ثقافة غربية ومنتجات شرقية
ثمة مشكلة كبيرة في التعامل مع الثقافة الغربية. فمهما حاولت البحث عن بدائل متاحة، فإنك تصطدم بقلة الخيارات. هناك كم هائل ومتنوع للنتاج الثقافي في الغرب، وخصوصا باللغة الإنكليزية، يضيّق على المهتم خياراته مهما كان عازما على العثور على بدائل.
لنفترض جدلا أن مهتما عربيا أراد أن يكسر سيطرة المركزية الغربية على الثقافة في العالم. عليه ان يقرر مقاطعة الكتب الصادرة باللغات الأوروبية وأن يتوقف عن مشاهدة أفلام هوليوود ومسلسلاتها وأن يقاطع موسيقى البوب وأن يعتبر السينما والمسرح في أوروبا نتاجا يرتبط بذكريات الاستعمار. عليه أن يهمل اللغة الإنكليزية باعتبارها لغة غربية وليست لسان العالم اليوم. فما هي خياراته؟
ربما نضع النتاج القادم من افريقيا جانبا باعتباره يعاني من أزمات تشبه أزمات الثقافة العربية. الخيارات القادمة من أفريقيا قليلة جدا.
أول ما يخطر على الذهن هو الشرق البعيد: الصين واليابان وكوريا الجنوبية وبقية النمور الآسيوية. ما سيسترعي انتباه المهتم هو فكرة الاستبدال الثقافي الديني التي اثرت بشكل كبير على الثقافة القادمة من اندونيسيا وماليزيا مثلا. فخلال ربع القرن الماضي حلت ثقافة اسلامية شرق أوسطية بدلا من ثقافات تلك البلاد وتراجع الإنتاج الثقافي فيها إلى درجة انه اصبح ظلالا لمشهد صعود التدين في الشرق الأوسط.
بلاد الفيض الإنتاجي التقني والصناعي والعمراني، في الصين واليابان وكوريا الجنوبية، تستطيع ان ترسل لك كل شهر هاتفا جديدا بتقنيات عالية وسلعا لا أول لها ولا آخر من تلفزيونات وسيارات وصواميل. لكن كم فيلما صينيا وصلنا، وماذا كانت نوعية هذه الأفلام؟ نتذكر جيدا أفلام الاساطير المبهرة والتي يقفز فيها الأبطال ويرمون الخناجر فتصيب بأدق من طلقات البنادق. ألوان مذهلة وملابس نظيفة وفتيات بوجوه أشبه بما نتخيله من وجوه الملائكة. وينتهي الأمر. تشاهد فيلما أو فيلمين منها وتكون قد شاهدت كل هذه الأفلام تقريبا. أفلامهم أشبه بنقوش المزهريات والسنادين واللوحات الفنية حيث البركة والقصب والسمكة البرتقالية، تكرار في تكرار.
لا اعرف كم وصلنا من ادب صيني. لم يحرص الصينيون على ترجمة اعمالهم إلى العربية فاهتمامهم بما يصلهم من عوائد المبيعات وليس بنشر ثقافتهم. ما وصل إلى العربية كان ترجمات محدودة هي بالأصل ترجمة عن ترجمة للغة غربية.
شعر الهايكو الياباني صرعة دخلت عالم الثقافة العربية ومرت عليه مرور الكرام. تلفزيون سوني وراديو باناسونيك أهم بما لا تصح معه المقارنة. موسيقى البوب اليابانية او الكورية هي نسخ رديئة عن البوب الغربي. تبدو تهريجا لأنها لا تنتمي إلى هدوء موسيقاهم التقليدية التي ما ان تسمعها حتى تتذكر ينابيع المياه والعصافير. هل يذكر من يقرأ هذا المقال اسما ادبيا كوريا واحدا؟
لعل الاستثناء هو ثقافة المانغا والانيمي اليابانية والتي تقدم الرسوم المتحركة والمجلات المصورة بسخاء إلى المتلقين. إنها ثقافة البطل غريندايزر.
نحن بالكاد نعرف شيئا عن تلك المجتمعات، فكيف بمتابعة ثقافاتها.
الإغراء الثاني هو الشرق الأوروبي، وروسيا تحديدا. هذه القوة الصاعدة عسكريا واقتصاديا لديها ثقافتها وسينماها وموسيقاها وتشكيلها. الاتحاد السوفييتي، الأب الروحي لروسيا اليوم التي تذكر بروسيا القيصرية، كان حريصا على نشر ثقافته كجزء من المشروع الأيديولوجي الماركسي. كان بوسعك الحصول على العشرات من الروايات لكتاب سوفييت بلا مقابل تقريبا من السوق او من المراكز الثقافية السوفييتية في العواصم العربية. أي محاولة للخروج عن النطاق الروائي كانت تصطدم بكتب بخطاب أيديولوجي لا يذكر إلا بالخطاب الديني: الشيوعية هي الحل. الأفلام كانت ملحمية. الغناء حماسي. الفن لغاية سياسية.
مشكلة النتاج الثقافي الروسي اليوم أنه امتداد للحقبة السوفييتية. فكما ان الميغ والسوخوي قد تم تصميمهما في مختبرات سوفييتية، فإن الروسي اليوم استبدل النزعة الماركسية الشيوعية في الثقافة بنزعة قومية روسية حاضرة بقوة في معظم النتاج الثقافي. ما يشذ عن القاعدة هو ذلك الذي يحاكي المواصفات الغربية فيصبح نسخة بصرية ونصية مدبلجة عن شيء يذكرك بفيلم فرنسي او كتاب الماني.
هل ثمة ضرورة للحديث عن تأثير الثقافة الهندية على العالم العربي؟ من لديه الصبر لأن يستكمل فيلما هنديا طويلا أو أن يستمر بسماع الغناء الهندي أو الرقص المصاحب له؟
ما نعرفه عن النتاج الثقافي التركي تلخصه المسلسلات التركية المدبلجة التي لا تنتهي والمقطوعات الموسيقية التي يسرقها ملحن عربي بين حين وآخر ليدمجها في فيديو كليب. هل ثمة من يريد ان يجرب كآبة المنتج الثقافي الإيراني؟
لا بد من الاعتراف ان كل ما كتب اعلاه فيه الكثير من التعميم، بل والإجحاف. ولكن نحن امام واقع يحتاج إلى ساعات وساعات من النتاج التلفزيوني وإلى أرفف تملأ بالكتب التي تحمل معنى وإلى شاشات سينما تروي قصصا اجتماعية وليس فقط دعاية قومية او مغامرات مع تنين آسيوي. لا مفر من التعميم.