ثلاث مهجريات
قال مهندس النظام اللبناني ميشال شيحا، وهو الأكثر دراية بواقع بلاده، والآتي من أصول كلدانية عراقية، والمهاجر إلى مصر قبل الاستقرار في لبنان “دون هجرة لا يمكننا الحياة، لكن إذا أضحت الهجرة كبيرة فيمكن عندها أن نموت!”. والحال أن الهجرة ظاهرة فوق واقعية في الحياة اللبنانية، اذ بات هناك الملايين من سكان هذا البلد الصغير في أصقاع الارض، وبرز منهم سياسيون وأدباء ومشاهير، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت رابطتان أدبيتان لا تزال لهما إلى حد هذه الساعة مكانة بارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث، الأولى هي “الرابطة القلمية” التي أنشئت في نيويورك عام 1920 وكان جبران خليل جبران رئيساً لها وميخائيل نعيمة مستشاراً ووليم كاتسفليس أمينا للصندوق. وظلت الرابطة نشطة من عام 1920 إلى عام 1931. وعلى مدى هذه السنوات الإحدى عشرة، كان إنتاجها فاعلا في الأوساط العربية المهاجرة وأيضا في العالم العربي. وإثر موت رئيسها جبران خليل جبران وذلك عام 1931، كفت “الرابطة القلمية” عن نشاطها نهائيا، وتمزق أعضاؤها.
أما الرابطة الثانية فهي “العصبة الأندلسية” التي تأسست في البرازيل والتي كان من بين أعضائها: رشيد سليم الخوري “الشاعر القروي” وشكرالله الجر، صاحب فكرة تأسيس العصبة، وإلياس فرحات ورياض معلوف وشفيق معلوف. ومن بين الأهداف التي حددتها “العصبة الأندلسية” لنفسها “جمع أدباء العربية في البرازيل وتآخيهم وتعزيز الأدب العربي في المهجر وتأسيس منتدى أدبي صرف وإصدار مجلة ناطقة بلسان العصبة وسائر أندية الأدب العربي. والتذرع بكل وسائل الأدب والعلم إلى رفع مستوى العقلية العربية ومكافحة التعصب”. وأنتجت الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ما يمكن تسميته “أدب المهجر”، يعكس في جوهر واقع الغربة والحنين الى الوطن.
لم تكن الهجرة الى الأميركيتين، وحدها طريق اللبنانيين إلى الإبداع والخلق، يقول المفكر اللبناني الراحل منح الصلح إن اللبنانيين بنوا في تاريخهم الحديث قسماً كبيراً من ثقافتهم في المهاجر الأجنبية. وإذا كان المهجر الأميركي الشمالي، والمهجر الأميركي الجنوبي، فإن هناك مهاجر لبنانية أخرى شهدت إبداعات ثقافية لبنانية عصيّة على الفناء مثل المهجر المصري الذي كان من أعلامه خليل مطران ويعقوب صروف وجورجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي ورشيد رضا، والذي أنشأ صحفاً ومجلات وأسّس مسرحاً وسينما ومؤسسات بلا حصر.
وإذا تقصينا “المهجر المصري” يمكن إحصاء عشرات الأسماء من اللبنانيين (والسوريين) الذين ساهموا في النهضة الإبداعية والصحافية في مصر، لنتذكر أن جريدة “الأهرام” أسسها اللبنانيان سليم وبشارة تقلا في الإسكندرية. و”المقتطف” أصدرها يعقوب صروف. أما مجلة “الهلال” فهي قرين اسم الروائي جورجي زيدان، وأشهر المجلات المصرية الفنية “روز اليوسف” التي أسّستها فاطمة اليوسف من طرابلس – لبنان. ووسم اسمها هذه النهضة جيلاً بعد جيل: جورج أبيض رائد المسرح العربي في مصر بعد جورج نقاش، ومؤسس “دار الأوبرا” فيها.
على أن الهجرة اللبنانية كانت موجات وحصلت بأعداد كبيرة على مراحل، وإذ كانت هجرة البدايات أنتجت “أدب المهجر”، لكن الهجرة في العقود القليلة الماضية، صارت تأخذ أبعادا أخرى مختلفة، هاجر الكثير من اللبنانيين إلى البلدان الغربية وأستراليا وأفريقيا، بعضهم عاد إلى لبنان وبعضهم بات يقال عنه “من أصل لبناني”، أو لبناني كندي، أو لبناني فرنسي، أو لبناني يكتب بالإنجليزية أو الفرنسية، ومن الأسماء اللامعة في المهجر الشاعرة فينوس خوري غاتا، الشاعر صلاح ستيتية، الشاعر والمسرحي جورج شحادة (ولد في الإسكندرية) الروائي أمين المعلوف، الشاعرة والرسامة إيتيل عدنان، الروائي غسان فواز، المسرحي نبيل الأظن، المسرحي وجدي معوض، الشاعر عيسى مخلوف، الشاعر وديع سعادة (يعيش في أستراليا)، الشاعر قيصر عفيف (يعيش في المكسيك)، الباحث سهيل القش (مقيم في كندا)، وكذلك الروائي راوي الحاج في كندا، والروائي ربيع علم الدين في أميركا.
ولما كان لبنان بلد الهجرة بامتياز، فهو في مرحلة تحول ملجأ للمثقفين من سوريا والعراق وفلسطين والأردن، والذين كانوا في ربوعه دفعتم الحرب إلى الهجرة، أو العودة إلى بلادهم. وهنا علينا أن نعود إلى كتاب “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” للشاعر الأردني أمجد ناصر، إذ يعود أكثر من ثلاثة عقود إلى الوراء ليطلّ على بيروت أيام “جمهورية الفاكهاني” الفلسطينية والاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
أمجد ناصر أحد الذين عاشوا الحصار من داخله، ينشر ليسجّل اليوميات بوقائعها الحية كما هي. وقيمة هذه اليوميات بحسب ناصر “تكمن في عدم ادعائها وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الأولى. ليس هناك بحث عن بطولة ما. الأشخاص الذين يتجولون في اليوميات أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قرباً من إنسانيتهم. حتى أولئك الذين سيقتلون فيما بعد في مدن بعيدة في صباحات صافية واصلوا حياتهم في اليوميات بحيوية من لا يعرف”.
يمكن للقارئ من خلال ما كتب عن بيروت 1982، أن يلاحظ هذا الكم من الشعراء والمثقفين والكتّاب الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والمصريين الذين كانوا في العاصمة اللبنانية إبّان الاجتياح الإسرائيلي. من بين هؤلاء الذين عاش معهم أمجد ناصر (مثلاً) في بيروت، طاهر العدوان ونبيل عمرو وغسان زقطان وزكريا محمد وسعدي يوسف وهاشم شفيق ورشاد أبوشاور وعماد الرحايمة وفيصل حوراني وجميل هلال وميشال النمري وسليم بركات وحيدر حيدر ونوري الجراح، وشاكر لعيبي وعدلي فخري وزين العابدين فؤاد وناجي العلي ورسمي أبوعلي. وهناك أسماء عديدة لا يمكن حصرها.
في منتصف الثمانينات، صارت باريس “ملجأ العرب” بامتياز، بعدما صرخوا طويلا “ديغول خبّر دولتك، باريس مربط خيلنا”. إليها غادر المثقفون العرب الذين آوتهم بيروت طويلا وسبقهم إليها اللبنانيون، وإليها قدمت مؤسسات استثمارية وإعلامية وثقافية عربية ولبنانية بعدما دخلت بيروت سنة 1982 عصر ما بعد الاجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين ومعهم العرب منها، فجورج طرابيشي كان في بيروت وفي العام 1984 غادر إلى باريس وبقي فيها إلى حين وفاته، وأدونيس كان في بيروت وبات أكثر تواجده في باريس، وعاد محمد الماغوط إلى دمشق، وانتقل محمود درويش إلى عواصم أخرى. وكذلك سعدي يوسف، وقبلهم جان دمو وسركون بولص.
مع كثافة الهجرة العربية عموما اللبنانية خصوصا، باتت هناك أجيال من الكتاب والشعراء “من أصل لبناني”، منهم الشاعر المكسيكي خايمي سابينس وهو في الأصل من بلدة صغبين في البقاع الغربي، الروائي الأسترالي ديفيد معلوف من أصل لبناني بعيد إذ هاجر جده إلى أستراليا عام 1880 وهو ولد في بريسبان بكوينزلاند عام 1934، أنجز عدداً كبيراً من الروايات منها: “جونو” (1975)، “حياة متخيلة” (1978)، “العالم الكبير” (1990)، “تذكر بابل” (1993).
وسبق أن أصدر الروائي أمين معلوف رواية بعنوان “بدايات” تبيّن انتشار آل المعلوف في أصقاع الأرض، بدءاً من شهرتهم بالشعر في أميركا الجنوبية، مرورا بحضورهم في أوروبا وكوبا والماسونية. ياسمين شار، ليست قريبة الشاعر الفرنسي رينه شار، هي كاتبة لبنانية تقيم في سويسرا، تشكل اليوم واحدة من رموز الرواية اللبنانية التي تُكتب بالفرنسية. وهناك ربيع علم الدين من عائلة درزية “محافظة”. وقد غادر بيروت وحربها وهو في السابعة عشرة من العمر إلى أميركا، ترجمت بعض أعماله إلى العربية منها “أنا سارة”، “امرأة لا لزوم لها”.
ياسمين طرابلسي لم نقرأ لها بالعربية ولا حتى مجرد نص، عرفناها حين نالت “جائزة الرواية الأولى” في فرنسا عن روايتها الأولى “أطفال الساحة”، وهي ولدت في باريس من أم برازيلية وأب لبناني. وتمكّنت الكاتبة اللبنانية ياسمين خلاط (لبنانية من مواليد مدينة الإسماعيلية المصرية 1959) بفضل كتاباتها الروائية من احتلال موقعٍ خاص في الساحة الأدبية الفرنكوفونية. لفتت الكثيرين من النقاد في فرنسا والعالم العربي، ومن رواياتها “اليأس خطيئة” التي نالت عام 2001 “جائزة القارات الخمس” الفرنكوفونية.
ياسمين غاتا هي ابنة الشاعرة والروائية اللبنانية فينوس غاتا الخوري. ولدت في فرنسا عام 1975 ودرست فيها تاريخ الفن الإسلامي. ترصد جذورها المتعددة من الأبوين والأجداد. عاشت حياتها في فرنسا ولم تتقن اللغة العربية. وهناك الروائية ألماظ أبي نادر التي وُلدت وترعرعت في بلدة صغيرة في جنوب غرب ولاية بنسلفانيا تُدعى كارمايكل وتشتهر في مناجم الفحم.
ثمة الكثير من الأسماء الروائيّة والشعريّة البارزة من أصول لبنانيّة في أميركا اللاتينية، مثل الروائي الكولومبي لويس فيّاض ولد في بوغوتا عام 1945. في رصيده ثلة من الروايات فضلاً عن مجموعات قصصيّة ومقالات أدبيّة نُشرت في مجلات وصحف كولومبيّة وأجنبيّة مختلفة. صدرت باكورته “أصوات النار” عام 1968، تلتها “رائحة المطر” و”أمثولة حياة”. والأرجنتيني الشاعر إدغاردو زوين (من بلدة يحشوش الكسروانيّة الجبلية)، ترجمت قريبته الشاعرة الراحلة صباح زوين بعض قصائده إلى العربية، وألبرتو موسى ولد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في عام 1961، من أعماله “لغز القاف”، صدرت في ترجمة مصرية.
والكاتب هرنان تراك، وُلد في كولومبيا عام 1926 إلا أنه عاش باستمرار في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وهو يتعاطى الشعر، وله دراسات أدبية مهمة في مختلف حقول المعرفة والإبداع والإنسانيات، من أعماله الشعرية “ساعة سريرية” (1964)، و”أقربائي” ( 1968)، وله كذلك “قصة وكاتب”، و”زمن الصمت” ( 1968)، توفي هرنان تراك في كراكاس عام 1977. هناك الشعراء البرازيليّون كارلوس نجّار وجورج مدوّر وجميل منصور حدّاد والروائي ميلتون حاطوم (متحدّر من منطقة برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية) اتّخذ من مناوس البرازيليّة مسرحاً لرواياته الثلاث، “حكاية شرق ما” (1989)، “شقيقان” (2000) و”رماد الشمال” (2005)، وكلّ رواياته تتناول مآس عائليّة.
ومواطنه رضوان نصّار (من بلدة أبل السقي في الجنوب)، وُلد سنة 1935 في ساو باولو، كان والده مسيحياً أرثوذكسياً، ووالدته بروتستانتية، لكن الأولاد أُنشئوا على المذهب الكاثوليكي لتجنب التمييز في المعاملة. عندما كان نصار في السادسة عشرة، انتقل إلى العاصمة ساو باولو، وهناك درس اللغة والقانون، قبل أن يتحول إلى الفلسفة في جامعة ساو باولو. في الثامنة والأربعين من عمره، سنة 1984، أعلن نصّار عن تقاعده، وأصبح مزارعاً، وترجمت منشورات “الجمل” بعض أعماله.
وثمّة الكثير من المقالات والدراسات والكتب البحثيّة التي تروي سيرة العرب وأدبهم في أميركا اللاتينيّة، منها كتاب “اللبناني في فنزويلا” للباحث والديبلوماسي الفنزويلي من أصل مصري سامي عبيد.
ومن القصص الطريفة التي يرصدها الكاتب قصّة عائلة صعب الشعريّة التي هاجرت من البقاع الغربي، عبر رحلة الشاعر والأب نمر صعب وزوجته الشاعرة علياء حلبي في مطلع الستينات من القرن الماضي، واستقرّ بهما الحال في مدينة “التجري” الفنزويليّة التي تشبه في جمال سحرها الطبيعة الجبليّة في منطقة البقاع الغربي في لبنان. فانخرط الأب والأم في الحياة الثقافيّة، وأجادا كتابة الشعر باللغة الإسبانيّة.
الثيمة الأبرز في كتابات الكتاب من أصل لبناني، ليست الحنين والشعور بالغربة والتغني بـ”بوطن النجوم” (إيليا أبوماضي)، أو “لكم لبنانكم ولي لبناني” (جبران خليل جبران)، بل سؤال الهوية من جانب، وتناول الحرب من جهة ثانية، إلى جانب تناول مواضيع يحبّذها الغرب كالحكواتي وشهرزاد والعذرية والشعر القديم وحكاية الاجداد وألف ليلة وليلة والإرهاب والجذور.
كتب غسان فواز عن الحرب، وكذلك راوي الحاج في روايته “مصائر الغبار” (صدرت عن شركة المطبوعات)، وكتبت ياسمين شار عن الحرب وخطوط التماس بعنوان “خط الحدود” (ترجمت عن المركز الثقافي العربي)، وتدور أحداث رواية “لغز القاف” لألبرتو موسى (المركز القومي للترجمة) حول شاعر جاهلي خيالي وتمزج الأساطير العربيّة القديمة بالوعي والحساسيّة الأدبيّة الحديثة في أميركا اللاتينيّة، ويوازن بين الأصالة والزيف في نصوص عمرها مئات السنين، وكان مرشده قصاص أعمى هو بورخيس.
ينتج عن هذه الرحلة الأدبية نثر شعرى ذو جمال نادر، تتخلله معارف عن عالم شرقي قديم وشاسع، طالما افتتن الغرب بتخيله. أما ألماظ أبي نادر، فقد روت قصة عائلتها في مذكراتها التي شكلت معلماً أدبياً وظهرت بعنوان “رحلة عائلة من لبنان”. يدور الكتاب حول المجاعة التي حلت في لبنان إبان الحرب العالمية الأولى. كما يتحدث عن رحلات عائلتها ذهاباً وإياباً بين لبنان والعالم الجديد، بما في ذلك عمل والدها كبائع متجول على نهر الأمازون في العشرينات من القرن الماضي. ووضعت ياسمين غاتا سيرة العائلة من خلال “ليل الخطاطين” (دار النهار – بيروت).
تقول “انطفأت في 26 نيسان 1986 عن ثلاثة وثمانين عاماً. كانت إسطنبول تحتفل بعيد الزنبق في أمير جان. صبيحة اليوم نفسه أبلغ ابني نديم وفاتي إلى الدوائر البلدية في بكلربكي القرية الساحلية المتربعة على الضفة الآسيوية للبوسفور. كان رحيلي بلا مشاكل كما كانت عليه حياتي. لم أخف الموت مرة فهو لا يقسو إلا على من يخشونه. لا صراخ ولا دموع. جاء موتي لطيفاً لطف القصب عندما تغط أليافه في المحبرة. وجاء أسرع من الحبر يشربه الورق. حرصت على أن لا أخلف ورائي أي فوضى. رتبت حياتي وأدوات الخطاطة التي كنتها”. في القسم الأخير من الكتاب نقرأ ما يشبه نعيا مفصلا يتلوه جو قصصي شعري حزين.
الشاعر المكسيكي خايمي سابينس الذي أمضى طفولة في كنف والديه على ما روى هو نفسه فيما بعد، ظل يتذكر ما كان يرويه والده من قصص وروايات حملها معه من لبنان منها قصص ”عنتر” ومغامراته وقصص ألف ليلة وليلة. وعلى طريقة ”الحكواتي” كان الوالد يترك الأولاد في كل ليلة عند عقدة يتشوقون في اليوم التالي للاستماع إلى البقية وكثيرا ما كان الأب المهاجر من لبنان يردد أمام أولاده أغنيات شعبية لبنانية. ولما سأله ابنه الصغير خايمي مرة عما يقول أجابه أغنيات شعبية لبنانية يرددها البناؤون في القرى وهم يشيدون البيوت.
التحق عام 1949 بكلية الآداب والفلسفة في الجامعة الوطنية في مكسيكو، وأدرك في تلك السنوات أن الشعر قدره وأنه شاعر محترف. إلا أن ضرورات الحياة حملته من جديد إلى مسقط رأسه في ولاية تشيابس الجنوبية. ترجم الشاعر قيصر عفيف بعض قصائده إلى العربية ونشرت عن دار نلسن.
لربيع علم الدين قول أصبح مع الوقت معلماً من معالم إشكالية الهجرة والشتات “في أميركا أندمج لكن لا أنتمي، في لبنان أنتمي لكن لا أندمج”. وتعاطت رواياته مع محاور ثلاثة هي الهوية والموت والحرية الفردية.
وحين كتب ميلتون حاطوم روايته “الشقيقان” وصدرت مترجمة لدى دار الفارابي، كان يدرك التناقض اللبناني، أو الثنائية بين الالتحاق بالغرب والتعلق بالشرق. تدور أحداث الرواية في مدينة مانوس البرازيلية داخل مجتمع المهاجرين اللبنانيين والعرب الذين يشكلون اليوم أقلية ولكنها مؤثرة جداً في البرازيل.
ويطلق على المواطنين في أميركا اللاتينية ذوي الأصول العربية إلى اليوم اسم الأتراك نظرا لقدوم أوائل المهاجرين إلى هذه الدول خلال فترة الحكم العثماني وكانوا لذلك يحملون وثائق سفر صادرة من الدولة العثمانية. بطلا رواية حاطوم في “الشقيقان” هما عمر ويعقوب، ابنا مهاجرين لبنانيين، تعرض الرواية لحياتهما وتطورها كجزء أصيل من تاريخ البرازيل، واحد منهما يبقى في البرازيل والآخر يعود إلى لبنان حرصاً على الجذور هنا تبرز مشهدية الواقع اللبناني. ويتحدث هرنان تراك في كتابه “أقربائي” عن أجداده وأصله العربي، وكيف أنه كان بين والده ووالدته جسر بناؤه غير متين، إنه يتذكر في كتاباته صوت الأذان، وبائعات الفل والياسمين، والعديد من الذكريات الجميلة التي حملها أجداده معهم إلى مهجرهم الجديد.
باختصار، يمكننا القول ليس ثمة تشابه بين الجيل الثاني والثالث والأول في المهجر، أدب الجيل الأول من المهاجرين، وقد غلب عليهم اسم السوريين في أميركا الشمالية (نسبة إلى سوريا الكبرى قبل الانتداب الفرنسي) والترك في أميركا الجنوبية، نسبة إلى الأتراك الذين كانوا يحتلون بلادهم في ذلك الزمن. وكان الشعر الفن الوحيد تقريبا لدى أدباء المهجر في أميركا الجنوبية، وكتب أدباء المهجر في أميركا الشمالية الشعر والمقالة والقصة والرواية والمسرحية والسيرة، أما الجيل الثاني والثالث فقد اختاروا أنماطا مختلفة من الثقافة تتماهى مع ثقافة بلادهم الجديدة، وأيضا تتناغم مع ثقافة العولمة والانفتاح على الأجناس الأدبية، بين ذاكرة الأجداد والجنس والمتخيل والحياة الفردية وتوظيف التاريخ والإكزوتيك.