ثقافة‭ ‬بلا‭ ‬علم علم‭ ‬بلا‭ ‬ثقافة‮

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: ياسر صافي

كل هذه‭ ‬المعاني‭ ‬لها‭ ‬صلة‭ ‬بمفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬تشمل‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬والمعارف‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والقيم‭ ‬والمبادئ،‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬تعريفًا‭ ‬للثقافة،‭ ‬وهي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬والتثقيف‭ ‬ولا‭ ‬تفرق‭ ‬بينهما،‭ ‬وجاء‭ ‬البعض‭ ‬ليفرّق‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬والتثقيف،‭ ‬وشاع‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬تفريق‭ ‬بين‭ ‬المتعلم‭ ‬والمثقف،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬أحدهم‭: ‬إن‭ ‬المثقف‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أميًا‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬ولا‭ ‬يكتب‭.. ‬وهذه‭ ‬إحدى‭ ‬عجائب‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭..!‬،‭ ‬شعوبنا‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تأكل‭ ‬حياتها‭ ‬وقدراتها‭ ‬الأمية‭ ‬الطاغية‭ ‬بجميع‭ ‬أنواعها،‭ ‬يدعو‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬بلا‭ ‬علم‭ ‬أو‭ ‬تعليم،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬لدينا‭ ‬وزارات‭ ‬اسمها‭ ‬وزارات‭ ‬الثقافة،‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭.‬

ولم‭ ‬يدرك‭ ‬الذين‭ ‬أقاموا‭ ‬وزارات‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬سابقة‭ ‬لأوانها،‭ ‬وقد‭ ‬غلبنا‭ ‬المظهر‭ ‬على‭ ‬الجوهر،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬أندريه‭ ‬مالرو‭ ‬وزيرًا‭ ‬لثقافة‭ ‬فرنسا‭ ‬بدأ‭ ‬بغسل‭ ‬واجهات‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬بالماء‭ ‬لتبدو‭ ‬ناصعة‭ ‬بيضاء،‭ ‬ففي‭ ‬أغلب‭ ‬شوارعنا‭ ‬وحوارينا‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬بيت‭ ‬واحد‭ ‬له‭ ‬واجهة‭ ‬بيضاء،‭ ‬لم‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬القمة‭ ‬العالية‭ ‬الرفيعة‭ ‬الجميلة‭ ‬المحققة‭ ‬للرقيّ‭ ‬والتحضر‭ ‬والوعي‭ ‬التي‭ ‬نصل‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬للناس‭ ‬تعليمًا‭ ‬محترمًا‭ ‬راقيًا،‭ ‬والذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أزمة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬إنه‭ ‬للناس‭ ‬مثل‭ ‬الماء‭ ‬والهواء‭.‬

والشيء‭ ‬العجيب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬يطالبون‭ ‬بوضع‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬والتماثيل،‭ ‬في‭ ‬المباني‭ ‬العامة‭ ‬الكبرى‭ ‬لتزيين‭ ‬القاهرة‭ ‬مثلاً،‭ ‬وقد‭ ‬استجابت‭ ‬الدولة‭ ‬لهم،‭ ‬ولم‭ ‬يدركوا‭ ‬أن‭ ‬مدينة‭ ‬القاهرة‭ ‬المكتظة‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬ملايين‭ ‬نسمة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كنس‭ ‬ورش‭ ‬ونظافة‭ ‬حواريها‭ ‬وأزقتها‭ ‬وشوارعها‭ ‬وميادينها‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬ـ‭. ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬مكنوسة‭ ‬ومرشوشة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬تزويقها‭ ‬بالتماثيل‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬نضعها‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬ورد‭ ‬يسرّ‭ ‬الناظرين،‭ ‬وبالطبع‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬نضعها‭ ‬وسط‭ ‬مزابل‭ ‬يسكنها‭ ‬أطفال‭ ‬الشوارع،‭ ‬واللوحة‭ ‬الفنية‭ ‬توضع‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬لا‭ ‬تمتد‭ ‬إليه‭ ‬السكاكين‭ ‬والمطاوي،‭ ‬ويكتب‭ ‬عليه‭ ‬كلمات‭ ‬مسيئة‭ ‬بذيئة‭ ‬بأسلوب‭ ‬خادش‭ ‬للحياء‭.‬

لا‭ ‬تغضب‭ ‬من‭ ‬كلامي‭ ‬ولا‭ ‬تزايد‭ ‬علي‭ ‬حين‭ ‬أحدثك‭ ‬هذا‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬عشت‭ ‬طفولتي‭ ‬وشبابي‭ ‬وكهولتي‭ ‬وشيخوختي‭ ‬التي‭ ‬أعيشها‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وكم‭ ‬كتبت‭ ‬عنها،‭ ‬فأنا‭ ‬أكثر‭ ‬عشقًا‭ ‬وحبًا‭ ‬لقاهرتي‭ ‬الصامدة،‭ ‬وأشد‭ ‬وجدًا‭ ‬بها،‭ ‬وعليه‭ ‬ليست‭ ‬المشكلة‭ ‬يا‭ ‬سادة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬وزارات‭ ‬للثقافة،‭ ‬ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عندنا‭ ‬ثقافة‭ ‬ولدينا‭ ‬وعي‭ ‬وإدراك‭ ‬وفهم‭ ‬وتحضر،‭ ‬فقصة‭ ‬الثقافة‭ ‬عندنا‭ ‬لها‭ ‬حكاية‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬يتسع‭ ‬صدرك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬الكريم‭ ‬لتسمعها‭.‬

كان‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬الجامعة‭ ‬الشعبية،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تعليم‭ ‬الناس‭ ‬وتثقيفهم،‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين‭ ‬أستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬وكان‭ ‬عميدًا‭ ‬لكلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬ولكنه‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الارتقاء‭ ‬بجماهير‭ ‬الأمة‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭ ‬عبر‭ ‬باب‭ ‬الجامعة،‭ ‬وعليه‭ ‬يحتاج‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬جامعة‭ ‬شعبية‭ ‬تعلمهم‭ ‬وتثقفهم‭ ‬وتوعيهم،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬مدير‭ ‬لهذه‭ ‬الجامعة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬صاحب‭ ‬مفهوم‭ ‬حضاري‭ ‬عصري‭ ‬لمعنى‭ ‬الثقافة‭.‬

طالب‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬بأن‭ ‬نعلّم‭ ‬الناس‭ ‬العلوم‭ ‬الميسرة،‭ ‬والفنون‭ ‬البسيطة،‭ ‬والصناعات‭ ‬الفنية‭.. ‬وبذلك‭ ‬نستطيع‭ ‬جعل‭ ‬رجل‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ‭ ‬ويكتب‭ ‬رجلاً‭ ‬مثقفًا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬عند‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬مفهوم‭ ‬واضح‭ ‬للثقافة،‭ ‬لأن‭ ‬موجة‭ ‬العصر‭ ‬أيام‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬والرجل‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬حركات‭ ‬فكرية‭ ‬تقودها‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أطلقوا‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الخلصاء‮»‬،‭ ‬وسميناهم‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬باسم‭ ‬المثقفين‭.‬

الترجمة‭ ‬خاطئة،‭ ‬والمفهوم‭ ‬خاطئ،‭ ‬وليس‭ ‬لفئة‭ ‬الخلصاء‭ ‬صلة‭ ‬بمفاهيم‭ ‬الثقافة‭ ‬أو‭ ‬التعليم،‭ ‬ولكنهم‭ ‬فئة‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬العقائد‭ ‬والأفكار‭ ‬والأيديولوجيات‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الفكر،‭ ‬وهم‭ ‬صفوة‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتصارعة‭ ‬فكريًا‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العظمى‭ ‬الثانية،‭ ‬وكان‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬الماركسيين،‭ ‬وآخرون‭ ‬اشتراكيون،‭ ‬وفئة‭ ‬ثالثة‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الحرة،‭ ‬وهم‭ ‬يغلفون‭ ‬مذاهبهم‭ ‬السياسية‭ ‬بغلاف‭ ‬الفكر‭ ‬والفن،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬اسمهم‭ ‬الفئة‭ ‬المختارة‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتهم‭.‬

ولكن‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬فهم‭ ‬الثقافة‭ ‬فهمًا‭ ‬عربيًا،‭ ‬وأدرك‭ ‬احتياجات‭ ‬بلادنا‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬إدراكًا‭ ‬واعيًا،‭ ‬فأقام‭ ‬الجامعة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬أساسًا‭ ‬لهيئة‭ ‬قصور‭ ‬الثقافة‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭ ‬الجماهيرية‭ ‬في‭ ‬أيامنا،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬بحق‭ ‬صاحب‭ ‬تفكير‭ ‬عملي‭ ‬واقعي،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬صناعة‭ ‬حياكة‭ ‬الثياب‭ ‬وفنون‭ ‬التطريز‭ ‬وأشغال‭ ‬الإبرة‭ ‬للفتيات‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬جامعته‭ ‬الشعبية،‭ ‬وكانوا‭ ‬يعلمون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجامعة‭ ‬فنون‭ ‬الرسم‭ ‬والموسيقى‭ ‬والمسرح‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعض‭ ‬المهن‭ ‬البسيطة‭ ‬مثل‭ ‬النجارة‭ ‬والسباكة‭ ‬والكهرباء‭.‬

ويبدو‭ ‬لي‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬كان‭ ‬سابقًا‭ ‬لعصره،‭ ‬لأنه‭ ‬بفكر‭ ‬العالم‭ ‬الأكاديمي‭ ‬المستنير‭ ‬استطاع‭ ‬تحديد‭ ‬المفاهيم‭ ‬الثقافية‭ ‬والشعبية،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬دائرة‭ ‬المعارف‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الطليعية‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬عصرنا،‭ ‬وهي‭ ‬مرجع‭ ‬أصيل‭ ‬ينهل‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬أو‭ ‬الفلكلور‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭.‬

ولكن‭ ‬مفهوم‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬للثقافة‭ ‬كان‭ ‬يرتبط‭ ‬دائمًا‭ ‬بمفهوم‭ ‬التعليم،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬الثقافة‭ ‬أو‭ ‬تثقيف‭ ‬الناس‭ ‬وتوعيتهم‭ ‬مرحلة‭ ‬موازية‭ ‬لمرحلة‭ ‬التعليم،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنه‭ ‬عندما‭ ‬عقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثقافي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬خلال سبتمبر‭ ‬1947،‭ ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬مديرًا‭ ‬للإدارة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬للمؤتمر‭ ‬فأضفى‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬فكرته،‭ ‬فكانت‭ ‬المحاضرات‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬التعليم‭.

الثقافة‭ ‬عندنا‭ ‬أصبحت‭ ‬لعبة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتعلموا،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر،‭ ‬لقد‭ ‬استخدمت‭ ‬الثقافة‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬تمزيق‭ ‬شعوبنا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ثقافة‭ ‬أصيلة،‭ ‬ونحن‭ ‬نعاني‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬غير‭ ‬المتعلّمة‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬أفكارنا‬

كانت‭ ‬خلاصة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬فعاليات‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثقافي‭ ‬الأول‭ ‬للعرب،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الأستاذ‭ ‬واصف‭ ‬البارودي‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الفكر‭ ‬اللبناني،‭ ‬حيث‭ ‬أكد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬ليست‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬الكثيرون‭ ‬لتكوين‭ ‬الصفوة‭ ‬ولتكوين‭ ‬مجتمع‭ ‬لائق‭ ‬بها‭ ‬سلبًا‭ ‬وإيجابًا،‭ ‬أي‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يتّجه‭ ‬معها‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬على‭ ‬حق،‭ ‬وكيف‭ ‬يوجهها‭ ‬أو‭ ‬يستغنى‭ ‬عنها‭ ‬متى‭ ‬انحرفت‭ ‬عن‭ ‬المسير،‭ ‬فهي‭ ‬تكون‭ ‬مجتمعًا‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يعيش،‭ ‬ولا‭ ‬تعترف‭ ‬بأيّ‭ ‬مجتمع‭ ‬يصنع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬أوثانًا‭ ‬وآلهة‭ ‬يعبدها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الله‭.‬

وهكذا‭ ‬ربط‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬المتميز‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬باكر‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والأيديولوجيا،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬ألّف‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أزمة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬وحاول‭ ‬ربط‭ ‬مصر‭ ‬ثقافة‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬وهاجمه‭ ‬كثيرون‭ ‬‭(‬وما‭ ‬زالوا‭ ‬يهاجمونه‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭)‬،‭ ‬وقالوا‭ ‬‮«‬إن‭ ‬ثقافة‭ ‬مصر‭ ‬ترتبط‭ ‬بثقافة‭ ‬العرب،‭ ‬وليس‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬وضع‭ ‬مفهوم‭ ‬للثقافة‭.‬

نعود‭ ‬لنسأل‭: ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الثقافة؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬تكوين‭ ‬الصفوة‭ ‬المختارة‭ ‬في‭ ‬المجتمع؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬توصيل‭ ‬أنواع‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬والمهارات‭ ‬والفنون‭ ‬إلى‭ ‬جماهير‭ ‬الشعب؟‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬عقد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬من‭ ‬22‭ ‬أغسطس‭ ‬إلى‭ ‬3‭ ‬سبتمبر‭ ‬1950،‭ ‬استمرّ‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬في‭ ‬دعوته‭ ‬للتعليم،‭ ‬وقال‭ ‬كلمته‭ ‬المشهورة‭ ‬‮«‬كل‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬تتذبذب‭ ‬بين‭ ‬مبدأين مشهورين،‭ ‬وهما‭ ‬التعليم‭ ‬للجميع،‭ ‬وفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الجامعات‭ ‬والمدارس‭ ‬العليا‭ ‬على‭ ‬مصاريعها،‭ ‬أو‭ ‬تقييد‭ ‬ذلك‭ ‬بنخبة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الأغنياء‭ ‬ونوابغ‭ ‬الفقراء‭..‬‮»‬‭.‬

أقول‭ ‬لكم‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الأربعينات‭ ‬والخمسينات‭ ‬والستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تلتقي‭ ‬دائمًا‭ ‬مع‭ ‬التعليم،‭ ‬وكانت‭ ‬تعتبر‭ ‬المثقف‭ ‬من‭ ‬الصفوة‭ ‬المختارة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوروبية‭ ‬والأميركية‭ ‬المتقدمة،‭ ‬ثم‭ ‬انفصلت‭ ‬الثقافة‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬وأنشأنا‭ ‬وزارات‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬غير‭ ‬متعلمة،‭ ‬ودخل‭ ‬فيها‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬هب‭ ‬ودب‭ ‬من‭ ‬أرزقية‭ ‬زمننا‭ ‬الرديء،‭ ‬ولم‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬فرنسا‭ ‬مثلاً‭ ‬عندها‭ ‬وزارة‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬التعليم‭ ‬والتحضر،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬سائق‭ ‬التاكسي‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬يحمل‭ ‬شهادة‭ ‬الليسانس‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬ويعتبر‭ ‬غير‭ ‬مثقف‭.‬

إن‭ ‬المثقف‭ ‬الأوروبي‭ ‬أو‭ ‬الأميركي‭ ‬أعلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬المتعلم،‭ ‬والمثقف‭ ‬‮ ‬العربي‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬ـ‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أميّا‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬ولا‭ ‬يكتب،‭ ‬وكانت‭ ‬كارثة‭ ‬الكوارث‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬أن‭ ‬يتولّى‭ ‬بعض‭ ‬مناصب‭ ‬وزارات‭ ‬الثقافة‭ ‬أنصاف‭ ‬المتعلمين،‭ ‬وروّجوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬المتخلفة‭ ‬التي‭ ‬ترد‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬ولا‭ ‬تصنع‭ ‬له‭ ‬التقدم،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬الماسة‭ ‬اللامعة‭ ‬البراقة‭ ‬فوق‭ ‬تيجان‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭.‬

لم‭ ‬توجد‭ ‬ثقافة‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬بلا‭ ‬علم،‭ ‬ولم‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬علم‭ ‬بلا‭ ‬تعليم‭ ‬محترم،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬بديهية‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ذكاء‭ ‬أو‭ ‬مهارة‭ ‬ولكنّ‭ ‬الثقافة‭ ‬عندنا‭ ‬أصبحت‭ ‬لعبة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتعلموا،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر،‭ ‬لقد‭ ‬استخدمت‭ ‬الثقافة‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬تمزيق‭ ‬شعوبنا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ثقافة‭ ‬أصيلة،‭ ‬ونحن‭ ‬نعاني‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬غير‭ ‬المتعلّمة‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬أفكارنا‭ .‬

ونعود‭ ‬لنسأل‭ ‬لأن‭ ‬المعرفة‭ ‬دون‭ ‬أسئلة‭ ‬إبهام‭ ‬وضلال‭: ‬هل‮ ‬‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬المحروسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مواطن‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬ذاته‭ ‬والتناغم‭ ‬مع‭ ‬قدراته‭.. ‬مؤهل‭ ‬للشراكة‭ ‬في‭ ‬مجتمعه‭ ‬والإسهام‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬ذات‭ ‬متعة‭ ‬وهيبة‭..‬؟‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إلقاء‭ ‬المجتمع‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬جهنمية‭ ‬من‭ ‬الادعاء‭ ‬والنفاق‭ ‬العام،‭ ‬وخلق‭ ‬مسوخ‭ ‬تحمل‭ ‬أوراقًا‭ ‬تشهد‭ ‬لها‭ ‬بالتعليم‭ ‬لا‭ ‬أكثر؟

أقول‭ ‬لكم‭ ‬إن‭ ‬السيرك‭ ‬القومي‭ ‬المصري‭ ‬مثلاً،‭ ‬كان‭ ‬سيرك‭ ‬عائلة‭ ‬الحلو،‭ ‬وعائلة‭ ‬عاكف،‭ ‬وأولاد‭ ‬عمار‭ ‬المغاربة،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬سيرك‭ ‬موسكو‭ ‬وبكين،‭ ‬إن‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬أصحاب‭ ‬السيرك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تعرفه‭ ‬الدنيا،‭ ‬وكانت‭ ‬مصر‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬السيرك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬الناس،‭ ‬القرد‭ ‬كان‭ ‬يلاعبه القرداتي،‭ ‬ولا‭ ‬زال‭ ‬يلاعبه،‭ ‬والفيل‭ ‬كان‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬فوق‭ ‬بركة‭ ‬الفيل‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬السيدة‭ ‬زينب،‭ ‬ويتفرج‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬أيام‭ ‬المماليك،‭ ‬والحصان‭ ‬كان‭ ‬يرقص،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬للحصان‭ ‬دوره‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬الشعبي،‭ ‬والحمار‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬سباق‭ ‬عجيب‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬المحمدي‭ ‬عند‭ ‬منشية‭ ‬البكري‭ ‬شرق‭ ‬القاهرة،‭ ‬وكانت‭ ‬للحمير‭ ‬أحوال‭ ‬في‭ ‬السباق،‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬بالعصا،‭ ‬وعبور‭ ‬الموانع،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ألعاب،‭ ‬وكان‭ ‬عندنا‭ ‬من‭ ‬يلعبون‭ ‬على‭ ‬الحبال‭ ‬فوق‭ ‬بركة‭ ‬الأزبكية‭ ‬وقد‭ ‬شاهدهم‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الاحتفالات‭.‬

والكلاب‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬ألعاب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬سلاطين‭ ‬المماليك‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كانوا‭ ‬يستوردون‭ ‬الكلاب‭ ‬من‭ ‬أرجاء‭ ‬الدنيا،‭ ‬لتلعب‭ ‬أمامهم‭ ‬ألعابًا‭ ‬عجيبة،‭ ‬وكان‭ ‬ملوك‭ ‬الدنيا‭ ‬يقدّمون‭ ‬إليها‭ ‬وإلى‭ ‬مدربيها‭ ‬الهدايا‭ ‬القيمة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬يلعبون‭ ‬لعبة‭ ‬البغبغان،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬ألعاب‭ ‬السيرك،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفنانين‭ ‬اسمهم‭ ‬الببغاوية،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬يلعبون‭ ‬مع‭ ‬الببغاء،‭ ‬ويكلمونه‭ ‬بمختلف‭ ‬اللغات،‭ ‬وقد‭ ‬أخذهم‭ ‬السلطان‭ ‬العثماني‭ ‬سليم‭ ‬الأول‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬القسطنطينية‭ ‬بعد‭ ‬غزو‭ ‬مصر‭.‬

وهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يلعبون‭ ‬بالكباش‭ ‬والماعز‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحيوانات،‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬نطاح‭ ‬الكباش‭ ‬وله‭ ‬مسابقات‭ ‬وهوايات،‭ ‬وكان‭ ‬أيضًا‭ ‬لعب‭ ‬الديوك‭ ‬وصراعها‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬الشعبية،‭ ‬وهذا‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬تدريب‭ ‬الحيوان‭ ‬والطير‭ ‬على‭ ‬ألعاب‭ ‬تختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬وعصورها‭.. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬السيرك‭ ‬العالمي،‭ ‬وهذا‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬الثقافة،‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬الافتراء‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬الغرب،‭ ‬ولكنني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لأنّني‭ ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬تاريخًا‭ ‬للسيرك‭ ‬العالمي،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬لم‭ ‬أقرأه،‭ ‬وما‭ ‬أعلمه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أكتبه‭ ‬لك،‭ ‬وقد‭ ‬علمت‭ ‬ممّا‭ ‬قرأت‭ ‬أن‭ ‬الملوك‭ ‬والسلاطين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كانوا‭ ‬يطلبون‭ ‬الحيوانات‭ ‬المفترسة،‭ ‬والحيوانات‭ ‬والطيور‭ ‬المستأنسة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السيرك‭ ‬الذي‭ ‬يذهب‭ ‬أولادنا‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬ليحصلوا‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬فيه‭.‬

قضية‭ ‬أخرى‭ ‬أخطر‭ ‬وأعظم،‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬الكتاب،‭ ‬فصلوا‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬العلم‭ ‬والتعليم،‭ ‬وجعلوه‭ ‬قضية‭ ‬ثقافية‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يقرؤون‭ ‬ولا‭ ‬يكتبون،‭ ‬عجائب‭ ‬وغرائب،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬اهتمامات‭ ‬المثقفين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬اهتمامات‭ ‬المتعلمين؟‭ ‬إن‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬تقديم‭ ‬الكتاب‭ ‬للمتعلمين‭ ‬حتى‭ ‬نثقفهم‭ ‬ونوعّيهم‭ ‬ونحضرهم،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬وزارة‭ ‬المعارف‭ ‬العمومية‭ ‬تقوم‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬اختصاصات‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تهتم‭ ‬بالمثقفين‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬القارئين‭ ‬الكاتبين،‭ ‬وتقول‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لها‭ ‬بقراءة‭ ‬أو‭ ‬كتابة‭.. ‬لدرجة‭ ‬أنهم‭ ‬جعلوا‭ ‬مطربًا‭ ‬شعبيًا‭ ‬يدعى‭ ‬متقال‭ ‬قناوي‭ ‬‭(‬رحمه‭ ‬الله‭)‬‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬المثقفين‭! ‬القضية‭ ‬خطيرة،‭ ‬أخطر‭ ‬مما‭ ‬نتصور،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أهاجم‭ ‬الفن‭ ‬الشعبي‭ ‬العظيم‭ ‬أو‭ ‬فنانيه،‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬يمثل‭ ‬ثقافة‭ ‬بلادنا،‭ ‬لأن‭ ‬المواهب‭ ‬يمنحها‭ ‬المولى‭ ‬جل‭ ‬علاه‭ ‬للموهوبين،‭ ‬ولكن‭ ‬الثقافة‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬يرتبط‭ ‬بالعلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والدراسة،‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬الكوميدي‭ ‬علي‭ ‬الكسار‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‭ ‬أميّا‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬ولا‭ ‬يكتب‭ ‬إلا‭ ‬بالكاد،‭ ‬ولكنه‭ ‬قدم‭ ‬لنا‭ ‬أعظم‭ ‬الأدوار‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح،‭ ‬ودخل‭ ‬في‭ ‬مباراة‭ ‬مسرحية‭ ‬رائعة‭ ‬مع‭ ‬نجيب‭ ‬الريحاني،‭ ‬وقد‭ ‬اكتسب‭ ‬الكسار‭ ‬ثقافة‭ ‬رفيعة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مواهبه‭.‬

نريد‭ ‬أن‭ ‬نفرق‭ ‬بين‭ ‬الموهبة‭ ‬والثقافة،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬في‭ ‬غيبة‭ ‬العلم‭ ‬والتعليم‭ ‬والثقافة،‭ ‬وجعلت‭ ‬لبلادنا‭ ‬وزارات‭ ‬للثقافة‭ ‬بلا‭ ‬علم‭ ‬أو‭ ‬تعليم،‭ ‬ولم‭ ‬ينبغ‭ ‬كبار‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬خلال‭ ‬الجيل‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬إلا‭ ‬بالعلم‭ ‬والتعليم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬القضية‭ ‬أخطر‭ ‬ممّا‭ ‬نتصوّر،‭ ‬لأنها‭ ‬قضية‭ ‬التقدم‭ ‬أو‭ ‬التخلف،‭ ‬وليست‭ ‬قضية‭ ‬وجود‭ ‬وزارات‭ ‬للثقافة‭ ‬أو‭ ‬إلغاء‭ ‬هذه‭ ‬الوزارات،‭ ‬القضية‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬ثقافة‭ ‬بلا‭ ‬علم‭ ‬لا‭ ‬تساوي‭ ‬شيئًا،‭ ‬وأن‭ ‬علما‭ ‬بلا‭ ‬ثقافة‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬شيئًا،‭ ‬قضية‭ ‬خطيرة‭ ‬هي‭ ‬ميزان‭ ‬التقدم‭ ‬الذي‭ ‬نريده،‭ ‬ومن‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬كفتان‭ ‬للميزان‭ ‬وهما‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬يستطيع‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل‭ ‬والأحسن،‭ ‬ويستطيع‭ ‬أن‭ ‬يدوس‭ ‬بقدميه‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬التخلف‭.‬

كاتب‭ ‬من‭ ‬مصر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.