ثقافة فهم النص الأدبي
لا شيء منتجٌ على المستوى الأدبي كنصٍّ مكتوب مثلاً لا يحتاج إلى مقدرةٍ قادرةٍ على فهمه وهذه المقدرة هي المنظومة الكتابية التي يتمتّع بها هذا النصّ عن سواه من النصوص الأدبية، وإذا ما اعتبرنا إن النصّ المكتوب الذي تتمُّ قراءته يشبه أسئلة الامتحان التي تتطلّب فهماً مسبقاً لقصدية السؤال، حتى قيل إن معرفة السؤال نصف الإجابة.. فإن النصّ في هذه الحالة لا يعدّ رسالةً موجهةً فقط لاحتوائها على منظوماتٍ معرفيةٍ بل إنه أصبح مركّباً من الفهم والرسالة وطرح أسئلةٍ جديدةٍ تتطابق مع حالة القارئ من جهةٍ وثقافته ومعرفته بالمستويات الكتابية أو خلاصة التجربة الكتابية من جهةٍ أخرى.. وكما قيل في تعريف النصّ من أنه «ذو منظومة معرفيّة تتأسّس على المعرفة، والجانب النفسيّ والعاطفيّ، ويعرف النصّ الأدبيّ بأنه متن الكلام الذي يعبر الأديب عن مشاعره، وما يجول بخاطره، ويكون ذلك واضحاً في النصوص الأدبية المتنوعة، وهي: القصة، والرواية، والشعر بجميع أشكاله، والخاطرة، والمقال، والمسرحية، والخطب بجميع أنواعها» فهنا ندرك أن متلقّي النصّ يحتاج إلى ثقافةٍ قادرةٍ على سبر أغوار النصّ إذا ما اعتبرها بديهية.
إن المنتج له ثقافةٌ واعيةٌ بأهمية ما أنتجه من نصٍّ لأنه يريد إزاحة تراكم الغبار عن منظومة المعرفة التي يريد إيصالها إلى المتلقي لأنه، أي المنتج، يحتاج إلى المتلقي لكي يشده ويجعله متماهياً معه، ورغم أن الفلسفة المعاصرة كما يقال قد حولت النصّ من مكان انطلاقه الكتابي إلى محطّة عبورٍ إلى لا شيء على اعتبار أن المعنى لم يعد له وجود وصار مكانه اللامعنى.. لكنها، أي الفلسفة، تقرّ من جهتها بأن «وجودَ المعنى أصبحَ يعني البحثَ والمغايرةَ والاختلافَ المستمرَّ، فالنّصوصُ -أياً كانتْ- نسيجٌ من الاستعاراتِ والتشبيهاتِ، فهي شفراتُ مفاهيمٍ وليستْ بمفاهيم، وتراكماتٌ مجازيةٌ وليست بحقائق» وهي بذلك تستشهد برأي نيتشه.
إن النصّ الأدبي أصبح متداخلاّ حتى في الشعر لأنه نصٌّ معرفيٌّ ذائقي الهدف، يتمتّع بلذّة التلقّي ودهشة المعنى وإصرار المنظومة على رسم ملامحها المتخيّلة، وهو لا يفرق ولا يفترق عن النصّ السردي الذي يحتوي على كلّ ملاذات الهيمنة على الأسلوب من جهةٍ، وما يلي الأسلوب من معرفة الجانب التأويلي والتحليلي والفلسفي الذي يتمتّع به النصّمن جهة أخرى.. وهو أيضا، أي النصّ الجيّد، قادرٌ على إملاء فراغات ثقافة المتلقّي الباحث عن شيءٍ جديدٍ في علاقات مع القراءة باعتبار إن النصّ هو مهمةٌ قرائيةٌ يبحث من خلالها عن معنىً له ذاتٌ محدّدةٌ وتفكيرٌ له اتجاه مرسومٌ وتقصّ له حفريات موثقة وولادةٌ لها تنمية مستدامة واكتمالٌ له عناصر جذبٍ أخرى مهمتها طرح أسئلةٍ موازيةٍ لمعنى النصّ.. وإذا ما أخذنا قول بارت باعتبار النصّ يشبه الجسد فإننا نذهب أبعد من ذلك إلى أن النصّ جزءٌ من مكنونٍ حياتيٍّ يبحث عن شهيته في تفاصيل الجمال ويريد بفهمه إزالة القبح فيما يواجهه في هذا الكون، باعتبار النصّ كذلك منظومةً جماليةً معرفيةً ثقافيةً.. ولهذا نرى أن قول بارت إن النصّ يشبه الجسد وتحديداً الجسد الأنثوي على أساس وجود اللّذّة فيه فإنه بهذا يخلص إلى مخيّلةٍ مشبعةٍ بالغرائز في حين أنه نصٌّ مشبّعُ بالدلالات الجمالية حتى لو ناقش موضوعةً دينيةً أو فهماً قبيحاً أو واقعاً مظلماً.
وهنا يتم طرح سؤالٍ أو أسئلةٍ أخرى:
إنّ مثل هذا القول يعني وجود قارئٍ واحدٍ قابلٍ لتدارك كلّ هذه المصطلحات وبالتالي يكون هو معادلاً موضوعيّاً لكلّ القرّاء، وإنه، أي القارئ، لا يستقيم معه النصّ إلّا بحضوره، وإنه قارئٌ غير متعدّد وإنّ الجميع لهم ذات القدرة على تفكيك المنصّات التي ينطلق منها النصّ الأدبي دون النظر إلى مقولة أن النص الأدبي بالإمكان أن يتأثّر بالحقل الاجتماعي الذي يترك قدرته ومجسّاته وقابلياته التفكيكية وبالتالي بصمته على النصّ، لأنه يدرك أن هذا النصّ الأدبي هو نصٌّ متخيّلٌ يريد إعادة تشكيل الأشياء من أجل صنع الجمال، لإعطاء بعدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يتأثّر بالبنية الثقافية التي حملها النصّ لإنتاج بنيةٍ جديدةٍ وبالتالي تأييداً لقول إن «البنية العقلية والثقافية والاجتماعية للنصّ الأدبي منفصلةٌ ومختلفةٌ تماماً عن المحيط الاجتماعي».
إن النصّ الأدبي بطبيعته يريد التأثير بعد التأثّر للوصول إلى مرحلة المغايرة وبالتالي لا يمكن عدّه «فراغاً» لأن الفراغ لا ينتج ما يمكن تسميته بإعادة تشكيل الأشياء التي يبغيها بجماليةٍ جديدةٍ حتى لو كانت مستوحاةً من الحزن أو الحرب أو الكآبة أو التعاسة أو حتى الاشمئزاز، وحتى لو كان النصّ ساخراً أو منتقداً أو منتقصاً، لأن مهمة النصّ تخيّل واقعٍ ورسمه من جديدٍ وتقديمه إلى القارئ بهدف إعادة رسم المقاصد والتأويلات من جديدٍ على وفق ثقافة ووعي المتلقي، وهو أمرٌ مختلفٌ ومتناوبٌ ونسبيٌّ بين قارئٍ وآخر.. ولهذا فإن ثقافة تلقّي النصّ لا تعني وجوباً الاعتراف بأنه صار يؤدّي إلى فراغٍ أو إنه صار محطّة عبورٍ إلى «لاشيء» باعتبار أن المفهوم الآخر المستخلص من هذه المحطّة هو أنه «لم يَعُد للمعنى وجودٌ أصلاً» وهنا يعني أن النصّ تم تفريغه من المعنى وحصره وتضييق الخناق عليه، وأما أنه غير جيّدٍ أو إعطاء هذا المعنى للقارئ كي ينفرد بإملاء الفراغ أو إيجاد معنىً آخر له.
إن هذا الرأي كما نرى قد يكون متأثّراً بالنسق الاجتماعي وهو نسقٌ قد يكون متأثّراً بالمجمل بالعواطف والدلالات الاجتماعية والأعراف والمُثل العليا والسفلى وحتى العداوات وغيرها من مثالب مواجهة النصّ مع النسق الاجتماعي.. وما ذهب إليه النقاد الأوربيون جاء لأن هذا النسق الاجتماعي لم يعد له وجودٌ في الكينونة الثقافية، ولهذا يمكن تطبيق النصّ على أنه نسقٌ ثقافيٌّ له قابلية على التحكّم بطرائق العبور إلى المعنى من أجل إيصال نقطة المتخيّل في النصّ إلى خطّ الشروع في التلقّي لاستلهام مادة النصّ داخلياً من خلال المعطيات التي يراد إعادة تركيبها من جديدٍ والتي مهّد لها الكاتب أو منتج النصّ لتكون قصدياته المتعدّدة وواحته الفلسفية المراد أن يضخّها في روح النصّ.. وإذا ما أخذنا النصّ المقدّس كونه نصّاً سماوياً، فإنه بالتأكيد لا يمكن الأخذ بمقولة إنه يؤدي الى فراغ أو «لاشيء» لأن النصّ السماوي المنزّل كالقرآن مثلا هو ذاته قابلٌ للتأويل وتعدّد مصادر التفسير والفقه رغم أن الدراسات الإسلامية اهتمت بالعلوم الدينية ولم تهتم بالنصّ كوعيٍ وثقافةٍ، وهو الأمر الذي أدى إلى تغيير المنطق دون النفاذ إلى خاصيّة النصّ وثقافة تلقيه.
النصّ الأدبي أصبح متداخلاّ حتى في الشعر لأنه نصٌّ معرفيٌّ ذائقي الهدف، يتمتّع بلذّة التلقّي ودهشة المعنى وإصرار المنظومة على رسم ملامحها المتخيّلة، وهو لا يفرق ولا يفترق عن النصّ السردي الذي يحتوي على كلّ ملاذات الهيمنة
وهذا يقودنا أيضا إلى أسئلةٍ أخرى من نوعٍ آخر: هل هناك براءةٌ في النصّ وإنتاجه؟ وهل هناك براءةٌ في التلقّي؟ أم إن النصّ يحمل أدوات اكتماله مثلما تتوافر هذه الاكتمالية في التلقّي؟ وهل النصّ يخرج من توصيفه التعريفي إلى توصيفٍ آخر هو الخطاب إذا ما صار له متلقٍ يتلقّف دلالاته وعناصر تكوينه؟
لا بد لنا أولا من القول إنه لا نصّ بريءٌ مثلما لا تلقٍّ بريءٌ أيضا ولا تكمن البراءة في عناصر المواجهة بل في اختلاف التلقّي والوعي والثقافة سواء من منتج النصّ أو متلقيه.. البراءة هنا ليست لها علاقة بالجانب الأخلاقي وإن كانت العوامل الاجتماعية متداخلة مع الوعي والثقافة من متلقٍ إلى آخر ومن منتجٍ إلى آخر لأن كليهما خرجا من بيئاتٍ مختلفةٍ لا تتساوى مع البيئات الأخرى.. النصّ روح يبحث عن جسدٍ كما قلنا ولكن المشكلة تمكن في آليات هذا النصّ بمعنى متى يكون نصّاً قابلا للتلقّي وكيف يكون خطاباً قبل التلقّي؟ وهل إذا تحوّل من الإنتاج إلى المتلقّي صار خطاباً أم إن النصّ يبقى نصّاً حتى لو استلمه المتلقي؟
الأسئلة العديدة التي أرسلها النقاد عبر تعاريفهم لا يمكن الركون إليها وحدها لأنها بحسب المفهوم اللغوي لكلمة «نص» في لسان العرب «النَّصُّ: رفْعُك الشيء. نَصَّ الـحديث يَنُصُّه نصّاً: رَفَعَه. وكل ما أُظْهِرَ، فقد نُصَّ» أما مفهوم النصّ اصطلاحا «الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي يتألف منها الأثر الأدبي» ولكنه أيضا من جهةٍ أخرى يقال إنه «عينة من السلوك الألسني وإن هذه العينة يمكن أن تكون مكتوبة أو منطوقة». وهنا يكون رأي من يتحدّث عن أن النصّ إذا كان بين دفّتين دون متلقٍّ فهو نصٌّ وإذا استمله متلقٍّ تحوّل إلى خطابٍ في حين نرى أن النصّ هو تلك العلامات التي يراد لنا إرسالها عبر فكرةٍ ما أو تلخيصٍ لحالة استجوابٍ لموضوعةٍ معيّنة أو إنه بثّ أسئلةٍ جديدةٍ، والنصّ عبر عدم براءته هو الذي يمكن أن يكون نصّاً كما هو عليه ويكون خطاباً أيضا لأن الخطاب رسالةٌ ولا يمكن للخطاب أن يكون بدون متلقٍّ ولا النصّ له فائدة دون متلقٍّ أيضا.
إن هذه المعادلة قد لا تكون هي الأخرى بريئةً لأنها ربما تنحاز إلى منطقةٍ دون أخرى وبالتالي لا تشكّل معياراً واضحاً لمفهوم الوعي والتلقّي في منهجها الثقافي لأن الانحياز يعني القفز على معيارية الثقافة وربما تصل إلى محو نقطة الالتقاء بين النصّ كمفهومٍ منتجٍ وبينه كمفهوم تلقٍّ مثلما قتل روح النصّ الباحث عن جسدٍ لاكتمال بلوغه في وعي المتلقي.
إن النصّ هو الخطاب وقد عرّفه الكثيرون من أنه «رسالة تواصلية إبلاغية متعددة المعاني تصدر عن باث (المخاطب) موجهة إلى متلق معين عبر سياق محدد، وهي تفترض من متلقيها أن يكون سامعا لها لحظة إنتاجها، ولا تتجاوز سامعها إلى غيره»، وهنا تكمن لحظة التنوير الأولى التي تتوافر في عملية الاستلام والتلقّي وثقافة الفهم، وبالتالي فإن أيّ عملية إزاحة قد تبدو وفق المعادلة الآنفة تضرّ ليس بمفهوم النصّ بل بثقافة التلقّي التي لا يمكن بدونها أن تكون الرّوح، أيّ النص، قابلة على الديمومة والبقاء والتحليق وإن اختلفت حالات التلقّي في تعدّد قراءتها واستلامها للشفرات وهو ما يعني أن ما قيل عن النصّ يمكن أن يقال عن الخطاب، مع الاحتفاظ بعدم تشابه الولادة كتوأمٍ إنتاجي أو توأم تلقٍّ لأنهما وإن اختلافا في اتجاه البذرة الأولى وحرثها لكنهما يلتقيان في لحظة التحلّي بوعي اللحظة المنتجة للمفهوم.
إن النص إذا ما أخذناه من جانب أنه «تلك الرسالة أو التتابع الجملي الذي يهدف إلى عرض تواصلي، ولكنه يوجه إلى متلق غائب، ويثبت بالكتابة، كما يتميز بالديمومة،ولهذا تتعدد قراءات النص، وتتجدد بتعدد قرائه، ووجهات النظر فيه، ووفق المناهج النقدية التي يقرأ بها، ويعنى بوصف العلاقات الداخلية والخارجية لأبنية النص بكل مستوياتها علم النص»، وهنا يكون الارتباط بعلم النصّ تحديداً والذي تتفرّع منه الألسنية والأسلوبية والسيميائية لكنه أيضا يمكن له الخروج عن وحدة الصفّ إذا ما عرفنا أن المتلقّي هو الذي يودع النصّ في جسد التأويل وليس شخصاً آخر حتى المنتج للنص نفسه، لأن المنتج صنع النصّ ونفخ روحه وتركه في الفضاء الدلالي له ويأتي القارئ هنا ليضع الروح في جسد تلقّيه ويحوّله إلى خطابٍ قادرٍ على الاستمرارية أو قتله ووأده، لأنه المتحكّم في صناعة الجسد والروح معا وهنا لا نعني المتلقّي البسيط بل هو القادر على فهم علامات النصّ ودلالاته ووفق أيّ اتجاهاتٍ كان ينتهج طرق صنعته.
ولهذا نرى أيضا أن النصّ والخطاب يحملان القدرة على التأويل وإنتاج القصد وبث الروح في المعنى ونقطة التقاء بين تفكيك الوعي وجمع المعنى ولكنهما أيضا لا يخرجان من عدم البراءة وخاصة المتلقّي الذي قد يبتعد عن قصديات النصّ التي ابتدعها المنتج ليزيّن بها مفعول التأويل وفلسفته ولا حتى براءة النصّ لأن منتجه ربما أراد فيها مخاتلة الذائقة.
وإن ما يمكن الوصول إليه في مفهوم النصّ أنه روحٌ تحتاج إلى جسدٍ كي يكتمل، والجسد هنا متعدّد العقول مثلما هو النصّ متعدّد مفاتيح التأويل، لأننا لا يمكن أن نعيش بمعزلٍ عن النصّ كونه الوسيلة الأكثر انفتاحاً على مفاهيمنا سواء منها الثقافية أو الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية. فكلّ ما حولنا عبارة عن نصٍّ له روحٌ وما العقل المقابل الذي يقوم بتأويل أو تفكيك أو رسم ملامح القصدية إلّا باعتباره الجسد الذي يحوّل ما يقال عنه بالفراغ إلى كائنٍ حيٍّ تمكن الإشارة إليه من قبل القارئ ذاته والاحتفاظ بأسئلته التي قلنا عنها إنها تولد من النصّ الذي لم يعد رسالةً موجهةً بل هو باثٌّ لأسئلةٍ جديدةٍ يمكن أن تولد نصوصاً أخرى في حقولٍ معرفيةٍ أخرى، موازيةً أو متشابكةً أو منفصلة لأن المعرفة أثرٌ يتبع أثراً.
وهو ما يقودنا أيضا إلى القول إن ما يمكن أن نقوم به في طرح ثقافة النصّ، أنه لا يتأسّس على اللامعنى بل على المعنى المراد الوصول إليه وإن كان ذلك غير متاحٍ لأن لا حقيقة ولا ثباتٍ في المعنى، ولكن وجود التضادات في النصّ لا يعني أنه محمّلٌ بأكثر من منظومةٍ فكريةٍ، ولهذا أعتقد أن مثل هذا القول أخذ على كلّ النصوص وجمعها دفعةً واحدةً ونحن نتحدّث عن النصّ الواحد الذي تتمّ قراءته.. وهنا لا يغيب تحصيل معنى النصّ ومنظومته الثقافية عن الفهم، وإذا ما أساء المنتج لمفهوم النصّ كان الحاصد سلبياً ومشوّهاً ومؤثّراً على الثقافة وثقافة الاستلام لهذا النصّ أو ذاك.