج وبدقة من قبل السلطة الأمنية التي تتبع الحاكم وشمولية نظامه، حيث يتم تصوير الكاتب أو المثقف على أنه شخصية متطفلة، أو لا يعبأ بالآخرين، وأكثر من ذلك، هو أنه كثيراً ما يمارس تشويشاً على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، الراعي والرعية.
ولعل الناظر في بنية الأحداث التي شهدتها الساحة العربية حتى اللحظة، في قائمة البلدان المعروفة، وحتى في سواها، ربما يسهل عليه معرفة أن الضحية الكبرى للأنظمة العربية صاحبة العلاقة، تتمثل في المثقف بالناس، حيث جرّد من تلك القيمة التي تمنحه سلطة هامشية- حتى- للتحدث فيما يحصل، وتشريح آلية الاستبداد، أو ما يقوم بها الناس، على الصعيد الإعلامي، وفي تشتيته، وحتى على مستوى التنظير، من خلال وقوع المعنيين بالجاري في مطب التجريد أو سوء مقاربة الأحداث، نظراً للمسافة التاريخية الفاصلة بين المثقف الذي كان وما هو عليه، وليكون أكثر غربة واغتراباً وقلة اعتبار من مثقف الأمس "ما قبل الاستقلال المسمى"، والمجتمع الذي يقيم فيه وربما أكثر عرضة من الاضطهاد النفسي والتعرض للمضايقات مقارنة بالناس "العاديين"، والقيّم على المجتمع هذا .
في ثقافة الناس المتداولة والفاعلة في أذهانهم ونفوسهم يمارس الحاكم الأزلي" كإله مصغر " نافذ العنف ، جانب الرهبة والسطوة، كما في الخراب المدمر للبلاد والعباد " والعباد هنا مفهوم ديني موصول بالخليفة الديني، خلاف المواطنين الذين يرتبطون برئيس متغير، أو زمني طبعاً"، وفي الوقت ذاته، ليكون هؤلاء الذين يخوضون حروباً شرسة متعددة الأشكال مع أنظمتهم ورموزها، وكما هو الفلتان الأمني " المحكم " أي الموجَّه، مترجمي طبائع ووقائع تعنيهم بوصفهم محشورين في تاريخ مفروض عليهم، وأنهم داخلين في محميّة سلطوية مسوَّرة ومرصودة بإحكام على أكثر من مستوى، ودون ذلك، يتراءى أنه من الصعب جداً تفكيك العلاقة المركَّبة .
في السياق نفسه، لنلاحظ دور المثقف وهو الواعظ والمقرب من الحاكم: السلطان، أو المرشد الذي يسيء إلى الواقع، وكل ذلك يصب في مصلحة المستبد بالمجتمع، كما هو مضمون كتاب علي الوردي "وعاظ السلاطين"، وقوله (إن أكثر مفكرينا اليوم يتبعون، ذلك الأسلوب الذي يصفق للظالم ويبصق في وجه المظلوم.)، والوعظ يشتت الانتباه، مثلما أنه يقلّل من القدرة على تبين أوجهه الخلل في المجتمع بالذات، طالما أن المصغي مواطن ميتافيزيقي، مقلوب على رأسه، وفي الوقت نفسه، لنجد أنفسنا مع توقف عنده المصري حسن حنفي بقوله (في الثقافة العربية الإسلامية يقبع "الزعيم".)، فالزعيم هو من يتزعم، من يسيطر ويدير العلاقة مع تابعيه: رعيته، شعبه المسمى، لكن الزعيم موصول بالزعم، وما فيه من توليف أي تحوير للحقيقة، بما أن الزعيم واحد، وثمة تابعون، فهو في موقعه يصادر حقيقة ما يجلوه، أي يجيّر التاريخ بالذات، وليس لأن الزعيم يكون المسئول الخاضع لقانون لا يمكّنه من تجاوز حدوده، بالعكس، يوضع القانون الذي يترجم رغبته ويجعلها هي ذاتها القانون، ولا تعود الحدود إلا حدود الحاكم: الزعيم الأوحد (لنتذكر أيضاً، ومن باب الكوميديا السوداء، محتوى مسرحية النجم المصري عادل إمام : الزعيم، حين خاطب ممثل الرئيس الميت وهو يعلمه بأنه مات، بقوله : هو في رئيس بيموت ؟ أي ما يترجم رد فعل شعبي بالذات، أي ما ينصب على الأبدية المزعمة للرئيس المجمّل بالديني حصراً).
خاصية الإجهاض الكبرى في تحقيق ما يصبو إليه الناس لها صلة مباشرة بالثقافة التي تنوب عن حاملها السلطوي، تلك الثقافة التي لا تكف عن بعثرة الثقافة الفعلية، وتمارس ما وسعها الجهد من رسم تخوم المجتمع وفق مقتضيات مصلحة الحاكم، ولهذا، يكون الذي سطّره اللبناني وجيه كوثراني في كتابه " الذاكرة والتاريخ " في محله، وهو (لا تزال ثقافتنا العربية ترزح تحت ثقل الذاكرة الأسطورية، وما زال البحث التاريخي مهمة صعبة.)، في محله، وعلى هذا الأساس، يمكن القول وببالغ الألم إننا بحاجة إلى أكثر من ثورة معاً للتحول إلى الأفضل حتى بالنسبة للناس الذين نعنيهم ومن يسوسهم، وتكون الثورة بمفهومها التربوي والفكري والنقدي بداية، ونظراً لخطورة الوضع، يكون من الاستحالة بمكان تحديد هذه الثورة بداية، جرّاء المفهوم البلوكي "الكتلي" للوضع، فتكون ثورات ثقافية وسياسية وشعبية معاً، على الأقل بالنسبة للمثقف والباحث فيما هو سوسيولوجي وما يحرّك المشاعر والأفكار ويبقى في الظل المعتم ترجمة مخاوف لا تحصى، مخاوف تكون بمثابة " العامل المسيطِر" في الدفع بالناس في هذا الاتجاه أو ذاك، وفي أن يكونوا في مقام- ربما- الدرع الواقي للقيّم عليهم، والمستبد بهم، وتلك من كبريات المفارقات التي لا تثقل على " العقل السياسي العربي " فحسب، وإنما تختزله بفظاعة
كاتب من سوريا مقيم في دهوك - العراق