ثقافة لا تقبل بتعرية الذات
لا يزال “أدب الاعتراف” كائنًا غريبًا في العالم العربي، لا تستسيغه الثقافة المحيطة، والوضعيات الاجتماعية والأدبية المستقرة، خصوصًا أن محاكمات الإبداع من قبل السلطة والجمهور معًا تبدو في كثير من الأحيان أخلاقية لا فنية مجردة، وهنا قد تصير الشجاعة في تعرية الذات مخاطرة غير مأمونة، فمن الممكن أن يتحول “الاعتراف” إلى سيد الأدلة الموجبة لتحقير صاحبه، وربما سجنه أو قتله باسم الدفاع عن الفضيلة وحماية ثوابت المجتمع. التقت “الجديد” عددًا من المبدعات والمبدعين العرب، مطلقة تساؤلاتها المتلاحقة أملًا في استقصاء أسباب عزوف الأقلام العربية عن الخوض في أدب الاعتراف، فأيتها المبدعة وأيها المبدع: هل فكّرتِ/ فكّرتَ يومًا في كتابة أدب اعترافي؟ ولماذا؟ وهل كل كتابة للسيرة الذاتية تمثل أدب اعتراف؟ وهل المعترفون العرب قادرون مثل الغربيين على نقل صورة أمينة “فاضحة” للذات، أم تقود هذه الكتابة لدينا عادة إلى غسيل السمعة وتجميل الذات؟ وهل ثمة مجال لنهوض أدب الاعتراف في مجتمعات تفتقر إلى الحرية وتفتش في ضمائر الآخرين؟
لا يمكن فصل أدب الاعتراف عن مناخه المحيط، فمقارنة هذا اللون من الأدب في العالم الغربي، بنظيره في المشرق، هكذا في المطلق، أمر يجافي المنطق. فالأدب، والإبداع عمومًا، نتاج مجتمع، وتجارب حياتية بالأساس. كذلك، فإن مستوى التلقي والمشاركة أمر بالغ الأهمية، يجب أخذه في الاعتبار حال المقارنة، كي لا تبدو ظالمة.
الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد ينقل رؤيته لـ”الجديد” موضحًا أن الفرق بين أدب الاعتراف العربي والغربي هو ببساطة ذلك الفرق بين التطور السياسي والاجتماعي لدينا ولديهم، فقد قطع العالم الغربي أشواطًا واسعة في سبيل الحرية الفردية، والممارسة السياسية السليمة، والحقوق الاجتماعية المكفولة، وجاء أدب الاعتراف جريئًا حرًّا ليعكس هذا المناخ العام.
أما لدينا، فلا تزال الحريات محل تشكك، فهي مقموعة تارة باسم السلطة وتارة تحت شعارات الحفاظ على قيم المجتمع وضوابطه، وثمة جماعات ضغط كثيرة تجعل الأديب يفكر ألف مرة قبل إقدامه على الاعتراف بأمر يجلب عليه المتاعب والمحن، وربما يعرضه لتجريح أو تجريم أو ملاحقات قضائية، فَمَنْ لدينا يمكنه مثلًا الاعتراف بالجاسوسية أو بارتكاب جرائم أو ممارسة الشذوذ أو الزواج السري أو الانخراط في حفلات الجنس الجماعي، وما إلى ذلك القبيل، كما يفعل أدباء وفنانون غربيون؟
أما كتابة السيرة الذاتية، المعروفة في العالم العربي، فيصفها إبراهيم عبدالمجيد بأنها كتابة غير ناضجة لا ترقى إلى المستوى المأمول من المصداقية والأمانة، فمن الصعب أن يقر كاتب بما يعرضه للاضطهاد السياسي مثلًا أو أن يصير منبوذًا اجتماعيًّا أو دينيًّا، إلا في حالات استثنائية أو نادرة للغاية، وغالبًا ما تتحول السيرة الذاتية العربية إلى سرد للإيجابيات فقط ولرحلة النجاح ومحطات الكفاح، بما يجعلها أقرب إلى دروس التربية الوطنية، وهذا أمر قد يكون مثمرًا ومحفزًا للناشئة، لكن فن الاعتراف أمر آخر. ويلجأ بعض الأدباء إلى تضمين سيرتهم الذاتية في أعمالهم الإبداعية، خلف أقنعة الشخوص، مثلما فعل نجيب محفوظ في رواياته.
ولا يستبعد عبدالمجيد أن يُقْدم على كتابة أدب اعتراف، لكن وفق مقتضيات العالم العربي، ويقول “جربت بالفعل سرد حكاياتي ولقاءاتي مع الأدباء، ونشرت بعضها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحظيت بقبول طيب، وقد أشرع في سردها تفصيليًّا في كتاب، على أنني في اعترافاتي سألجأ إلى الفلتر بالضرورة، فليست كل الذكريات تصلح للحكي، خصوصًا إذا اقترنت هذه الوقائع بالآخرين”.
كتابة نظيفة
عند إقدام الأديب على كتابة اعترافاته، فمن المفترض أن يكتب سيرته بخيرها وشرها، بمعنى أن تظل الفقرات المعتمة والقذرة كما هي، مثلها مثل الفقرات المضيئة، لكن في التجارب العربية يظل المجتمع راصدًا لكل شيء دائمًا، وبالتالي تصعب كتابة ما قد يفقد الشخص هيبته، ويجعله مركزًا للسب وربما هدفًا للقضايا والمحاكمات.
ويجد الروائي السوداني أمير تاج السر الأمر مختلفًا في المجتمعات العربية، ويقول لـ”الجديد” “أنت حين تكتب سيرتك، لا تكتب عن نفسك، فهناك بيت فيه أهل، وهناك شارع مجاور وجيران وعمل وزملاء عمل، وهناك شخصيات اجتماعية قد تكون احتككت بها. لذلك، فالسيرة عندنا في الغالب سيرة نظيفة تمامًا، ومبالغ في نظافتها، فلن يقول أحد إلا نادرًا، إنه تحرش بفتاة من أهله، ولن يقول إن مدرسًا في المدرسة تحرش به وهو طفل، ولن يحكي سير الأزقة والشوارع الخلفية التي قد يكون تشرد فيها، والأمراض المخجلة التي أصيب بها”.
أما في سير الزعماء التي يكتبونها، أو تُكتب لهم في الغالب، فنرى رجالًا عصاميين بدأوا من الصفر الأخلاقي النزيه حتى أصبحوا زعماء، وقطعًا توجد فراغات في كل ما يُكتب بوصفه سيرة أو أدب اعتراف، ولا يبدو أن الأمر سيتعدل، ستظل الكتابة هكذا في برودها، في ما يختص بهذا الفرع من الأدب.
ويرى تاج السر أن أدب الاعتراف يمكن أن يندرج تحت مسمى أدب السيرة الذاتية، بمعنى أن يكتب الشخص مبدعًا كان أو غير مبدع سيرته منذ عرف الحياة، حتى العمر الذي وصل إليه وخوله كتابة سيرة.
وهناك من يكتب سيرته كاملة، أي يعبئها بسيرة العمل والبيت والحياة من حوله عمومًا، وهناك من يكتب سيرًا متفرقة، مثلما فعل تاج السر حين كتب سيرة عيادته في “حي النور” في مدينة بورتسودان في كتابه “قلم زينب”، وسيرة بيته في المدينة في “مرايا ساحلية”.
ويعتقد أمير تاج السر أنه لا توجد ضرورة لأن يفضح الكاتب مجتمعه الصغير، أي مجتمع أهله وبيته، فعليه إن كتب شيئًا بوصفه سيرة أن يكتب “ما قد لا يسيء إلى أحد”، بحد تعبيره.
مناطق غامضة سرية
تختلف الآداب التي تهتم بالاعتراف وبالتعبير عما يسمى السير الذاتية أو تلك المناطق الغامضة والسرية من روح الكاتب، من ثقافة إلى أخرى، والكشف عن تلك المناطق الممنوعة يحتاج إلى معايير وفضاءات للحرية يتوسمها الكاتب ويحيا فيها المجتمع.
ويصف القاص والكاتب المصري سعيد الكفراوي ما يحتاج إليه الأديب لكي يبوح باعترافاته قائلًا لـ”الجديد” “تتمثل الشروط البديهية لأدب الاعتراف في حرية التعبير، وحرية الثقافة، وحرية التلقي، والحريات المجتمعية عمومًا، كما يحتاج الكاتب إلى امتلاك ذاتٍ شجاعة، لمواجهة كل المناطق السلبية داخله وخارجه. ولذلك كله، فإن النصوص العربية التي أنجزت تلك المغامرة قليلة للغاية، بل نادرة، وتبدو عادة خجولة ومرتعشة، تلامس أسطح الأشياء دون أن تتورط في كشف الجروح”.
ثمة درجات متفاوتة من المخاطرة صعدتها محاولات الاعتراف العربية، فالكتابة الآمنة يمكن تلمسها في “الأيام” لطه حسين، و”أوراق العمر” لتوفيق الحكيم، وسيرة نجيب محفوظ التي سردها للكاتب رجاء النقاش، و”حياتي” لأحمد أمين، وبعض قصص يحيى حقي، وهي كتابة كانت تراعي أحوال الواقع العربي، وردود الأفعال، ولا تخرج عن المواضعات الاجتماعية.
أما الكتابة العربية الاعترافية الأكثر جرأة، فتكمن على سبيل المثال في بعض النماذج، منها: السيرة الذاتية للكاتب اللبناني سهيل إدريس، ورواية “الخبز الحافي” للمغربي محمد شكري، ورواية “البيضة والنعامة” للكاتب المصري رؤوف مسعد، وكتاب “النميمة” للمصري سليمان فياض، ورواية “في غرفة العنكبوت” للمصري محمد عبدالنبي، وغيرها.
ويشير الأديب المصري سعيد الكفراوي إلى أن الأمر مختلف في العالم الغربي، فالمجتمع هناك يقبل التلقي ويشارك فيه، وتدهشه حياة الكاتب كلما غاصت في حقيقتها، وفضاء الحرية عارم يساعد الكاتب على الإبداع حتى لو صارت الكتابة مثل الجرح، والشخصية الإبداعية تمتلك شجاعتها في ما تقول، وإيمانها بنفسها وحقوقها، وهكذا يمكننا استساغة اعترافات ديستوفسكي وجان جاك روسو وأوسكار وايلد وغيرهم، وتبقى مثل هذه الكتابات والطقوس المحيطة بها مفقودة في واقعنا العربي البائس، الذي يعاني إشكالات كثيرة.
فرق كبير
ويجد الكاتب المصري يوسف القعيد أن الفرق كبير بين نوعية اعترافات كتلك التي كتبها جان جاك روسو، وبين أدب السيرة الذاتية العربي، ويقول لـ”الجديد” “أدب السيرة الغربي منفتح على كل التفاصيل، ويعري كل شيء، ولا يتورع عن سرد الفضائح والأمور الذاتية التي قد يعيبها المجتمع، في حين أن نظيره العربي منقى ومنضبط، لأنه محكوم بشروط مجتمعية قاسية”.
قد تكون الأمور السلبية هي الأكثر في حياة الإنسان، وقد تكون هي الأجدر بالحكي، لكن أدب السيرة الذاتية العربي مرهون بمجتمعات منغلقة، تمسك بتلابيب المخالفين، وتمارس أقسى أنماط التخويف الديني والسياسي والشعبي أيضًا، بما قد يحوّل أي شكل من أشكال الانفلات إلى جريمة مكتملة الأركان، تستوجب العقاب.
وبرأي القعيد، فإن كبار المعترفين العرب، من أمثال ابن خلدون في مذكراته، لم يكتبوا إلا “بصراحة غير مطلقة”، بحد تعبير يوسف إدريس، فهناك دائمًا “فلاتر” للضبط والاختيار والتنقية، وقد لجأ آخرون مثل نجيب محفوظ إلى الأقنعة كحيلة للحكي عن الذات من خلال شخوص روائية، كما في شخصية كمال عبدالجواد في الثلاثية على سبيل المثال، فهو يحمل الكثير من أفكار ومعتقدات محفوظ نفسه، وتعد هذه الكتابة الروائية شكلًا غير مباشر من أشكال فن الاعتراف، بما يناسب واقعنا العربي.
هيمنة دينية
في العالم الغربي، يبدو فن الاعتراف جنسًا أدبيًّا معروفًا، ويحظى بمتابعة واهتمام كبيرين من جانب القراء والنقاد على حد السواء، وفي بواكير ارتياد هذه المنطقة في عالمنا العربي حاول بعض كبار الأدباء الإسهام بمحاولات اعترافية، لكن جاء ذلك بحذر شديد، لاعتبارات عدة.
القاصة والكاتبة المصرية نوال مصطفى تعيد هذه الاعتبارات إلى التقاليد و”التابوهات المحرمة”، فنجد طه حسين يكتب سيرته الذاتية فى كتابه “الأيام”، لكنه لا يكشف خلاله أسرارًا من الصعب أن تروى، كذلك فعل العقاد في كتابه “أنا”، وتوفيق الحكيم في كتاب”سجن العمر”.
ولربما من النماذج النادرة لكتابة أدب الاعتراف في التاريخ الحديث، تجربة الأديب المغربي محمد شكري في روايته “الخبز الحافي”، حين عرى نفسه بالكامل، واعترف بخطاياه المخجلة بكل شجاعة ودون تردد، لكن كل الذين كتبوا أو حاولوا الاقتراب من تلك المنطقة الوعرة اكتفوا بسرد بعض الحقائق والوقائع عن حيواتهم، بينما أخفوا أجزاء أخرى رأوها مشينة، أو أنها تهدم الصورة المرسومة لهم في أذهان قرائهم وأحبائهم.
وتقر نوال مصطفى بحسم في بوحها لـ”الجديد” “بالنسبة إليّ، قطعًا لم أفكر في كتابة اعترافية، لأننا ببساطة نعيش في مجتمع شرقي يخضع فيه الأدب بصفة عامة للعديد من القيود المجتمعية والهيمنة الدينية، ومن المضحك المبكي أن العمل الروائي في مجتمعاتنا العربية يخضع للحكم الأخلاقي لا النقد الأدبي”.
ويتجه الكثيرون من القراء، وحتى من النقاد، إلى ما يمكن تسميته بالتلصص على المؤلف، خصوصًا إذا كانت الكاتبة امرأة، ويتساءل هؤلاء: هل الشخصية المحورية في العمل الإبداعي هي نفسها شخصية الكاتبة؟ هل هي بطلة روايتها؟ وهكذا، لا يتم التعامل مع الأدب باعتباره نصًّا إبداعيًّا يجب تقييمه بما يمتلك من نقاط قوة أو ضعف تتمثل في العناصر الجمالية والصدق الفني وعمق الفكرة والبناء الدرامي واللغة الرصينة والمفردات الجميلة والصور الأدبية وغيرها، إنما تجري محاكمته من منظور اجتماعي وأخلاقي.
لهذه الأسباب كلها، وغيرها من الأسباب من قبيل انتفاء الحرية والاستقلالية وغياب المناخ العام الملائم، ترى نوال مصطفى أنه لا يكاد يوجد مستقبل لأدب الاعتراف في بلادنا العربية، التي يفتش فيها القراء في دواخل الكتاب والأدباء، ويحاولون كشف أسرارهم وفضح حياتهم الخاصة، فالقارئ العربي في الأغلب لا يقرأ ليستمتع بالنص الأدبي والحكاية، بل ليفتش في حياة الكاتبة الخاصة كأنثى وليس كأديبة.
قائمة محاذير
ثمة رؤية فنية ترى “أدب الاعتراف” من منظور أوسع، إذ يبدو كل أدب وإبداع وفن منطويًا بدرجة أو بأخرى على معنى من معاني الاعتراف، وفي هذا المفهوم يتضمن “الاعتراف” على نحو ما مؤلفات من قبيل “الأيام” لطه حسين، و”ثلاثية” نجيب محفوظ، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، وكتب السيرة الذاتية، وغيرها. لكن، هل كل كتب السير الذاتية تقدم ما يمكن تصديقه، أم أنها تنقل الصورة النموذجية التي يريدها الكاتب لنفسه، بما قد يحوي غسيلًا للسمعة وتجميلًا للذات في بعض الأحيان؟
ويرى الشاعر الأردني أمجد ريان أن الكتابة الإبداعية الحقيقية تضمن جزئيًّا قدرًا من الاعتراف، وهذا شأن أغلبية التجارب الشعرية الصادقة على سبيل المثال، لكن تصنيف الاعتراف كفن مستقل في الثقافة العربية أمر متشكك فيه، ويقول ريان لـ”الجديد” “قرأت حديثًا سيرًا ذاتية لكتاب غير مشهورين، وأحسست بعدم الثقة منذ الفقرات الأولى في كتاباتهم”.
ويبدو أن المعترفين العرب لا يستطيعون أن ينقلوا ذواتهم بشكل صريح ودقيق، لأن المحاذير الأخلاقية والمعايير الاجتماعية لا تسمح بطرح كل شيء، إذ يتم الابتعاد عن الفضائح والعيوب التي ينبغي أن تستر، وتبقى معطيات كثيرة طي الكتمان.
ويرى ريان أنه لن يتغير وضعنا الاجتماعي والثقافي، والحضاري في النهاية، قبل أن تتم المصارحة التامة، وطرح كل ما لدينا من مشكلات حتى نتمكن من مواجهتها وتجاوزها، وهذا لن يحدث إلا بامتلاك وتوفر الحرية، وبإعطاء فرصة لتقبل ومناقشة كل رأي.
ولا تزال المحبطات والموانع القاسية تفقد الكاتب العربي شجاعته الإنسانية، لتحوله في أحوال كثيرة إلى بهلوان يقفز يمينًا ويسارًا لاتقاء الشرور والاتهامات الموجهة له، ولتجميل ذاته بكل وسيلة ممكنة، مهما كانت واهمة، وهذا يضيع الوقت، ويهدر فرصة أن نرى أنفسنا حق الرؤية.
وبحد الكاتبة المصرية اعتدال عثمان، فإنه لا توجد سيرة ذاتية لأي كاتب، مهما كانت مكانته الأدبية ومصداقيته على المستوى الإنساني، تقدم الحقائق بصورة موضوعية وصادقة تمامًا، لأن عملية السرد تتم عبر الذاكرة، ومن ثم تخضع للانتقاء والاستبعاد والتركيز على جوانب بعينها دون غيرها، فالكاتب يعيد تجميع تفاصيل متناثرة مستمدة من أزمنة منقضية ليرسم صورة لحياته، بما تشتمل عليه من نجاحات، وإخفاقات، وعذابات، صنعت مصيره الذي يريد أن يروي عنه.
من هذا المنطلق، فإن الكاتب حين يكتب سيرته الذاتية، لا يقدم الحقيقة الفعلية حتى لو أراد، بل يقدم الحقيقة السردية. ولعل نجيب محفوظ على سبيل المثال كان يدرك بحدسه الإبداعي الفذ هذه الحقيقة، فكتب “أصداء السيرة الذاتية”، فالصدى مستمد من أصل الصوت، لكنه ليس هو الصوت نفسه.
وتأتي هذه النظرة متسقة مع تصور للأدب الاعترافي في السياق الثقافي العربي، وهذا التصور يرتبط بالمخيلة الإبداعية القادرة على استخلاص الجوهري في تجربة الكاتب الحياتية، وإلباسها ثوب الخيال بحيث تحتفظ بذلك الجوهر في إطار إبداعي، يمنح القارئ المعرفة الناتجة عن خبرة الحياة بمواقفها المختلفة التي قد يكون بعضها مخجلًا نتيجة الضعف الإنساني المتأصل في النفوس البشرية أو الحيرة أو الارتباك أو الانكسار.
يبدو أفق الاعترافات من هذا النوع محدودًا للغاية لدينا مقارنة بالسياق الغربي، وعن ذلك الأمر تقول اعتدال عثمان لـ”الجديد” “يتمتع الإنسان الغربي بحريات القول والفعل والاختيار، يتشربها كلها منذ الصغر، ومن حقه الدفاع عنها دون إدانات جاهزة، مما ينعكس على كتابة السيرة حتى لو تضمنت مواقف محرجة بالنسبة إلى الآخرين، لكنه يعرف أنه يستند إلى تكوين ثقافي ونظم معرفية، تعترف بحق الاختلاف ومغايرة السائد، طالما استطاع أن يكون له منطقه الخاص المتماسك”.
تطهير الروح
يكاد يوحي الحديث عن أدب الاعتراف للبعض بأن هناك قضايا حساسة ومعيبة تتعلق بالجسد أو العواطف أو العلاقات الشخصية أو الانحرافات السلوكية، ولا يكلف الكثيرون أنفسهم من أجل وضع هذه الاعترافات في سياق الأدب ومنظوره.
من جهتها، ترى الشاعرة السورية فرات إسبر أن فن الاعتراف هو المواجهة الشجاعة مع الذات لكشف ما فيها من خوف وقلق إنسانيين يخصان البشرية، فالأمر يتعلق أيضًا بالحقوق والواجبات نحو أنفسنا وإزاء الآخرين، ويجب أن يكون الاعتراف دون خوف أو وجل من أية سلطة دينية أو سياسية أو مجتمعية.
وإذا كان الاعتراف هو فن الصراحة المطلقة، فإن بعض المحللين يذهبون إلى ضرورة التفرقة بين اعتراف أدبي رفيع يقود إلى خدمة الفكر الإنساني ويمكن تقييمه على مستوى الأدب، واعتراف يستعرض الجنون والشذوذ ولا يندرج ضمن مفهوم الأدب.
وتقر فرات إسبر بأن الأديب العربي لا يزال جبانًا لا يجرؤ على الاعتراف وقول الحقيقة، وتقول لـ”الجديد” “نحن في مواجهة مفتوحة مع العالم، أن تكون ضالًّا بلا هوية ولا وطن ولا عنوان، هذا لا يعني شيئًا بالنسبة لرجل الدين. ولو واجهناه بالحقيقة لأنكر علينا ديننا وجعل منا ملحدين. كذلك، لا نستطيع مواجهة السلطات بحقوقنا، لأننا نقف عند التشريعات والقوانين التي تحد من حقوق المرأة وتجعلها أدنى من الرجل بالنسبة إلى الوصاية والولاية والقوامة”.
على جانب آخر، فإن أدب الاعتراف قد يبدو في أنبل صوره تطهيرًا للذات وإشعالًا للأرواح، كما في اعترافات جان جاك روسو، الذي قدم أدبًا ساميًا لتطهير الأعماق، لا لكشفها وفضحها، ولا لاستعراض ذكوريته، وإنما كان صاحب رسالة إنسانية، قادرة على شحذ الروح ومواجهة السلطات والتابوهات القاهرة.
الأستار والحُجُب
بالرغم من إيمان بعض الكتاب بأهمية الاعتراف وقيمته، فإنهم يؤثرون إدراجه في إبداعاتهم على نحو رمزي، من وراء أستار وحُجُبٍ، بدون الانخراط في كتابة هذا النوع من اﻷدب، القائم في ذهن الغرب على البوح والتطهير، والقائم في الثقافة العربية على فكرة الفضيحة للآخرين وللذات.
يحيل المسرحي والناقد محمد عبدالحافظ ناصف هذه المواربة إلى أن “الستر” قناعة دينية ومجتمعية لدى الناس في وطننا العربي والإسلامي والمسيحي الشرقي، وهذا اﻷمر هو السبب الرئيسي في عدم وجود أدب اعتراف لدينا على النحو الشائع في الغرب، ولربما توجد كتابات شجاعة لكشف قصور مجتمعي أو عائلي، لكنها ﻻ ترقى إلى فكرة الفضح أو اﻻعتراف.
ويقر محمد ناصف بأنه استخدم بعضًا يسيرًا من السيرة الذاتية لخدمة أعمال أدبية، وهي سيرة إيجابية في أغلب الأحيان، وقليل منها سلبي، لكنها تبقى مختفية وراء حجب وأستار خاصة.
وإذا كان الأدباء الذين يتوارون في اعترافاتهم خلف شخصياتهم الروائية يتعرضون للسب على صفحات التواصل الاجتماعي بسبب فقرة أو أكثر لم تعجب بعض القراء، فكيف يكون الأمر لو أنهم قالوا اعترافاتهم صراحة؟
تشير الكاتبة نهلة كرم إلى أن المواراة ربما تحمي الكاتب نسبيًّا، أما البوح الكامل فهو أمر جد خطير، فهناك درجة كبيرة من التعصب والتحفز في مجتمعاتنا العربية، وليس مستبعدًا أن يُقتل أحد الكتاب لأن اعترافاته لم تنل إعجاب قارئ، فالكاتب حين يقرر أن يكتب أدب اعتراف يغامر بحياته حرفيًّا.
ليست كتابة أدب الاعتراف هي الأزمة، إنما الذي يحدث بعد نشر هذه الكتابة هو الكارثي، فهل يتحمل الكاتب السخافات والمتاعب والملاحقات التي سيواجهها؟ تقول نهلة كرم لـ”الجديد” “على الكاتب حينئذ أن يدرب أذنه على سماع وقراءة كل أنواع السباب، مثلما فعل الطفلان في رواية ‘الدفتر الكبير’ لأغوتا كريستوف، عندما كان أهل القرية يسبونهما، فراح كل منهما يشتم الآخر حتى تعتاد آذانهما على السباب!”.
وتبقى السيرة الذانية لونًا من ألوان الاعتراف، لكن ذلك مرهون بالمصداقية والحرية، ودرجة شجاعة كاتبها، ومكان نشأته، وثقافته، كما في “أعترف أنني قد عشت” للشاعر التشيلي “بابلو نيرودا”، على سبيل المثال، وهذه الظروف والعوامل المحيطة تكاد تكون مفقودة تمامًا في عالمنا العربي.
منابع السرد
يقرن البعض بين أدب الاعتراف والشعيرة الدينية الكاثوليكية “إن آمنت بقلبك واعترفت بفمك تخلص”، حيث يبدو الاعتراف تخلصًا من الخطيئة، ومثل هذه العقيدة ربما لم تؤثر في منابع السرد في الثقافة العربية، التي تأتي عادة خيالية، وتنأى كثيرًا عن الاعتراف.
اختلاف الجذور له دور، كما ترى الكاتبة سهير المصادفة، فمنابع الأعمدة السردية الكبرى لدينا تتكئ على الخيال والخلق مثل “ألف ليلة وليلة”، أو على المجاز والتورية مثل معلقاتنا الشعرية، أو على الترميز مثلما جاء في الأثر الهندي الشهير “كليلة ودمنة” لبيدبا الذي ترجمه ابن المقفع في القرن الثاني الهجري، وقد جاء على لسان الحيوانات والطيور.
ولا تتحمس الكاتبة سهير المصادفة لكتابة أدب اعتراف، وتقول لـ”الجديد” “المناخ غير مهيأ لدينا لكتابة أدب اعتراف، بل هو ليس جزءًا من ثقافتنا، التي تناقصت فيها السير الذاتية، واختفى أدب الرسائل، وحتى الرواية نفسها خصوصًا إذا كانت لكاتبة، فإن القراء يحاولون التلصص على مدى الشبه بين البطلة والكاتبة، فالأدب العربي يعاني من طريقة القراءة المتربصة والمترصدة”.
ويشكل أدب الاعتراف قيمة أدبية في الثقافة الغربية، لأنه من جهة يمنحنا نصوصًا أدبية باذخة، ومن جهة أخرى يمكّن العديد من الكتاب من الاعتراف بخطاياهم، وإماطة اللثام عن مساوئهم، وتحقيق نوع من التطهر، والتخلص من أعباء الحياة، مثلما حدث مع اعترافات القديس أوغسطين، والسيرة الذاتية “اعترافات فتى العصر” للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وغيرها من اعترافات مجموعة من الكتاب والمفكرين كأندري جيد، وأوسكار وايلد، وغيرهما.
وبحسب الكاتبة المغربية سعيدة شريف، فإن الأمر لدينا جد مختلف، فالكاتب العربي لا يمكنه إشهار خصوصياته، وفضح نفسه، بسبب إكراهات التقاليد الاجتماعية والدينية وحتى الثقافية، لهذا نجده يلوذ بالصمت والتستر عن العديد من الجوانب في حياته، بل ويلجأ في أغلب الأحيان إلى تجميل الكثير من الوقائع والأحداث والمواقف، عند تناوله أمورًا خاصة جدًّا، أو كشف علاقته بالمرأة.
في هذا الإطار، يكاد الكاتب المغربي محمد شكري يشكل استثناء، لأنه تمكن من تسجيل اعترافات حقيقية في كتابه “الخبز الحافي”، وكشف عن حياته الخاصة، وعرى مساوئه ومساوئ الواقع المغربي ساعتها، والمعاناة التي كان يعيشها الكاتب بسبب الجوع، والتحرش، والقمع. وبشكل عام، فإنه يتم الخلط في الثقافة العربية بين السيرة الذاتية والاعترافات، وغالبًا ما تصبغ تلك الكتابات بتوصيفات مختلفة من قبيل التخييل الذاتي أو محكيات.
وتصف سعيدة شريف لـ”الجديد” فن الاعتراف بأنه لون أدبي يقدم الصورة الحقيقية للكاتب أو جانبًا منها، بسلبياتها وإيجابياتها، ويكشف عن جوهر الشخص وميوله، وتقول “هذا برأيي، ما يجعله مختلفًا عن أدب السيرة الذاتية. ولا غرابة في أن يكون الاعتراف نادرًا في الأدب العربي، لأن الكاتب لا يقبل البوح بالجوانب الشخصية، ولا بتجريد نفسه وتقشيرها أمام القراء، ولهذا فهو يطمر كل ذلك، ويستمتع بزيفه وبخداع نفسه وذاته قبل الآخرين. وحينما تتوفر الحرية في مجتمعاتنا، ونتخلص من رقابة السلطة والرقابة الذاتية، فساعتها يمكن لأدب الاعتراف أن يظهر وينمو”.
كتابة ممسوخة
يمسك بعض الكتاب العرب العصا من المنتصف، بدعوى أن كتابة أدب اعتراف يتوارى خلف رموز وأقنعة وإسقاطات وإشارات أفضل من ترك هذا المجال كلية، فيما هناك آخرون يرون أن أدب الاعتراف إن لم يتَحلَّ بالصِّدق التام، والجرأة غير المنقوصة، فلا جدوى له.
هذه الكتابة “البين بين”، يصفها الكاتب أشرف الخمايسي بأنها كتابة ممسوخة، أو شبه كتابة، فلا هي إبداع خالص يرتوي من معين الخيال، ولا هي أدب بسيط ينهل من وَاقعيَّة المجتمع. فالقارئ الذي يشتري كتابًا يصنفه ناشره على أنَّه “أدب اعتراف”، لن يكون مهمومًا بمعرفة كيف صيغت سطوره بنفس قدر اهتمامه بمعرفة إلى أَيّ مدى بلغ صدق محتواه وجرأته.
وتشير الحقيقة المؤسفة إلى أن كتابتنا العربية تكاد تكون خالية من هذا النوع من الأدب، ولتفسير أسباب ذلك الأمر يقول الخمايسي لـ”الجديد” “للاعتراف تبعات قد تكون وخيمة في بلادنا، لذلك يهرب الأديب باعترافاته إلى الروايات، أو القصص، أو حتى القصائد، يُلقِّنها لشخصياته، التي وإن كانت ورقية فإنها في مفارقة مثيرة للدهشة والدلالات، أقدر من الكاتب على تَحمُّل التَّبعات!”.
هكذا، لا تبدو على الأديب الهارب باعترافاته من عالم الواقع إلى عالم الإبداع ملامة إذا كان يعيش في العالم العربي، الذي تختنق بلاده بتقاليدها البالية وأفهامها المسطَّحة، حيث تسود البلادة الفكرية والعقائدية التي تجعل الشعوب راضخة لجميع ما يجعلها تَزلّ عن الدَّرجة إلى الدَّركة؛ وعن الحرية إلى القُطعانيَّة.
في مثل هذه الأجواء، ليس بوسع الأديب العربي التعامل بصدق تامّ، أو جريء، مع كتابة “الاعتراف”، وهو ما أدى بدوره إلى هشاشة واهتراء هذا النوع من الأدب المُسمَّى بـ”السّيرة الذَّاتيَّة”، فكتابة السّيرة نوع من أنواع كتابة الاعتراف، أو إطار من أطر كتابته؛ وعلى هذا إن لم يتَمتَّع كاتب السيرة بصفتَي الصِّدق والجرأة فإنَّ سيرته تخرج مهندمة بالتَّجمُّل، ليست فاضحة، أو كاشفة، فتفقد قيمتها.