ثقافة السلطة الخامسة
ينتهي القول الإعلامي البارز في السلوك الاتصالي إلى مقولة “ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟”، عوض المفهوم السابق لفعل التلقي السلبي الذي كان “ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور؟”. ففعل التلقي الإلزامي الذي فرضته علينا التكنولوجيا وكذا نشاط الوسائط الجديدة، أرغم العديد على التعامل مع الوسيلة الإعلامية كأداة تواصلية تتيح التوافق والانسجام الفكري. فقانون العرض والطلب أصبح متاحا في اقتصاديات التقنية ولا يوجد بذلك استخدام دون إشباع ذاتي محتم.
اشتهر غوستاف لوبان (مؤرخ وطبيب فرنسي) بكتابه سيكولوجيا الجماهير الذي يعنى بأحوال النفسية والاجتماعية محاولا معالجتها بطرحها في مجالها التفاعلي عبر مختلف وسائل التواصل. عالج طبيعة الحضارات مستنبطا منها طريقة العيش، والأنثروبولوجيا الحياتية داخل المجتمعات والقبائل المختلفة، وسلط الضوء على مفهوم روح الجماعة وأهمل بذلك التعامل الفردي إذ أنه منطلق بدائي لاهوتي فهو على عكس الجماعة التي تسير ككتلة واحدة وراء ما هو وجداني وعاطفي دون اللجوء إلى الأدلة والبراهين التي تشغل العقل البشري كوحدة منفكة عن الجماعة.
وحسب لوبان فإن المجتمعات الإنسانية عويصة التركيب ولا تخرج عن كونها كلا مترابطا في الفكر واللغة والهدف، فلا شأن لجماعة بجماعة أخرى إلا إذا كان هناك تذاوت بينهما، فمن هذا يعتبر جمهور وسائل الإعلام مجموعة عددية من الأشخاص الذين يخضعون لوسائل الإعلام المختلفة، حيث ظهر بظهور الطباعة مع غوتنبرغ تحديدا في القرن الخامس عشر، وبظهورها انتشر مصطلح الصحافة الشعبية التي مكنت كل الطبقات الاجتماعية بان تكون متساوية في درجة تلقي المعلومة وبهذا تحقيق فكرة إشباع الرغبات والحاجيات النفسية من خلال ما تتناوله الجرائد في الصحافة المكتوبة.
وشيئا فشيئا بدا الإعلام يأخذ حيزا أوسع من خلال الإذاعة التي التمّ حولها جمهور المستمعين، والتلفزيون الذي اعتبر من بين الاختراعات التي أذهلت البشر وحيرت العلماء في وقت من الأوقات، ومع هذا التطور بدأت درجة تلقي المعلومة تأخذ منحى آخر ومفهوم الجمهور يستمد قوته من نفسه النشطة ليواكب المستجدات الوسائطية، وأصبح يطلق عليه بالمستخدم حيث يستثنى على نفسه التحيز في الوسيلة وغيرها من المميزات، إذ هو موجود في كل زمان ومكان ( يستطيع الوجود في كل زمان ومكان ولا يحده على ذلك إلا التقنية). كما أن اللامادية هي من أهم ميزاته والتي تعني دراسة سلوك الفرد دون الاحتكاك به لأنه موجود ضمن عالم افتراضي غير محدد الهوية، وهنا ننفي ما جاء به لوبان عندما حاول فهم قابلية الجماعة للتأثير والتصديق عندما قال “وكيفما ظهرت على الجماعات شارات الهدوء والسكون فإنها على الدوام في حالة انتظار واستعداد يجعل التأثير فيها سهلا”.
فها هنا نرى أن دراسة الجمهور عبر الفضاء السيبيري الذي يصفه العديد من الباحثين بالجملة العصبية للمجتمع، يختلف تماما عمّا كان عليه سابقا من مصداقية في دراسة المتلقي ووصف ملامحه الدقيقة وفتح تساؤلات معه وفق شكله الحركي، وفي دراسة للدكتور عبدالله الزين الحيدري (جامعة قطر) قدم فيها جل التفاصيل التي تميز الميديا الاجتماعية الجديدة حيث أسماها بالسلطة الخامسة عوض السلطة الرابعة التي تعتبر المنشئ الأول للإعلام والبوابة الأولى في الصناعة الإعلامية، حيث استرسل في تقديم أدق تفاصيل هذا الفضاء، كما قدم جملة من الأدوات والتقنيات التي يستخدمها منها الأدوات البلاغية المتشكلة من الصور واللغة التي تتميز بها حيث تعتبر وجبة جاهزة مقدمة للجمهور المتفاعل تتناغم وأفكاره ودرجة استنطاقه للثقافة التي تعبر عنه. فالذرات المنفصلة تتصل هنا بجماعات وفق درجة الاستيعاب ووفق المصالح المحققة.
وعليه فإن التفاعل هنا هو من أرقى خصائص هذا الفضاء إذ يستطيع أن يكون المستخدم هو الناقل للمعلومة والمستقبل في آن واحد، فهو يمارس عدة نشاطات كالتعليق وإعادة النشر والتعليق من جديد على المحتويات المختارة.
وهكذا تعدّدت التفاعلات مما دفع بالباحثين لتقسيمها إلى: التفاعل الرجعي الذي يسعى لاستعراض المحتويات، والتفاعل العملي الذي يسعى لتغيير المحتوى إضافة إلى الاستعراض، أما التفاعل المتبادل فيسعى هو الآخر إلى إضافة محتويات جديدة حسب المستخدم.
والجدير بالذكر أن البيئة الرقمية الجديدة قدمت العديد من المحتويات على أساس الأدوار الذي يقوم بها المجتمع والفرد على حد سواء، فهي بيئة حاضنة لكل المواضيع والتابوهات بكل أشكالها، زيادة على ذلك تعتبر متنفسا رحبا لجل الأطياف من أطفال ونساء وحتى كهول، فلا ينبغي علينا نكران حسنات التطور التكنولوجي كما لا ينبغي علينا استهلاكه في التحريض والمشاحنة. فالفعل الاجتماعي الذي نقوم به من خلاله هو نقل المعلومة للجمهور بكل صدق وشفافية بعيد عن التغليب والمغالطة.
وأحيانا لا بد أن ننتبه إلى أن ضخامة المعلومات المقدمة عبر الوسائط المتنوعة لا تعني أنها حققت إشباع لجميع الناس، فالآراء عبر هذه الوسائط تختلف بين الرفض والمعارضة وذلك باللجوء إلى البحث فيما يشبع حاجاتها وبين القبول والتأييد في حال وصولها إلى الإشباع. غير أن وسائل الإعلام التقليدية ليس لديها الحق في الرفض ففي هذه الحالة تبتعد عن الاستخدام وهو المصطلح الذي يوحي دائما إلى الوسيلة الإعلامية الجديدة بتفاعلاتها وأدواتها، فمن هنا تتضح لنا القوة الحقيقة التي تعنى بها الوسائط الجديدة في عملية التفاعل وأخذ الأمور بموضوعية وخلق روح التشاور والتشارك في المواضيع في سياق أو فضاء أو بيئة تفاعلية.
ومما تقدم نستخلص بأن العصر الحالي ضمن القرن الحادي والعشرين، يشهد العديد من التغيرات على جميع الأصعدة وفي جلّ المجالات الحياتية، سواء تعلق الأمر بالاستخدام الإنساني للأشياء أو بالتنوع الفكري في عرض النظريات الجديدة التي تعمل على زرع تنافس معرفي يجرّ كل واحد منهما الآخر كما تهدف إلى ترابط منطقي وموضوعي وتفسير لظواهر اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية، إذ تعد هذه الأخيرة من بين الحقائق العلمية التي يعمل الباحثون والأكاديميون على فهم تحدياتها الراهنة وإخضاع العملية الإعلامية والاتصالية للدراسة والاستكشاف المعرفي.