ثلاث تجارب فنية من سلطنة عُمان

العائد إلى بيته والذاهبة إلى عزلتها ومريد الحروفيين
الجمعة 2019/03/01
لوحة أنور سونيا

لو لم يكن الرسام في عُمان لكانت الحروفية. فاستلهام الحرف العربي جماليا كان جزءا خفيا من مهنة صناعة المخطوطة التي برع فيها العمانيون عبر العصور. كما أن النظر إلى الحرف باعتباره جزءا من حمولة مقدسة يفتح الباب واسعا على خياله الذي ينطوي على فرضيات جمالية تتخطى شكله المتاح. لذلك فإن الرسامين العمانيين التقطوا الخيط الحروفي، كما لو أن أيديهم قد اعتادت على نسج أفكارها منه ولم يكن جديدا عليها.

يقول سلمان الحجري “أنجبت عمان فنانين حروفيين اهتموا بتوظيف الحرف العربي وإعطائه قيمة سيادية في أعمالهم التي تعبر عن هوية أرض لها من الإرث الحضاري الشيء الكثير وذات اسهامات موثقة في نشر الدعوة الإسلامية في أقاصي المعمورة، أبناؤها يرسمون نخيلها وأفلاجها الغناء بمفردات حروفية. لقد مارس الاتجاه الحروفي عدد من الفنانين أذكر منهم: محمد الصائغ، صالح الشكيري، عبدالناصر الصائغ، محمد فاضل وسلمان الحجري. اهتموا جميعا بتوزيع الكتل اللونية على جسد اللوحة بشكل متقن ومعبر وبالتوافق والانسجام في توزيع العناصر المكونة لهذه الأعمال”.

الحروفية حسب الحجري اختصرت الطريق بين الواقعية والتجريدية بعد أن ظللتهما بنتائجها التي كانت مرضية على مستوى تحقق الفنان من صلابة عناصر هويته.  

علامات على الطريق

عام 1970 وطأت قدما أنور سونيا أرض وطنه لأول مرة بعد أن كان قد ولد وعاش أكثر من عشرين سنة في البحرين.   

عام 1977 أقيم أول معرض تشكيلي في السلطنة وهو للرسام موسى بن صديق المسافر في صالة نادي عُمان.  

عام 1980 تأسس المرسم الحر ويعتبر البداية الحقيقية لقيام حركة فنية في السلطنة. لقد تخرج من ذلك المرسم عدد من أهم الفنانين العمانيين.

 عام 1993 تأسست الجمعية العمانية للفنانين التشكيليين.

يرى خليفة البلوشي أن الفن العماني بدأ في البحرين على أيدي رشيد عبدالرحمن البلوشي، رابحة محمود وعبدالله الريامي.

المدهش في عُمان أن هناك حركة نقدية تتابع النتاج الفني بالرغم من أن الحركة الفنية لم تمض على ولادتها إلا عقود قليلة. وتعتبر الدكتورة فخرية اليحياوية من أهم المختصات في هذا المجال.

الواقع أم الفن؟

تقول الفنانة رابحة محمود “لا توجد لوحة واقعية.. أنا أرسم خيال الشيء.. خيال يعبر عن الواقع والتجريد هو أكثر واقعية.. هو التصوير المستوحى من الواقع.. استخراج اللون لذاته.. لا أقصد شيئا سوى أنه لون حديث.. الفن لمجرد الجمال.. الفن لذاته وهذا ما تتبعه المدارس الحديثة. ما يهمني هو الجمال.. التنظيم في الوجوه والترتيب في الملابس.. كن جميلا ترى الوجود جميلا.. فن ما بعد الحداثة يركز على شكل الشيء، استخدام اللغة لا يعني بالضرورة أن يكون معنى ما”.

مجلة نزوى يوليو 1997

عرفت رابحة محمود أن تتنقل بخفة بيت اتجاهي الواقعية والتجريد بحثا عن جمال خالص، يتضمنه المشهد الطبيعي أو العلاقات التي تصنعها عناصر اللوحة منفردة. غير أن رأيها المتطرف لا يتطابق مع النتائج الجمالية التي توصلت إليها. يظل ذلك الرأي تعبيرا عن طريقة للتفكير في الفن. وهي طريقة متقدمة توحي بالكثير من الأمل.

أنور سونيا ساحر الرسم في عُمان

أنور سونيا نجح في أن يؤسس لتقليد ثقافي جديد
أنور سونيا نجح في أن يؤسس لتقليد ثقافي جديد

كان عليه أن يرتقي أعلى قمم جبال بلاده ليختبر موهبته رساما. الشاب الذي لم يولد على تلك الأرض كان يشعر أن عاطفة خفية تشده إلى الوديان السحيقة وإلى بحر بعده بحر وهو الذي ولد في جزيرة صغيرة.

فجأة وقف أمام مرآة التاريخ باعتباره رائدا في بلد لم يعرف الرسم من قبل. لم يكن لديه ما يعينه على أداء ذلك الدور سوى شغف كبر معه وجعله لا يرى العالم إلا من خلال الصورة التي تلتقطها يد الرسام. لذلك تحول سفره بين الأشياء إلى مجموعة من الصور التي تثري ذاكرته وتعيده مواطنا يبحث عن ذاته في موضوع، صار بالنسبة له ركيزة عيش.

بالرسم استعاد مواطنته

محمولا على ذلك الهاجس الشخصي رسم أنور سونيا مسقط بجبالها ووديانها وبحرها وأسواقها وبيوتها وناسها كما لو أنه يكتشفها بالرغم من شعوره بأنه لم يكن غريبا عنها. كانت حكايات البلاد الساحرة قد تسربت إلى روحه في طفولته وصباه اللذين صارا يبتعدان، بعد أن مكنه الرسم من أن يؤنسن الهواء الذي يفصله عن المشاهد التي يرسمها.

لقد أنهى الرسم غربته التي كانت إلى وقت قريب نوعا من المواطنة.

مع عدد قليل من هواة الفن نجح سونيا في أن يؤسس لتقليد ثقافي جديد لم تعرفه السلطنة من قبل. صار الرسم جزءا من حياة المجتمع الذي عُرف بسعة وعمق اهتمامه بالأدب، الشعر بشكل خاص.

غير أن تلك المكانة التاريخية لا تغطي على قيمة ما أنجزه سونيا رساما.

لقد أدرك الفنان أنه ظهر في لحظة متأخرة لذلك سعى إلى اختزال الزمن فكان تجريبيا في محاولاته الفنية، وهو ما مكنه من أن يتنقل بين المدارس والأساليب الفنية التي عرفها تاريخ الفن التشكيلي في العالم.

حاول أن يكون واقعيا وتعبيريا وسرياليا وتجريديا بقدر ما سمحت به موهبته ومهارته وقدرته على فهم تحولات الفهم ومن ثم تطبيقها محليا.

أنور سونيا هو ابن البيئة العمانية التي كان مخلصا لها واقعيا غير أنه في الوقت نفسه كان جادا وعميقا في أسئلته الوجودية التي تتعلق بالمصير البشري في تلك البقعة من الأرض.

العودة إلى البيت

ولد أنور خميس سونيا الزدجالي في البحرين عام 1948. كانت عائلته العمانية قد استقرت هناك طلبا للرزق. وقف ولعه بالرسم حائلا بينه وبين إكمال دراسته. تأثر في محاولاته الأولى برسوم البحرينيين لسحق الكوهجي وعبدالله المحرقي وكان يلتقي عددا من أصدقائه العمانيين الذين كانت لهم اهتمامات فنية، من بينها الرسم والموسيقى.

حين عاد مع عائلته إلى مسقط عام 1970 مع اعتلاء السلطان قابوس العرش كان رساما. وهو ما دفعه إلى اكتشاف البيئة الجديدة التي فاجأته. لقد رسم أحياء مطرح حيث كان يقيم. بقدر ما كان يحاول اكتشاف المكان فإنه كان يسعى إلى اكتشاف نفسه. فتلك بلاده التي حُرم من رؤيتها والعيش فيها زمنا طويلا. ستكون رسومه الوصفية مناسبة لإعادة الصلة وتوثيقها بالمكان. كان الرسم بمثابة علاج لقطيعة لم تكن مقصودة.

رسم سونيا بلادا لم يكن يعرفها من قبل غير أنه في الوقت نفسه استوعب فكرة مواطنته عن طريق الرسم. لقد امتزج مصيره بما يرسمه. سيقول لنفسه “أنت هناك. في الصورة كما في المشهد الذي تنقله. حياة مزدوجة ستعيشها ما تبقى من عمرك”. لذلك لم تكن لوحاته مجرد وصف محايد للمكان. لم يكن زائرا عابرا. كانت فكرة العودة إلى البيت أساسية في طريقته في التفكير في الفن ومن خلاله.

كان على سونيا أن يفتتح دروبا تتبعه فيها تلك الأرواح التي وجدت في الرسم مستقرا لما تبحث عنه من جمال مجاور لجمال الطبيعة التي تتعدد مظاهره في بلد مثل عُمان. تمثلت خطوته الأولى في ذلك من خلال انضمامه إلى النادي الأهلي الذي ضم إضافة إليه حسن بورو ولا بخش ومحمود مكي ومنير صادق. كانت تلك الخطوة نقلة مهمة في تاريخ الحركة التشكيلية العمانية إذ حل الاحتراف محل الهواية وهو ما مهد لتأسيس الجمعية العمانية للفنون التشكيلية عام 1993.

بين البيئة والإنسان

مسقط كانت عامرة بالألوان
مسقط القديمة كانت عامرة بالألوان

يقول أنور سونيا “كانت مسقط القديمة عامرة بالألوان، وتكاد تشبه حارة من فرط تقارب البيوت والناس. وكثيرا ما كانت تسحرني طريقة تهندم المرأة، وكذلك البحر والميناء والسوق التقليدي والرقصات الشعبية، وكانت هناك بيوت تراثية مثل بيت العصفور، وفي هذا الوسط عشت فترة شبابي المبكرة التي تزامنت مع بداية تجربتي الفنية، حيث اشتغلت على البورتريهات والمناظر الطبيعية والمباني ذات الشناشيل الخشبية والتي لا تزال أطلالها باقية إلى اليوم”.

في سياق ذلك القول يمكننا العودة إلى الموضوعات التي عالجها سونيا في عدد من لوحاته. بائعة الملابس، الدلالة، السماك، بائعة الأكياس في مطرح، مصارعة الثيران في بركاء، بائعة الأدوية، قلعة نخل، محاسبة بين مالك الأرض والفلاحين. واقعيته تقوم على ركيزتين. الارتباط بالبيئة المحلية والنظر إليها عن قرب واقتطاع أجزاء منها تكون بمثابة شهادة تعبيرية من غير التركيز على المفردات التراثية إضافة إلى مشاركة الناس العاديين همومهم وعرض مشكلاتهم وهو ما يكشف عن الطابع الإنساني الذي تميزت به تجربة الفنان.

لقد فتنته البيئة وجذبت نظره غير أنه لم يضف عليها طابعا رمزيا بقدر ما سعى إلى استحضارها كما هي والتقاط مواقع جمالها كما أنه ركز على المشاهد التي توثق الحياة اليومية مع سعيه لاقتناص اللحظات التعبيرية التي تهب تلك المشاهد قوة استثنائية، تكون سببا مقنعا لاختيارها موضوعا للرسم.       

لقد اختبر الفنان مهاراته وقدرته على التحكم بمواده وتقنياته من خلال لجوئه إلى رسم الموضوعات المتاحة وهو في ذلك نجح في أن يبني أساسا مهنيا صلبا لتجارب الرسامين الذين ظهروا بعده.

كان وفيا للدور الطليعي والريادي الذي قُدر له أن يقوم به. لذلك يمكن القول إن رسامي السلطنة يدينون بالشكر لما فعله ذلك الفنان.

التجريدي مستلهما الواقع

رسام الوجوه كما يُلقب لم تعد الوجوه تثيره بتفاصيلها الدقيقة وما تنطوي عليه من قوة تعبيرية. صار لديه هدف مختلف من رسم الوجوه. البحث عن قدرة الرسم في التعبير من غير الاستعانة بالموضوع الذي هو الوجه. لذلك صارت الوجوه تحضر شبحية من غير ملامح محددة وهي التقنية التي استعملها الرسام في معالجة موضوعاته الأخرى. يومها انتقل سونيا إلى مرحلته التجريدية. وهي مرحلة، حرص الرسام فيها على ألا يكون منقطعا عن أسلوبه. سونيا التجريدي هو جزء مكمل لتجربة الفنان الواقعي. بمعنى أن الرسام وصل إلى المستوى الذي يؤهله للنظر إلى خلاصات عمله باعتبارها أساسا لطريقة مختلفة في معالجة موضوعاته.

تجريديات أنور سونيا تستلهم الواقع من خلال اختزال علاقاته الشكلية وتحويلها إلى رموز. فإذا كانت رسومه الواقعية تحتمل التأويل الحكائي فإن رسومه التجريدية صارت قريبة من الرقى التي ينظر إليها السحرة باعتبارها أسبابا للخلاص. وليس ذلك بعيدا عن المكانة التي يحتلها سونيا في المشهد التشكيلي العماني.

فالرسام الذي لم يدر ظهره إلى الواقع في ذروة انهماكه التجريدي كان يمارس دور الساحر الذي تحلق خفته بمشاهديه من غير أن تفقدهم صفتهم كائنات واقعية.            

أنور سونيا هو ساحر الرسم الحديث في عُمان.

نادرة محمود تجريدية تصف العزلة

لوحة نادرة محمود
لوحة نادرة محمود

“الأقل يكفي” هذا ما يقوله فنها من خلال تقنية تستند إلى الزهد في المواد والغنى في التعبير. هي مقولة صادمة من جهة ما تنطوي عليه من قدرة على الحسم في الخيار بين الرؤية لذاتها وبينها (الرؤية) باعتبارها وسيلة للفهم في عالم تتسارع تحولاته.

عام 1989 حين عرضت رسومها في الشارقة لأول مرة كشفت نادرة محمود عن أن عناصر مغامرتها لا تصلح لأن تكون غذاء مباشرا للحواس، بوظائفها التقليدية. كانت هناك وظائف جديدة لحواس هي الأخرى كانت في طور التجريب والتشكل.

تخيل ما لا تراه

عليك أن تتخيل شكل الطائر ما أن تسمع خفقة جناحيه. عليك أن ترى النهر ما أن يصل إلى مسمعك خرير مياهه. شيء من رقة قطرة مطر بعد أن تكون قطرة المطر قد تبخرت. اللمسة التي تترك أثرا منها على الجدار بعد أن تكون اليد التي خلقتها قد اختفت. ستكون الرسوم مساحة للذكرى، لقاء مرهفا بين الحواس على مائدة الحدس.

أكان ممكنا والحالة هذه أن تكون نادرة جزءا من المشهد الفني العماني؟

تدرك الرسامة أنها ولدت منذورة للاختلاف، بدءا من هشاشة عظامها في طفولتها التي عاشتها في بغداد وليس انتهاء بالمنحى التجريدي الذي اتخذته رسومها، وهو منحى يجعلها تنتمي إلى الأقلية العاكفة على اختلافها، حتى حين يكون التجريد أسلوبا مشاعا في الرسم. 

هذه الرسامة لا تكره المعنى. بل إن المعنى العميق هو ما يشكل مصدر غواية في رسومها. فتلك الرسوم وهي تنتمي بقوة إلى التيار التقليلي في الفن المعاصر لا تجرد العالم المحيط من مظهره المرئي، بقدر ما تسعى إلى الوصول إلى جوهر ذلك العالم بأقل ممكناته البصرية وأكثرها كفاءة.

هي معنية إذا بالمعنى، لكن من غير أن تخضع للشروط الشكلية التي تطرحها المضامين والموضوعات التي يشتبك بها ذلك المعنى.

المأخوذة بسحر المواد

ولدت نادرة محمود عام 1950. درست الحقوق في بيروت غير أنها لم تعمل في ذلك المجال بل فضلت أن تتفرغ للفن، فنانة وناشطة في مجال الفنون حين أسست عام 1993 صالتها “رواق الفنون” في فندق “انتركونتننتال مسقط”. عام 1989 كان مفصليا في مسيرتها الفنية. يومها أقامت معرضها الشخصي الأول في الشارقة. حينها لفت ذلك المعرض الأنظار إلى عالمها الجمالي الخاص. بعده أقامت الفنانة معارض شخصية في دمشق وسوسة والقيروان وبرلين والكويت والمكسيك وبيروت وطهران ومسقط. شاركت عام 1994 في ندوة “إيداع المرأة العربية” التي أقامها معهد العالم العربي بباريس. في العام نفسه عرضت أعمالها في المتحف الوطني لفنون المرأة بواشنطن. نالت جائزة السعفة الذهبية في المعرض الذي أقيم لفناني دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة عام 1992. عام 2001 عملت مع المخرج الإيطالي روبرتو تشولي في مشروع طريق الحرير.

ولكن ماذا عن ذلك العالم الجمالي الذي لفت الأنظار إليه ووضعها ضمن قائمة الفنانين العرب الذين ينتمون للحداثة الفنية العالمية في جزئها الذي نضج بعد ستينات القرن العشرين؟

ما الذي فعلته نادرة لتستحق تلك المكانة؟ 

تدعونا رسوم نادرة إلى أن نقوم بنزهة جمالية لا تخلو من نزعة إلى التطهر.       

هل يكمن السر في بياض سطوح لوحاتها؟

ولكن الرسامة كانت قد استعملت الأصباغ كما لو أنها كانت مقبلة على عالم بهيج. وفي الحالين كانت تتحاشى صنعة التجميل.

سأكون واضحا أكثر. في عالم الأحبار والأصباغ المائية على الورق هناك مجال لممارسة الحيلة، حيث تكون لتقنية استعمال المواد سلطة جمالية شبيهة بتلك السلطة التي يمارسها الفنان. وتكون النتائج حينها حقا متنازعا عليه بين الفنان ومواده. فلا يمكن الفصل بين النتائج التي تم التوصل إليها عفويا وبين النتائج التي كانت مقصودة لذاتها. هناك علاقة سرية لا يفصح عنها الظاهر من العمل الفني. ولأن نادرة كانت حريصة على ألا ترفع يدها عن الورقة (كما كانت تفعل وهي طفلة) فقد حاولت بقوة ألا تسمح للمواد وهي تتفاعل في ما بينها أن تتكرم عليها بحلول جمالية، هي في حقيقتها محاولة لخداع المتلقي والتسلل إلى عينيه بما يُدهشهما بصريا. ألهذه الدرجة تثق الرسامة بالرسم، حتى من غير مواده وبركات تجلياتها؟     

يُخيل إليّ أن هذه الرسامة كانت ولا تزال مطمئنة إلى الرسم، أكثر من أن تكون واثقة بالمواد التي تجعل الرسم ممكنا. سيكون لديها دائما متسع من الوقت لكي تنأى بنفسها بعيدا عن سحر المواد. ولكن تلك المواد وهي تشارك في صنع اللوحة لا تتخلى عن حقها في أن ترى أثرها المضاد. تعيش نادرة إذا صراعا خفيا (بين الرسم ومواده) تسعى من خلاله إلى الإخلاص إلى نزعتها التقشفية، فتود لو أنها التقطت المعنى الإنساني عاريا من بلاغته الزخرفية.       

عُمان التي لم تُرسم بعد

نادرة تعرف أن المخطوطة لا تغير كلماتها
نادرة تعرف أن المخطوطة لا تغير كلماتها

تزعم نادرة محمود أن لوحتها لم تُرسم بعد. كل الرسامين الحقيقيين يقولون ذلك. لم ينبت لواحد منهم جناحان ليرى من فوق (مثلما فعل الإدريسي من قبل في خارطته) حقيقة موقعه على الخارطة. ما تقصده الفنانة بتلك اللوحة يتعلق بالمصير المجهول لفنها. وهو شعور استثنائي لا يمت للتقييمات الإعلامية وحتى الثقافية الراهنة بصلة.

ما من أحد من كبار المتعبدين في إمكانه أن يقول لك “أن لي مكانا محجوزا في الجنة”. يدرك الفنانون أن الخلود قد يخطئهم. ربما كان سيزان استثناء. كان الرسام الفرنسي يرنو إلى اللوفر ووصلت أعماله إلى ذلك المتحف العريق.

حيرة نادرة لا تتعلق بالخلود. شيء كبير منها يذهب إلى محاولة فهم المعنى. معنى أن يكون المرء رساما.

لقد قُدر لها أن تكون عمانية، وكانت في كل ما فعلت عبر مسيرة حياتها مخلصة إلى هذا القدر، ولكنها وقد أصبحت رسامة، كان عليها أن تواجه قدرا مزدوجا. فما معنى أن يكون المرء رساما عُمانيا؟

بالنسبة لنادرة فان ذلك التعبير كان ينطوي دائما على مشكلة وجودية، غاية في التعقيد. مثل ذلك الشيخ الذي التقيته ذات مرة في نزوى، تعرف نادرة أن المخطوطة لا تغير كلماتها، غير أن المعاني تتغير دائما. جعلتها فكرتها السائلة عن الزمن قادرة على أن تكون جزءا من عُمان الحقيقية، لا من عمان الواقعية. ما لم يُرسم بعد هو جزء من خيال ذلك البلد الذي لا يكف عن الحلم الأبدي.

لم تر الرسامة من بيئة بلدها سوى ذلك الخط الأبيض الذي يحيط بزرقة البحر. لم تغرها المشاهد المعمارية بقدر ما سحرتها رائحة البحارة القادمين من بعيد. لم تأسرها عمان التي رآها المستشرقون في هيأة بلد يغفو على أسطورته التي هي مزيج من سفن عائدة إلى الميناء وجمال عابرة للصحراء.

عُمان بالنسبة لابنتها اللواتية هي شيء آخر. شيء أشبه باللوحة التي لم تُرسم بعد. شيء يقبل مثل نبوءة ليشجع الآخرين على الاعتراف بأن هناك جمالا لا يزال ممكنا بالرغم من أنه لن يكون متاحا واقعيا. “هل رأيت الخارطة؟” تقول لك وهي تعرف أن تلك الخارطة لا يجرؤ أحد على وضعها على المنضدة.

لقاء الإيقاع بالإيقاع

نادرة محمود هي فنانة استثنائية لا في بلدها عُمان فحسب بل وأيضا في العالم العربي. لقد اجتهدت الرسامة في أن تكون قريبة من تيار فني لم يقترب منه الفنانون العرب ولم يثر اهتمامهم وهو تيار غني في بلاغته الفنية الخالصة. ذلك هو التيار التقليلي الذي نشأ في أوروبا في ستينات القرن العشرين.

كل عمل من أعمالها التي لا تتشابه هو تجسيد لحالة تأمل عميق في الجمال الطبيعي المتاح وفي ما ينطوي عليه ذلك الجمال من معان إنسانية. فن نادرة محمود هو خلاصة عميقة لما يمكن أن ينتج عنه لقاء الإنسان والطبيعة مجردين من ملامحهما المباشرة. إنه لقاء الإيقاع بالإيقاع.

أفكر بـ”نادرة محمود” وأنا أنظر إلى واحدة من أجمل لوحاتها. التقليليون هم أكثر الناس كرما.

حسين عبيد المقيم وراء حُجب

لوحة حسين عبيد
لوحة حسين عبيد

كمَن يبحث عن ثغرة في جدار لينفذ من خلالها إلى ماضيه الشخصي سعى العماني حسين عبيد إلى أن يستحضر في رسومه العلامات والخدوش والخربشات والإشارات والرموز التي شكلت فضاءه البصري عبر سنوات امتزاج حواسه بما يحيط به من عوالم مكتظة بطقوس سحرية.

تأوهات لبشر عابرين

فنان الأثر والمحيط وهو ابن البحر والبر معا.

كانت هناك لغات غير منطوقة تحيط به من كل جانب هي سر انجذابه إلى مشاهد مهملة ومنسية هي جزء من حياة صامتة، مر بها الزمن وترك عليها أثره من غير أن يحتويها لتكون جزءا من نفائسه.

لقد كان على الرسام العماني أن يزيل الغبار عن الجدران ليصقلها فتكون بمثابة المرايا التي صار يرى من خلالها صورا عاطفية هي جزء من ذاكرة المكان الذي تعددت سطوحه. في كل سطح من تلك السطوح تقع حياة ناقصة، صار عبيد يستأنفها كما لو كانت جزءا من حياته الشخصية.

المكان مسقط

الموضوع حجر عماني هو أشبه بنيزك لا عمر له.

في ذلك الإطار الوصفي يبدو الرسم شأنا موضوعيا، غير أنه في سياق تجربة هذا الرسام يتخلى عن الوصف لصالح البحث عن مغزى الأشكال التي تراكمت، بعضها فوق البعض الآخر.

لا يسير عبيد وراء فكرته أفقيا فهو لا يتبعها بل يفتش عنها عموديا عن طريق التنقيب بحثا عما تبقى من أثر.    

في وقت مبكر من شغفه بالرسم اكتشف جماليات الجدران فصارت عالمه وليست واحدة من مفرداته التشكيلية. يقيم في ذاكرة المكان. وهو يحلم المكان لا يتذكره. ليعيد صياغة وقائع، هي في حقيقتها مجرد تأوهات لبشر عابرين.

وإذا ما كان الرسام العماني قد تأثر برسوم عدد من الرسامين العرب الذين اهتموا بجماليات الأثر والمحيط فإنه نجح في أن يختط له طريقا شكلية خاصة به، من خلال استلهامه لمفردات المكان العماني بكل ثرائه الخيالي.

من الحروفية إلى الجدران

Thumbnail

ولد حسين عبيد في مسقط عام 1968. درس الرسم بطريقته الخاصة. انتسب عام 1987 إلى مرسم الشباب. ثم انتقل بعد سنة إلى النادي الثقافي. في عام 1993 أصبح عضوا في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية. أقام أول معارضه الشخصية عام 1991 في مرسم الشباب. بعد ذلك المعرض توزعت عروضه الشخصية ما بين لبنان والأردن وبلده الأصلي. غير أنه شارك في معارض جماعية وحضر ملتقيات فنية حول العالم، كان أبرزها في باريس، الشارقة، روما، القاهرة، المكسيك، الكويت، بروكسل، أنقرة وبرلين.

شغف في بدايات ظهوره بجماليات الحرف العربي فأقام معرضا بعنوان “الحروفية العربية” عام 1997. غير أنه سرعان ما أتبعه في السنة التالية بمعرض كان عنوانه “ذاكرة الصحراء والبحر” أقامه في قصر اليونسكو ببيروت. سيكون عليه في ما بعد أن يمزج بين العالمين لينتقل إلى “مملكة الحلم” وهو عنوان معرضه الذي أقامه عام 2002 بمسقط.

في ذلك المعرض بدا واضحا أن عبيد تمكن من أدواته وتوصل إلى نوع من الاستقرار الأسلوبي عبر من خلاله عن استيعابه لتأثيرات المفردة الجمالية المحلية، بحيث لم يعد في حاجة إلى تجسيدها بقدر ما صار يستلهمها مكتفيا بأثرها. وهو ما جعله ينتقل بثقة إلى مرحلة أسلوبية جديدة هي الأكثر عمقا واستقرارا مثلها معرضه “الجدار” الذي أقامه عام 2008 في الأردن.

حين يلتفت عبيد اليوم إلى بداياته لا بد أن يكتشف أن فكرة استلهام الحرف العربي جماليا كانت أساسية في تشكيل وعيه الجمالي، بحيث أنها رافقته في مختلف تحولاته وإن كانت تظهر بصور لا تذكر بالبدايات، يوم كان الحرف مقصودا لذاته، من جهة كونه مصدرا بصريا للجمال.

اليوم يظهر الحرف باعتباره أثرا ليس إلا. بقاياه تشير إلى لحظة إنسانية عابرة وسط تركيب تجريدي غامض.

يرى بقوة الحكاية

سعى حسين عبيد وهو ابن بيئة يتقاسمها البحر والصحراء إلى أن يستثمر التضاد اللوني في خلق إيحاء بتراكم سطوح، هي في حقيقتها ليست موجودة إلا على مستوى بصري. وهو ما يعكس اطمئنانا نفسيا إلى ما يمكن أن ينتج عن محاولة الغوص بين الطبقات بحثا عن معنى النظر إلى ما لا يقع في متناول العين. كنا نقف على شاطئ البحر، تظللنا سماء عميقة بزرقتها حين أشار حسين إلى جهة تقع في البحر وهو يقول “هل ترى الجزيرة هناك؟” خُيل إلي يومها بعد أن عجزت عن رؤية تلك الجزيرة “المتخيلة” أن صاحبي كان يحلم بحكايات اختزنتها ذاكرته البحرية. كنا في “سداب” ولم يكن الرسام في حاجة إلى أن يحدثني عن أزرقه الذي أفسدت خياله الصحراء حين اقتحمته بكنوزها الجمالية.

لم أكن منصفا يومها حين اعتقدت أن من الضروري للرسام أن يدير ظهره للصحراء. فكل أثر قبضت عليه يده كان قادما من الصحراء. كانت جزيرته “المتخيلة” الجزء المتمم لحكاية بدأت في الصحراء. بقوة تلك الحكاية كان الرسام يرى ما لم تكن عيناي تصلان إليه. محفورات الفنان على سطوح لوحاته تؤكد أنه يبحث عن ذلك الشيء الذي هو لقيته الروحية التي لا ينافسه عليها أحد. ذلك لأنها تقع في مكان خفي من أعماقه.

بلاده تفعل الشيء نفسه

Thumbnail

لأسباب كثيرة لم يجد حسين عبيد ضرورة لأن يكون تعبيريا في تجريده. هناك سكون يرى فيه الرسام ضالته كمن يرسم حياة صامتة، تجذبه إليها الرائحة قبل الصورة. ولأن الرسام العماني مسكون بقوة أشياء لم تعد تحيطه إلا من خلال ما ترسب منها في ذاكرة حواسه فإنه يستسلم لرغبة عميقة في التحليق تحملها المفردات إليه.

عالم حسين عبيد يضيق ويتسع، حسب الحركة الإيقاعية لمفرداته. إنه ينصت إلى أصواتها القادمة من بعيد. يشم رائحتها وهي تنبعث من مكان خفي. لا يحتاج إلى انفعال مستفز ليصل إلى ذروة متعته بالأشياء من حوله. إنه يحتاج إلى أن يبطئ من حركته ويخفض صوته لكي يسمح لتلك الأشياء بأن تمر وتترك على سطوح لوحاته شيئا من أثرها.

علينا أن نصدق أن عمان، بلاده تفعل الشيء نفسه.

حسين عبيد يرسم بقوة سحر بلاده. وهو سحر لا يقيم في المشاهد الطبيعية وحدها بل في اللغة والإشارات والرموز والطقوس والعادات المبهمة التي تشير إلى نوع من الحياة لم يفك ارتباطه بعد بالبعد الماورائي للثقافة.

هو ابن البيئة العمانية. هذا صحيح. غير أن الصحيح أيضا أنه ابن الروح العمانية التي لا تزال مقيمة خلف حجب من الأسرار.    

حسين عبيد فنان عُماني بعمق. 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.