ثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الزلزال

الثلاثاء 2016/03/01
تخطيط: فيصل لعيبي

إذن، فتلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬الشعبية‭ ‬الواسعة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬انطلاقتها‭ ‬وليدة‭ ‬عوامل‭ ‬خارجية،‭ ‬لكنّ‭ ‬العوامل‭ ‬والتدخلات‭ ‬الخارجية،‭ ‬الإقليمية‭ ‬منها‭ ‬والدولية،‭ ‬نتيجة‭ ‬عدم‭ ‬توفر‭ ‬أو‭ ‬قصور‭ ‬العوامل‭ ‬الذاتية‭ ‬الضامنة‭ ‬لنجاح‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات،‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬خطّها‭ ‬لتفعل‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬حرفها‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭ ‬الطبيعي‭ ‬وتشويه‭ ‬هويتها‭ ‬واغتيال‭ ‬أهدافها،‭ ‬وذلك‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالح‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬والجهات‭ ‬الأجنبية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬لتتحول‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأقطار‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬نتيجة‭ ‬فقدان‭ ‬المناعة‭ ‬المجتمعية‭ ‬وضعف‭ ‬الرابطة‭ ‬الوطنية‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬أهلية‭ ‬وإثنية‭ ‬ودينية‭ ‬ومذهبية‭ ‬مدمرة‭ ‬أضحت‭ ‬تهدد‭ ‬كيانها‭ ‬الوجودي‭ ‬كدول‭ ‬ومجتمعات‭ ‬ووحدات‭ ‬جغرافية‭ ‬وسياسية‭.‬

لقد‭ ‬مثّلت‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬بطابعها‭ ‬الشعبي‭ ‬الواسع‭ ‬وبعنفوانها‭ ‬ومطالبها‭ ‬العادلة،‭ ‬والتي‭ ‬فاجأت‭ ‬معظم‭ ‬المراقبين‭ ‬الدوليين‭ ‬والمحليين،‭ ‬زلزالاً‭ ‬عنيفاً‭ ‬هزّ‭ ‬أعماق‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬الراكدة‭ ‬والمتخلفة‭ ‬عن‭ ‬ركب‭ ‬التطور‭ ‬الحضاري‭ ‬العالمي‭ ‬عدة‭ ‬قرون،‭ ‬ووضع‭ ‬حاضر‭ ‬ومستقبل‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬أمام‭ ‬تحديات‭ ‬مصيرية،‭ ‬وأمام‭ ‬أسئلة‭ ‬ملحّة‭ ‬حول‭ ‬تفهّم‭ ‬وإدراك‭ ‬واقع‭ ‬وبنية‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الميادين‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والعلمية‭ ‬وعلى‭ ‬الأخص‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الفكر‭ ‬والوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬العام‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬بصورة‭ ‬وجيزة،‭ ‬وبما‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬المجال،‭ ‬أن‭ ‬نُحدد‭ ‬ونُشخّص‭ ‬أبرز‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬والتحديات‭ ‬المطروحة‭ ‬وأن‭ ‬نحكم‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬بالكفاءة‭ ‬المطلوبة‭ ‬معها،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬لنا‭ ‬أولاً‭ ‬أن‭ ‬نتعرف‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬واجه‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬وعلى‭ ‬كيفية‭ ‬استجابته‭ ‬للمهمات‭ ‬وللأسئلة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬طرحتها،‭ ‬أي‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬وعياً‭ ‬علمياً‭ ‬وعقلانياً‭ ‬يستجيب‭ ‬لمهمات‭ ‬إصلاح‭ ‬وتطوير‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬فالمعروف‭ ‬أن‭ ‬بنية‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬اتحاد‭ ‬وتركيب‭ ‬نوعي‭ ‬لثلاثة‭ ‬مصادر‭ ‬أو‭ ‬مكوّنات‭ ‬أساسية،‭ ‬أولها‭ ‬وعي‭ ‬الواقع‭ ‬الموضوعي‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬بكل‭ ‬أبعاده،‭ ‬وثانيهما‭ ‬الخلاصة‭ ‬التي‭ ‬تزوّد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬طريقة‭ ‬ومنهج‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬وتعاملنا‭ ‬معه‭ ‬باعتباره‭ ‬ما‭ ‬يزال،‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬يسكن‭ ‬فينا،‭ ‬وثالثها‭ ‬نتائج‭ ‬انفتاحنا‭ ‬على‭ ‬سيرورة‭ ‬تطوّر‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬وتفاعلنا‭ ‬معه‭ ‬أخذاً‭ ‬وعطاءً‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭ ‬وثورة‭ ‬المعلومات‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬المعرفة،‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬واحدة‭ ‬وحمل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬بقاع‭ ‬المعمورة‭ ‬إنجازاته‭ ‬واكتشافاته‭ ‬النوعية‭ ‬المتواصلة‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬الإيجابية‭ ‬والسلبية،‭ ‬إنّ‭ ‬مراجعة‭ ‬عامة‭ ‬لمسار‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬العربي‭ ‬تبين‭ ‬لنا،‭ ‬كما‭ ‬يتفق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬معظم‭ ‬المؤرخين‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬السياسي‭ ‬العرب‭ ‬وكذا‭ ‬جل‭ ‬المستشرقين‭ ‬المحايدين،‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الحقب‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬مرّ‭ ‬بها‭ ‬يتسم‭ ‬بحالة‭ ‬فقر‭ ‬دم‭ ‬وبالشحوب‭ ‬والضعف‭ ‬المستديم،‭ ‬فالعرب‭ ‬لم‭ ‬يبلغوا‭ ‬شأوا‭ ‬متميزاً‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬ونظم‭ ‬الحكم‭ ‬والفلسفة‭ ‬والاجتماع‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬شأنهم‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬وحقول‭ ‬الحضارة‭ ‬الأخرى،‭ ‬وذلك‭ ‬مقارنة‭ ‬بما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬أحوال‭ ‬الشعوب‭ ‬والدول‭ ‬التي‭ ‬سبقتهم‭ ‬أو‭ ‬عاصرتهم‭ ‬أو‭ ‬أتت‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬إمبراطوريتهم‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وانقسامها‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬سلطانية‭ ‬وممالك‭ ‬وولايات‭ ‬وإمارات‭ ‬ضعيفة‭ ‬ومتناحرة‭ ‬واستمرت‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬حتى‭ ‬مطالع‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬القومية‭ ‬الحديثة‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬التي‭ ‬أيقظتها‭ ‬الصدمة‭ ‬الحضارية‭ ‬الأوروبية‭ ‬لمجتمعاتنا‭ ‬الراكدة‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬غزو‭ ‬واحتلال‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬يعكسها‭ ‬مسار‭ ‬التطور‭ ‬التاريخي‭ ‬ولا‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬مصداقيّتها‭ ‬تلك‭ ‬المحطات‭ ‬المضيئة‭ ‬المحدودة‭ ‬والمحاولات‭ ‬المتفرقة‭ ‬والمتباعدة‭ ‬المتمثلة‭ ‬بابن‭ ‬رشد‭: ‬فصل‭ ‬المقال‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬الحكمة‭ ‬والشريعة‭ ‬من‭ ‬الاتصال،‭ ‬ومدينة‭ ‬الفارابي‭ ‬الفاضلة،‭ ‬والأحكام‭ ‬السلطانية‭ ‬لأبي‭ ‬الحسن‭ ‬الماوردي،‭ ‬ومقدمة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬التي‭ ‬أرست‭ ‬المداميك‭ ‬الأولية‭ ‬لعلم‭ ‬العمران،‭ ‬هذه‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬محطات‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬العربي‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬درجة‭ ‬تكوين‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬القانونية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬في‭ ‬مجموعها‭ ‬إطاراً‭ ‬لتأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬وتعيين‭ ‬وظائفها‭ ‬ومرجعيّاتها‭ ‬الدنيوية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬الكلدان‭ ‬والفرس‭ ‬والإغريق‭ ‬والرومان‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أمم‭ ‬الأقدمين‭.‬

يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نُميّز،‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬ومع‭ ‬التفاوت‭ ‬الكمّي‭ ‬بين‭ ‬بلد‭ ‬وآخر،‭ ‬في‭ ‬تأريخ‭ ‬مسار‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬بنية‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬والغايات‭ ‬التي‭ ‬استهدف‭ ‬بلوغها،‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل‭ ‬متعاقبة‭:‬

مرحلة‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح،‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬رفاعة‭ ‬رافع‭ ‬الطهطاوي‭ ‬وخيرالدين‭ ‬التونسي‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعوتهم‭ ‬لتطوير‭ ‬اللامركزية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬العثمانية‭ ‬وإدخال‭ ‬بعض‭ ‬الإصلاحات‭ ‬وأوجه‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬اقتباساً‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬ولمّا‭ ‬كان‭ ‬مصير‭ ‬تلك‭ ‬الدعوات‭ ‬التجاهل‭ ‬والرفض‭ ‬التام‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نزعة‭ ‬التتريك‭ ‬الطورانية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬مقاليد‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬الكفاح‭ ‬التحرري‭ ‬للشعوب‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬المطالبة‭ ‬بالاستقلال‭ ‬التام،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يركّز‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الاستقلال‭ ‬والحرية‭ ‬وأن‭ ‬يعيد‭ ‬الثقة‭ ‬لها‭ ‬بتاريخها‭ ‬المجيد‭ ‬وماضيها‭ ‬الزاهر‭ ‬فكانت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بحق‭ ‬مرحلة‭ ‬الإحياء‭ ‬القومي‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ركّز‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بطرس‭ ‬البستاني‭ ‬وجورجي‭ ‬زيدان‭ ‬وفرح‭ ‬أنطون‭ ‬ومحمد‭ ‬عبده‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الكواكبي‭ ‬وغيرهم،‭ ‬ومطلب‭ ‬الاستقلال‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أكدت‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬إنجازه‭ ‬خريطة‭ ‬الطريق‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬خلاصة‭ ‬أعمال‭ ‬المؤتمر‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬انعقد‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1913‭‬.

فما‭ ‬يزال‭ ‬الكثيرون‭ ‬يميزون‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬والدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والدولة‭ ‬العلمانية‭ ‬متجاهلين‭ ‬عن‭ ‬قصور‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وهي‭ ‬نفسها‭ ‬الدولة‭ ‬العلمانية‭

المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬مرحلة‭ ‬الكفاح‭ ‬الوطني‭ ‬للتخلّص‭ ‬من‭ ‬الانتداب‭ ‬والسيطرة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬خلفت‭ ‬اقتسام‭ ‬تركة‭ ‬الرجل‭ ‬المريض،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬التصدي‭ ‬للمشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬وأخطاره‭ ‬المستقبلية،‭ ‬وقد‭ ‬تميزت‭ ‬تيارات‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ ‬فيها‭ ‬بشحنة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬طاغية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬منتظراً،‭ ‬كما‭ ‬تميزت‭ ‬بنهج‭ ‬عاطفي‭ ‬وحماسي‭ ‬متوتر‭ ‬ولم‭ ‬تتوفر‭ ‬لهذا‭ ‬الفكر‭ ‬الرؤية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬بمهمات‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬وبقضايا‭ ‬التطور‭ ‬والتنمية‭ ‬الشاملة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نغفل‭ ‬ذكر‭ ‬تلك‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الليبرالية‭ ‬المتقدمة‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭ ‬والتي‭ ‬ركّزت‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬سيادة‭ ‬قيم‭ ‬الحرية‭ ‬والعقلانية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعقلانية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬الحق‭ ‬والقانون‭ ‬والولوج‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬التقدم‭ ‬والحداثة،‭ ‬لكن‭ ‬تلك‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الليبرالية‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬لها‭ ‬النجاح‭ ‬نظراً‭ ‬للعزلة‭ ‬التي‭ ‬أحيطت‭ ‬بها‭ ‬الرموز‭ ‬التي‭ ‬حملتها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬التيارات‭ ‬الدينية‭ ‬والقومية‭ ‬والماركسية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ونظراً‭ ‬لغياب‭ ‬دور‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الواعية‭ ‬بذاتها‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬انتصار‭ ‬الدعوة‭ ‬الليبرالية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬بإيجاز‭ ‬فإن‭ ‬واقع‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مهيئا‭ ‬كي‭ ‬تنجح‭ ‬الأفكار‭ ‬الليبرالية‭ ‬في‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بدورها‭ ‬التنويري‭ ‬المطلوب‭.‬

أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أحرزت‭ ‬معظم‭ ‬الكيانات‭ ‬العربية‭ ‬استقلالها‭ ‬الوطني،‭ ‬فيمكن‭ ‬تعريفها‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬هوية‭ ‬ومهمات‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المفترضة‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬مرحلة‭ ‬السوسيولوجيا‭ ‬أي‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭ ‬بما‭ ‬يتفق‭ ‬ويتناسب‭ ‬مع‭ ‬هدف‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬حديثة‭ ‬تواكب‭ ‬روح‭ ‬العصر،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬النخب‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأحزاب‭ ‬والحركات‭ ‬السياسية‭ ‬أن‭ ‬تنجز‭ ‬في‭ ‬تركيبها‭ ‬ورؤاها‭ ‬وأساليب‭ ‬عملها‭ ‬التحول‭ ‬النوعي‭ ‬المطلوب‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬القيام‭ ‬بالمهام‭ ‬التي‭ ‬استدعت‭ ‬وجودها،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المنعطفات‭ ‬الحاسمة‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬تأسيس‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬والهزائم‭ ‬العربية‭ ‬المتتالية‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬والزلزال‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬الوضع‭ ‬الدولي‭ ‬كله‭ ‬والمتمثل‭ ‬بسقوط‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬بالمعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬فإن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بعامة‭ ‬والفكر‭ ‬السياسي‭ ‬بخاصة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬تحقيق‭ ‬عملية‭ ‬مراجعة‭ ‬شاملة‭ ‬لعتاده‭ ‬المعرفي‭ ‬بما‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬عوامل‭ ‬الإعاقة‭ ‬وأسر‭ ‬الماضي‭ ‬وينقله‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬علمي‭ ‬وعقلاني‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬تيارات‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬المعاصرة‭ ‬ويمنحه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬مشروع‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬المجهض‭ ‬وتوفير‭ ‬مقومات‭ ‬أعمدته‭ ‬الرئيسية‭ ‬المتكاملة‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتنمية‭ ‬الإنسانية‭ ‬المستدامة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتجدد‭ ‬الحضاري‭ ‬والسير‭ ‬نحو‭ ‬تكامل‭ ‬وتوحيد‭ ‬أقطار‭ ‬الأمة،‭ ‬وفي‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬والانتقال‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بعامة‭ ‬وفي‭ ‬بنية‭ ‬الوعي‭ ‬السياسي‭ ‬بعامة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬تقريباً‭ ‬ظلت‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أنظمة‭ ‬استبداد‭ ‬سلطانية‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬أنظمة‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الطابع‭ ‬العام‭ ‬للفكر‭ ‬العربي‭ ‬وللوعي‭ ‬السياسي‭ ‬الشعبي‭ ‬حينما‭ ‬انطلقت‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬قبل‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬يحركها‭ ‬حماس‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬واستعداد‭ ‬غير‭ ‬محدود‭ ‬لتقديم‭ ‬كل‭ ‬التضحيات‭ ‬المطلوبة،‭ ‬الانتفاضات‭ ‬التي‭ ‬توحدت‭ ‬في‭ ‬مطالبها‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخبز‭ ‬والكرامة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وإذا‭ ‬تجاوزنا‭ ‬هنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬سياسات‭ ‬القمع‭ ‬الوحشي‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬بها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة‭ ‬هذه‭ ‬الانتفاضات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وتجاوزنا‭ ‬أيضاً‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬مشروعات‭ ‬مختلف‭ ‬الأطراف‭ ‬الدولية‭ ‬لاستغلال‭ ‬وحرف‭ ‬مسار‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬مصالحها‭ ‬فإن‭ ‬الأولى‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نركز‭ ‬على‭ ‬تشخيص‭ ‬العوامل‭ ‬والتحديات‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬والتي‭ ‬حالت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭.‬

لعلّ‭ ‬أول‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إخفاق‭ ‬تلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬والذي‭ ‬أعاد‭ ‬طرح‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬بنية‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬هو‭ ‬المتعلق‭ ‬بما‭ ‬اصطلح‭ ‬على‭ ‬تسميتها‭ ‬بظاهرة‭ ‬جدل‭ ‬وصراع‭ ‬الثنائيات‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬وكما‭ ‬عبّرنا‭ ‬دائماً‭ ‬عن‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬حيال‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬يمكن‭ ‬حلّ‭ ‬وتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬النخب‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬وفي‭ ‬نظرة‭ ‬وبرامج‭ ‬القوى‭ ‬والأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬فلن‭ ‬يكتب‭ ‬لمختلف‭ ‬أطراف‭ ‬العملية‭ ‬التحررية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مهامها،‭ ‬وكأمثلة‭ ‬على‭ ‬صراع‭ ‬تلك‭ ‬الثنائيات‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يشل‭ ‬وعينا‭ ‬ويعطل‭ ‬ويشتت‭ ‬جهدنا‭ ‬المشترك‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬التقدم‭ ‬والرقي،‭ ‬نذكر‭ ‬هنا‭: ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬والأمة‭ ‬وما‭ ‬يستتبع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأخذ‭ ‬بمفهوم‭ ‬دولة‭ ‬الأمة‭ ‬أو‭ ‬أمة‭ ‬الدولة،‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬القطرية‭ ‬الوطنية،‭ ‬ودولة‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬وهل‭ ‬نستمر‭ ‬في‭ ‬نظرتنا‭ ‬السابقة‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنها‭ ‬تفتقد‭ ‬إلى‭ ‬المشروعية‭ ‬وعائق‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬وحدة‭ ‬الأمة‭ ‬الشاملة؟‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬المركزية‭ ‬للأمة‭ ‬ونعني‭ ‬بها‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬فهل‭ ‬ينبغي‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نجمّد‭ ‬عملية‭ ‬التنمية‭ ‬والتطوير‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬ونوجه‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬طاقتنا‭ ‬لإنجاز‭ ‬عملية‭ ‬التحرير؟‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬المسألة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فهل‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يحل‭ ‬أزمة‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬هو‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بما‭ ‬تعودنا‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬لنا‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بضاعة‭ ‬غربية‭ ‬لا‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬عاداتنا‭ ‬وتقاليدنا‭ ‬وتراثنا،‭ ‬كذلك‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬المسألة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بالذات‭ ‬فما‭ ‬يزال‭ ‬الكثيرون‭ ‬يميزون‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬والدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والدولة‭ ‬العلمانية‭ ‬متجاهلين‭ ‬عن‭ ‬قصور‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وهي‭ ‬نفسها‭ ‬الدولة‭ ‬العلمانية‭ ‬وأن‭ ‬مقومات‭ ‬وجوهر‭ ‬العملية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬واحدة‭ ‬وإن‭ ‬تباينت‭ ‬مؤسساتها‭ ‬مرحلياً‭ ‬تبعاً‭ ‬لدرجة‭ ‬تطور‭ ‬كل‭ ‬مجتمع،‭ ‬كذلك‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالدولة،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬تناقض‭ ‬وتضاد‭ ‬أم‭ ‬علاقة‭ ‬تكامل‭ ‬وتخصص‭ ‬أدوار؟‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬أي‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬منجزات‭ ‬وقيم‭ ‬وأفكار‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬وأنظمة‭ ‬الحكم،‭ ‬فهل‭ ‬الإسلام‭ ‬دين‭ ‬وثقافة‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬دين‭ ‬ودولة‭ ‬علم؟‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستنكر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬أرى‭ ‬فيه‭ ‬رائد‭ ‬العقلانية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭: ‬لا‭ ‬خصومة‭ ‬ولا‭ ‬صداقة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والعلم‭ ‬لأن‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬هدفه‭ ‬ومرجعيته‭ ‬الخاصة‭ ‬به،‭ ‬فهدف‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬الإيمان‭ ‬ومرجعيته‭ ‬القلب،‭ ‬وهدف‭ ‬العلم‭ ‬اكتشاف‭ ‬المجهول‭ ‬ومرجعيته‭ ‬العقل،‭ ‬وكذلك‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬لتلك‭ ‬الانتفاضات‭ ‬والثورات‭ ‬أن‭ ‬تنتهجه‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬لتحقيق‭ ‬الإصلاحات‭ ‬والتغييرات‭ ‬المطلوبة،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الأسلوب‭ ‬التدريجي‭ ‬الهادف‭ ‬لتكامل‭ ‬تلك‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬تصفية‭ ‬تركة‭ ‬التأخر‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بنى‭ ‬المجتمع،‭ ‬أم‭ ‬نواصل‭ ‬اعتماد‭ ‬نفس‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬انتهجته‭ ‬أحزابنا‭ ‬وأنظمتنا‭ ‬الوطنية‭ ‬طوال‭ ‬خمسينات‭ ‬وستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬ونعني‭ ‬به‭ ‬الأسلوب‭ ‬الانقلابي‭ ‬الثوري‭ ‬الذي‭ ‬يستهدف‭ ‬حرق‭ ‬المراحل؟‭ ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬انطلقت‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬أمامها‭ ‬خياران‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬بأحدهما‭ ‬إمكان‭ ‬نجاحها‭ ‬أو‭ ‬فشلها‭ ‬وهما‭ ‬استمرار‭ ‬سلميّتها‭ ‬أو‭ ‬جنوحها‭ ‬نحو‭ ‬العسكرة‭ ‬مهما‭ ‬تعددت‭ ‬مبررات‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬النتائج‭ ‬التدميرية‭ ‬والدامية‭ ‬التي‭ ‬قاد‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬هي‭ ‬أبلغ‭ ‬ممّا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجادل‭ ‬بشأنه‭ ‬اثنان‭.‬

على‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬نفسه‭ ‬اليوم‭ ‬بالسؤال‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬تطرحه‭ ‬السيرورة‭ ‬التي‭ ‬سلكتها‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬والمأزق‭ ‬المصيري‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬إليه،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬الإخفاق

لقد‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬أن‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬بسبب‭ ‬الوضع‭ ‬الداخلي‭ ‬الذي‭ ‬واجهته،‭ ‬ووضع‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬والأنظمة‭ ‬التي‭ ‬تحكمها،‭ ‬ومواقف‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬منها،‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬التأزم‭ ‬والإخفاق‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تتصدى‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والأمنية،‭ ‬لقد‭ ‬لعبت‭ ‬مختلف‭ ‬التيارات‭ ‬الشعبوية‭ ‬والانتهازية‭ ‬والإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬دوراً‭ ‬خطيراً‭ ‬في‭ ‬حرف‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭ ‬الصحيح‭ ‬وفي‭ ‬تشويه‭ ‬هويّتها‭ ‬وجرها‭ ‬إلى‭ ‬العسكرة‭ ‬والأسلمة‭ ‬والتدويل‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬سوريا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭ ‬وأمام‭ ‬تحد‭ ‬وجودي‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬واجهت‭ ‬مثيلاً‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬إن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬واجهته‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬بعد‭ ‬انطلاقتها‭ ‬هو‭ ‬افتقاد‭ ‬المجموعات‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬ادعت‭ ‬تمثيلها‭ ‬للرؤية‭ ‬الصحيحة‭ ‬لمسارها‭ ‬ولبرامج‭ ‬العمل‭ ‬المرحلية‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬وللخطاب‭ ‬المضلّل‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدته‭ ‬بواسطة‭ ‬مختلف‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬لها،‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تغذية‭ ‬وتسعير‭ ‬كل‭ ‬الروابط‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الوطنية‭ ‬والعصبيات‭ ‬المذهبية‭ ‬وتمزيق‭ ‬وحدة‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعلى‭ ‬نشر‭ ‬الأضاليل‭ ‬والأوهام‭ ‬بأن‭ ‬عملية‭ ‬إنهاء‭ ‬نظام‭ ‬الاستبداد‭ ‬الشمولي‭ ‬القائم‭ ‬وبناء‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬البديل‭ ‬هي‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬وأن‭ ‬تحقيقها‭ ‬لن‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدة‭ ‬أسابيع‭ ‬أو‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭.‬

على‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬نفسه‭ ‬اليوم‭ ‬بالسؤال‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬تطرحه‭ ‬السيرورة‭ ‬التي‭ ‬سلكتها‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬والمأزق‭ ‬المصيري‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬إليه،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬الإخفاق؟‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقتنع‭ ‬بأن‭ ‬المآل‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬هذه‭ ‬الانتفاضات‭ ‬يرجع‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬وحشية‭ ‬وإجرام‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة‭ ‬وإلى‭ ‬تواطؤ‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬وتخاذله‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬نصرتنا؟‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬فليس‭ ‬أمامنا‭ ‬إذن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نتصالح‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة،‭ ‬وأن‭ ‬نستجدي‭ ‬عطف‭ ‬ومساعدة‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستقصي‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬فشل‭ ‬انتفاضات‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬إنهاء‭ ‬أنظمة‭ ‬الاستبداد،‭ ‬وما‭ ‬هيأت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬حواضن‭ ‬لانتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬التطرف‭ ‬والإرهاب‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬خطراً‭ ‬عالمياً‭ ‬يهدد‭ ‬الجميع،‭ ‬فعلينا‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬يدنا‭ ‬على‭ ‬جراح‭ ‬مجتمعنا‭ ‬النازفة‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬للأزمة‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬تحيق‭ ‬بنا،‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬وعوامل‭ ‬الخلل‭ ‬والقصور‭ ‬والأعطاب‭ ‬في‭ ‬ذواتنا،‭ ‬فإذا‭ ‬كنّا‭ ‬متفقين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬والتحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬هي‭ ‬المهمة‭ ‬المركزية‭ ‬الآن‭ ‬كي‭ ‬نستعيد‭ ‬ونحصن‭ ‬ذاتنا‭ ‬الوطنية‭ ‬وندخل‭ ‬عالم‭ ‬العصر‭ ‬والحداثة،‭ ‬فعلينا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يسود‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬ويهيمن‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬نخبنا‭ ‬وحركاتنا‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمعية،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬حظوظ‭ ‬أفكار‭ ‬وقيم‭ ‬العقلانية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعلمانية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬ومنجزات‭ ‬الحضارة‭ ‬العالمية‭ ‬التقنية‭ ‬والإنسانية‭ ‬ووحدة‭ ‬المصير‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬وأجيال‭ ‬شبابنا‭ ‬وفي‭ ‬برامج‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬والإعلام‭.‬

ألم‭ ‬يحن‭ ‬الوقت‭ ‬بعد،‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬اكتمال‭ ‬العملية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وما‭ ‬رافقها‭ ‬من‭ ‬تقدم‭ ‬حضاري‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬كانا‭ ‬نتيجة‭ ‬دينامية‭ ‬مجتمعية‭ ‬ذاتية‭ ‬أي‭ ‬داخلية‭ ‬فعلت‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬صيرورة‭ ‬تحويل‭ ‬كل‭ ‬بنى‭ ‬المجتمع‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬بكيفية‭ ‬متواقتة‭ ‬وموحدة،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬عطالة‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬الشرقية‭ ‬وراء‭ ‬إجهاض‭ ‬إمكانية‭ ‬نشوء‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬التطورية‭ ‬الذاتية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المراهنات‭ ‬على‭ ‬إمكانية‭ ‬توفر‭ ‬الإرادة‭ ‬الفوقية‭ ‬لحزب‭ ‬أو‭ ‬لسلطة‭ ‬أو‭ ‬لانقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬لفرض‭ ‬قيم‭ ‬العقلانية‭ ‬والعدالة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬وكل‭ ‬قيم‭ ‬الحداثة‭ ‬الأخرى‭ ‬بعزيمة‭ ‬رغبوية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬وذلك‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬غرس‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬جذور‭ ‬تربة‭ ‬المجتمع‭ ‬وفي‭ ‬وعيه‭ ‬العام‭ ‬وتربيته‭ ‬على‭ ‬هديها،‭ ‬وأمامنا‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ ‬ثلاث‭ ‬تجارب‭ ‬تستحسن‭ ‬المقارنة‭ ‬بينها‭ ‬وهي‭ ‬تجربة‭ ‬أتاتورك‭ ‬وبورقيبة‭ ‬وجمال‭ ‬عبدالناصر‭.‬

والخلاصة‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬والتحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬لمجتمعاتنا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يفتتح‭ ‬أبوابها‭ ‬ويدشن‭ ‬طريقها‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬ينهي‭ ‬أنظمة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬القائمة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬وتستكمل‭ ‬كل‭ ‬أبعادها‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬استندت‭ ‬إلى‭ ‬استراتيجية‭ ‬شاملة‭ ‬تستهدف‭ ‬تطوير‭ ‬وتحديث‭ ‬كل‭ ‬جوانب‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬وتستهدف‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬تطوير‭ ‬واقع‭ ‬نخبنا‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الفكر‭ ‬والتنظير‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الممارسة‭ ‬والتدبير‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.