جابر عصفور ثقافة التخلف
جابر عصفور صاحب حضور دائم في سماء الثقافة العربية كاتبا وناقدا ومُحكما ورمزاً من رموز النقد الأدبي. هذا اللقاء المطول معه جرى في مكتبه بمؤسسة الأهرام وسط القاهرة. في الحوار معه استعدنا أطروحاته ودلفنا إلى تصورات وأفكار صاخبة تُهيمن على ساحات الثقافة العربية وتطرح نفسها بقوة في ظل سيادة ما كشفه هو من قبل وسعى إلى تفكيكه مُعرفا إياه بـ”ثقافة التخلف”، تلك التي تُبدّل خرائط المجتمعات العربية كل يوم. اختطفنا نحو ساعتين من وقته، لنُعيد النبش في قوالب صلدة، حاكمة للإبداع والثقافة، وارتحلنا معه في موضوعات تتراوح ما بين قضايا الفكر الديني واللون الأدبي والرؤى الاجتماعية، وأفكار تتعلق بالإبداع والفكر وأدوارهما المجتمعية وفي التأسيس لمستقبل عربي مختلف. من توصيف عميق أخاذ إلى طرح جديد مُستحدث ينتقل عصفور كمثقف طائر يزور كُل شُجيرة متذوقا ثمرها، وتاركا بصماته دون احتراز أو وجل، موقنا أن هدف المثقف أو المبدع هو الانتقال من وهاد الضرورة إلى أفق الحرية المُنفتح. يفيض جابر عصفور عذوبة ماتعة في الحوار مثلما هو الحال في كتاباته. عذوبة تدفعك إلى الصبر على سكناته ولحظات تأمله بين سؤال وآخر، كأنه يعود بالزمن إلى أزمنة مضت عايش خلالها تطورات وتغيرات جمة شهدتها ثقافتنا العربية. وإذا كان فرانكلين بنجامين يقول “إما أن تكتب شيئا يستحق القراءة، أو تفعل شيئا يستحق الكتابة”، فإن ما يقوله ويفعله ويكتبه جابر عصفور يستحق القراءة والكتابة والاحتفاء، لأن الرجل يمنحك متعة أن تُفكك أفكارك السابقة، وتخلع أردية لم تخترها، وتُحلق في سماوات واسعة، مُستشعرا متجاوزاً حدود مدارات رُسمت لك سلفا، لبلوغ مساحات ظلت مُحرمة عليك لتفكر وتتدبر وتتأمل في كلُ شيء. جابر عصفور من مواليد مدينة المحلة، في شمال القاهرة، عام 1944، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة عام 1965، وحصل على الدكتوراه عام 1973 وعمل أستاذا للأدب العربي بجامعة وسكنسون ماديسون بالولايات المتحدة، وشغل عدة مناصب هامة بقطاع الثقافة في مصر، كان أبرزها منصب وزير الثقافة، لمرتين سنة 2011 و2014 في ظل ظروف الثورة المصرية التي شهدت استقطابات حادة، وقد أدى توزّر جابر عصفور في 2011 إلى وقوعه تحت سهام النقد الحاد من قبل جل مثقفي مصر المطالبين بالتغيير. لجابر عصفور مؤلفات عدة ، بينها “أنوار العقل” ، “زمن الرواية”، و”ثقافة التخلف” وغيرها.
أجرى الحوار في القاهرة: مصطفى عبيد ومروان مصطفى
الجديد: أنت أحد المهمومين بثقافة التخلف، مُتأملا ومؤصلا ومحللا وطارحاً لتصورات المواجهة. كيف تُشخص تلك الثقافة بعد صعود السلفية الفكرية وميلاد تنظيمات إسلاموية دموية تجاهد ضد الآخر وضد المرأة وضد الحرية؟
جابر عصفور: كل ذلك علامة من علامات ثقافة التخلف، وعندما يتحول الخطاب الديني إلى خطاب إرهابي، وإلى فعل إرهابي، فإن هذا مظهر من مظاهر ثقافة التخلف، وهي ثقافة لا تسعى للحوار ولا تعبأ بالاختلاف، ومن يؤمن بها يؤمن أنه يمتلك وحده الحقيقة، وغيره على ضلال وعلى باطل، ومن ثَم كافر، يجب القضاء على وجوده. وللأسف نحن نعيش مرحلة تراجيدية من مراحل ثقافة التخلف، ويمكن قراءة آثارها حولنا، فعلى مستوى السياسة تغيب الديمقراطية ويخفت دور الدولة المدنية، وعلى المستوى الاجتماعي تغيب العدالة ويزداد الفقر، وعلى المستوى الديني يشيع خطاب نقلي تقليدي يرفض أيّ طرح عقلي وتقف المؤسسات الدينية نفسها ضد أي رغبة في تجديد الخطاب الديني.
مسألة المرأة
الجديد: المرأة العربية ضحية لثقافة التخلف. ومازال الميراث الثقافي ينظر إليها باعتبارها ناقصة عقل ودين مستندا إلى روايات نقلية وتفسيرات مغلوطة. هل ترى مهمة مساعدة المرأة على التخلص من الانسحاق ضد سنابك ثقافة التخلف مسؤولية الحكومات أم النُخب أم المثقفين؟ وهل هناك نماذج خارجية يُمكن محاكاتها؟
جابر عصفور: قول البعض إن المرأة ناقصة عقل ودين لا يمكن نسبته للنبي محمد “ص”. هذا كلام مكذوب، وضعته ثقافة معينة للتحقير من شأن المرأة على مدى عصور العرب. ولا يصح ولا ينبغي أبدا ونحن في عصر يحترم المرأة وفي عالم يقدرها ويفتح لها الأبواب للعمل السياسي والتنفيذي أن نكرر مثل هذا الحديث، حتى وإن وجد في صحيح البخاري. هذا لا يليق بنا. أما مهمة مساندة المرأة فهي مسؤولية الجميع: الحكومات، النُخب، والمثقفين وكل فئات المجتمع.
في تصوري لسنا في حاجة لتجربة دولية أو غربية لمحاكاتها لدعم المرأة أو مواجهة ثقافة التخلف، علينا أن نعود إلى جذورنا الثقافية ونفكر فيها، فعندنا في القرآن الكريم اهتمام بالعقل وأول آيات القرآن الكريم هي “إقرأ” أي أعمل عقلك، ولو أعملنا عقولنا لعرفنا أن ما يتفق مع العقل قبلناه وما لا يتفق رفضناه.
عصر الرواية سيستمر والشعر لن يرجع لماضيه والمسرح يزدهر بالديمقراطية
نحن في مصر نعاني من انفجار سكاني، وأنا في هذه الحالة أحتاج إلى قرار صادر من الحكومة يقول بتحديد النسل، أو يقر بأنه لا دعم لمن ينجب أكثر من اثنين أو ثلاثة، وعندما يخرج علينا قائل بأن النبي قال “تناكحوا تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة” نقول له إنه حديث نسفه الدهر. لقد قيل والمسلمون قلة مُحاربة، والآن المسلمون بمئات الملايين ولا يتعرضون للاضطهاد بسبب دينهم. نفس الأمر عندما يقول لنا قائل حديث الذبابة الذي يدعي أن من تسقط ذبابة في إنائه فإن عليه أن يغمسها في الإناء، هنا نقول إن العلوم الصحية رأت أن ذلك غير صحيح، لذا فإن أيّ أمر نعرضه على العقل، وما يقبله العقل صحيح، وما يرفضه غير صحيح، لأنه حجة الله علينا يوم القيامة.
حرية الكاتب
الجديد: يقول الأديب الكبير يوسف إدريس كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا لممارسة إبداعه بشكل كامل بعيدًا عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على رحيل إدريس، هل تغيرت تلك الفكرة، وإلى أي مدى يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تلعب دورا في كسر القيود على الإبداع؟
جابر عصفور: بالطبع لم تتغير مقولة يوسف إدريس، ونحن نستطيع استعارتها مرة أخرى للتعبير عن الحال الذي وصلنا إليه. بل سأقول ما هو أصعب. مازال ما قاله طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” قبل ثمانين عاما فيما يخص الواقع العملي خيالا لم نصل إليه. وما دعا له وما تبناه مازلنا نلهث وراءه، سواء فيما يخص الحريات أو الديمقراطية، وما يخص الخطاب الديني وتصوراتنا بشأن الدين.
أما الدور الخاص بالتكنولوجيا فيجب أن نتذكر أنها مجرد أدوات بمعنى أن المناخ الحاكم يجب أن يكون مستوعبا لحرية الإبداع، بغض النظر عن الأدوات المستخدمة. وهنا، فإننا نقول إنه يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة في نشر الانغلاق والتكفير والكراهية ورفض الآخر، لأن التكنولوجيا مجرد أداة يمكن استخدامها في الشيء ونقيضه معا. نحن في حاجة لاستخدام العقل أولا حتى مع هذه التكنولوجيا.
الجديد: ضاقت بك مساحة الحرية خلال سبعينات القرن الماضي فسافرت مرتحلا وكتب عنك الشاعر الراحل أمل دنقل قصيدته الشهيرة “الطيور”. ألا ترى أن مساحة الحرية ضاقت كثيرا عما كانت عليه، والقيود لم تعد قيود أنظمة الحكم فقط، بل امتدت للمؤسسات الدينية البارزة في المجتمعات العربية؟
جابر عصفور: بالطبع الموقف تغير كثيرا بعد تنامي الجماعات الإرهابية وشيوع التكفير وكان هذا التغير للأسوأ. وهناك مؤسسات دينية مهيمنة على الفكر والثقافة تمارس السلوك ذاته الخاص بجماعات الإرهاب. المشهد مزعج برمته.
وأعتقد أن جرأة الكاتب العربي تطورت بشكل كبير وفاقت استبدادية الحاكم، وهناك كتابات جديدة جريئة جدا نجحت في قول أمور كان من الصعب قولها في الماضي. وأنا، على سبيل المثال، ذهبت لمشاهدة فيلم “الضيف” للكاتب إبراهيم عيسى، وأعجبتني جرأة الحوار وقوته، وسألت من الذي سمح للفيلم أن يخرج إلى النور، وعرفت أن الفيلم ظل محتجزا في الرقابة لنحو ثمانية أشهر ولم يسمح له بالخروج إلى النور إلا عندما وصل الأمر إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه وسمح بعرض الفيلم. وهذا يعني أن هناك خللا في المنظومة المعنية بالثقافة، لأنه لا ينبغي لمؤسسات الرقابة أن تنتظر رأي الرئيس في كل عمل إبداعي للسماح بعرضه. وهذا يعني أن كل القيادات لا تستطيع اتخاذ قرار، والخوف صار من طبائع الأشخاص المكلفين بمهام سياسية.
ورأيي أنه يجب أن تكون هناك حرية لاتخاذ القرار خارج دائرة الرئيس. الحرية هي الضامن الوحيد للتقدم ولا تقدم بدونها. لقد قلت من قبل وما زلت أقول إنه لو كانت هناك حرية في مصر سنة 1967 لما وقعت هزيمة يونيو. ولو كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر سمح للناس بالتعبير عن آرائها لما جرت الهزيمة وقتها. لو كانت لدينا تعددية في الرأي والفكر ما جرى ما جرى.
التسلط والانفجار
الجديد: كتبت من قبل أن الدولة التسلطية المتوزعة على الأقطار العربية، والتي تحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع لصالح الطبقة أو النخبة الحاكمة، تقوم شرعية الحكم فيها على استعمال العنف والإرهاب أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية. كيف تقرأ الخريطة الآن بعد نحو ثماني سنوات على ما يعرف بثورات الربيع العربي؟
جابر عصفور: لا نزال حتى الآن تحت أسر الدولة التسلطية، ولم يحرك ما يعرف بالربيع العربي أي ساكن جذري، فمازالت لدينا المؤسسات نفسها. والأمثلة واضحة وكثيرة وربما نراها في سوريا، الدولة التسلطية التي مازالت قائمة، وحتى في قطر فإن هناك حاكما واحدا يتحكم في شعب كامل ويضع سياسات قد لا تتوافق معهم. وفي باقي الأقطار لم تتحسن الأوضاع بعد الثورات.
الجديد: هل تعتبر أن طبيعة انتفاضات الربيع العربي جلبت على نفسها الثورة المضادة، لكونها من البداية لم تتمكن من بلورة خطابات قادتها إلى الفشل، هذا لو كنت تعتبر أن هذا الربيع فشل حقاً وانتهى الأمر. كيف تقرأ هذه المسألة؟
جابر عصفور: من المبكر جدا الحكم على ثورات الربيع العربي الآن. لقد اختلط الحابل بالنابل، فلم نعد نعرف الوطن الحقيقي من الوطن المجازي، لأن هناك جهات أجنبية دربت شبانا في مجموعة من البلدان على إحداث ثورات. لماذا؟ لا نعرف. هذا الأمر ثابت ومعلن، وأعتقد أنه يحتاج لبحث ودراسة متأنية وستظهر الكثير من الحقائق حتما مع الوقت.
دور النقد
الجديد: كيف تطور منهجك من المذهبية النقدية بمعناها الضيق الصارم إلى مدارات “النقد الثقافي” الرحبة حيث الوصل التفاعلي بين عمل الناقد وثقافة مجتمعه التي تتولد منها ومن مواجهتها الأعمال الإبداعية الأصلية والجذرية؟
جابر عصفور: النقد عند الناقد ليس دوغما. ليس مقولة ثابتة تتحكم فيها مجموعة من القواعد الجامدة، إنما النقد حركة تتناسب مع حركة الواقع. وعلى الناقد أن يغير من بعض أدواته حتى يستجيب أكثر لحركة الواقع. وأنا أرى أن أهم شيء في الواقع الثقافي الإبداعي العربي هي المعطيات التالية: أولا أننا نعيش في ظل دولة تسلطية. وثانيا أننا نعيش تحت تهديد ما يسمى بالإرهاب الديني الذي يتحالف أحيانا مع الدول التسلطية. وثالثا أن لدينا حركة استثمار ضعيفة. ورابعا أن العالم العربي يتراجع اجتماعيا وثقافيا. وخامسا أن المؤامرات على العالم العربي من العالم الغربي تزداد عنفا وهذه المعطيات جميعا تجعل الناقد ينزل من برجه العاجي ويندمج مع مجتمعه، وهذا ما دفعني للانتقال إلى النقد بمعناه الأوسع الواقعي.
تحديد سلطة الأزهر
الجديد: هل تعتقد أن هناك كتابا تجب مصادرته تحت لافتة “حماية الأمن العام” وهل أنت مع منع الكُتب لاعتبارات ما؟ في هذا السياق هل أنت مثلا مع منع كتب سيد قطب في مصر باعتبارها مُحرضة على الإرهاب وتكفير المجتمع؟
جابر عصفور: أي كتاب يجب أن ينشر إلا إذا كان خطرا على الأمن القومي. وأعتقد أن هناك كتبا عديدة للسلفيين في مصر منشورة تمثل خطرا كبيرا على الأمن القومي، وللأسف الشديد تباع أمام المساجد كل يوم وفي معرض الكتاب المصري ذاته.
ومن الضروري فصل الدين عن الدولة. وهذا هو المحك. إننا نحتاج لجانا من المثقفين والعلماء المستنيرين مثل سعدالدين الهلالي للبحث في هذه القضية. وفي اعتقادي أن الأزهر أصبح سلطة دينية وللأسف نحن الذين مكناه من ذلك، ويجب أن نلغي سلطته الدينية ونعيده كسلطة تعليمية فقط. وشيخ الأزهر ليس بابا روما. وحتى بابا روما أصبحت سلطته محدودة جدا ولم يعد بإمكانه مثلما كان في الماضي خلع حاكم لأن المجتمعات الأوروبية فصلت فصلا كاملا بين الدين والدولة وحتى الأحزاب التي أخذت أسماء دينية في إيطاليا هي أحزاب تفصل بين الدولة والدين تماما ولولا ذلك ما كان سيكون لها حضور. باختصار نحن نستطيع أن نحقق ذلك ولكن بإرادة سياسية.
عصر الرواية
الجديد: أنت صاحب العبارة الشهيرة “إنه عصر الرواية” وصدر لك كتاب بنفس العنوان قبل الألفية بقليل، وصار كل من يكتب الآن يُجرب في مسار الرواية وأتخم سوق النشر بروايات بعضها صالح وكثير منها طالح. إلى أي مدي يُمكن ترشيد موضة الكتابة الروائية؟ وإلى أيّ مدى يستمر عصر الرواية؟
جابر عصفور: أصدرت كتاب “زمن الرواية” وبعد ذلك ازدهرت الرواية وأنا لم أكن أدعو إلى أمر وإنما أسجل واقعاً. كان الدافع لي في هذا الكتاب تجربة بسيطة جدا فقد كنت أتعامل مع ناشر صديق وسألته على ديوان شعر لشاعر مرموق وقال لي إن هذا الكتاب لم يبع خلال عامين سوى ستين نسخة، وسألته عن الروايات فبدت أرقام المبيعات عالية. وهنا فكرت ودخلت في دراسات لقراءة تغير أنماط الآداب في العالم العربي، ووجدت أن القصيدة تتحدث عن آراء قاطعة، أما الرواية فهي المعنية بالتفاصيل أكثر والناس في فترات الأزمات تبحث عن التفاصيل. من هنا قلت إنه عصر الرواية.
وأعتقد أن عصر الرواية سوف يبقي ما بقيت هناك رغبة في معرفة أسباب ما يجري، لكن إذا ازدادت الديمقراطيات في العالم العربي سيزدهر فن المسرح لأنه حوار مباشر وواسع ومنفتح. أما إذا كان المجتمع يريد معرفة ما الأسباب ويمكن ترشيد الكتابة الروائية من خلال أعمال النقاد فهم معنيون بتوضيح الجيد من السيئ.
الحذر مطلوب في التعامل مع مصطلح "الأكثر مبيعا " وشباب الأدباء لهم بصمات جيدة
الجديد: كيف ترى منجزات جيل الروائيين الشباب؟ وما هو رأيك في فكرة “الأكثر مبيعا” التي صارت محل تنافس باعتبارها أداة جودة لدى دور النشر. هل هناك جديد جمالي وبنائي ولغوي وموضوعي حملته الروايات الجديدة؟ أم أن الحصيلة ضئيلة ولا تنعش في خيالنا فكرة تفوق الرواية على الشعر؟
جابر عصفور: أرى أن لكل جيل إنجازاته وأن جيل الشباب قدم ألوانا جديدة وترك بصمات جيدة. وفي تصوري فإنه يجب أن نكون حذرين جدا في التعامل مع الأكثر مبيعا، فهناك مثلا رواية مثل “اسم الوردة” وزعت آلاف وهي جيدة جدا، أو رواية “لولويتا” لنوبوكوف وهي رواية ممتازة، وعلينا أن نميز بين نوعين من الروايات فهناك رواية أدبية جيدة، وهناك رواية تنجح لأسباب أخرى مثل اختراقها للجنس أو السياسة أو غيرها. ولو نظرنا مثلا لرواية “شفرة دافنشي” لدان براون التي باعت أكثر من تلك الروايات سنجدها أقل كثيرا في المستوى الأدبي. وبالطبع في العالم العربي ألوان شتى وكتابات بعضها جيد وبعضها ضعيف وهناك بالطبع جديد بنائي وجمالي فلكل جيل بصماته الخاصة.
وبعض النماذج التي أقرأها ممتازة جدا لكنها نادرة، وهناك نماذج أخرى رديئة جدا. وأتصور أن الشعر سوف يظل قائما وقد يتطور، لكن الزمن لا يعود إلى الوراء. ولا يمكن لأحد أن يتصور العودة لزمن أحمد شوقي فالشكل يتغير والتصور والبناء. الفن يتمتع بديناميكية دائمة ولا يمكن تكرار الماضي.
أنتصر لإدوارد سعيد
الجديد: تابعت خلال دراستك في جامعة وسكنسون ماديسون بأميركا نموذجين لمثقفين عرب، أحدهما يعبر عن الأصالة والارتباط بالجذور وهو إدوارد سعيد، صاحب الأصل الفلسطيني، والآخر يعبر عن التنكر للجذور والتعالي علي الوطن الأم وهو إيهاب حسن، ذو الأصول المصرية. إلى أي مدى استمر تكرار النموذجين في المثقفين العرب المهاجرين إلى الغرب، أو جرى البناء على التجربتين والمشروعين؟
جابر عصفور: عندنا الآن أكثر من إيهاب حسن وأكثر من إدوارد سعيد. على مستوى الكتابة النسائية هناك ليلى أحمد وهي أستاذة نوع في جامعة هارفارد وأول مصرية تمسك هذا المنصب الرفيع في جامعة هارفارد. وهناك العشرات من المصريين والعرب في جامعات أميركا وجامعات أوروبا والبعض يرتبط بالجذور المصرية والبعض الآخر لا يرتبط وينزوي.
قرأت مؤخرا كتاب “الخروج من مصر” لإيهاب حسن وقد تركها وهو سعيد بهذا الخروج، رغم أنها لا تعجبه، فمن الواضح أنه يحبها وكأنه خرج من الجنة، وتصوري أن مصر لم تعجبه وهي في زمن الضباط الأحرار. وأنا أنتصر لإدوارد سعيد لأنه حافظ على جذوره ودافع عن الإسلام وعن القضية الفلسطينية.
الجديد: سيرتك الذاتية معنونة “بعيدا عن مصر” وكنت تقصد بها البعد المكاني خلال دراستك في دولة الحلم أميركا. هل ترى أن المعنى يمكن تكراره مع المثقفين المصريين في الداخل الذين يشعرون ببعد نفسي نتيجة تدهور الثقافة وتجاهل الدولة وتراجع الاهتمام المجتمعي بحيث يمكن لمن يشعر بوطأة ذلك أن يردد مع أبي حيان التوحيدي: أغرب الغرباء من كان غريبا في وطنه؟
جابر عصفور: لا أعتقد أن هناك بعدا نفسيا عن مصر. هناك ظروف وأمور قد تكون مرفوضة لكن الشعور بالغربة الحقيقية صعب. وأنا عنونت سيرتي بذلك وأنا أدرس في أميركا إثر طردي من الجامعة المصرية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
نصف ندم!
الجديد: كانت لك تجربة العمل كوزير للثقافة مرتين أحداهما في نهاية عهد الرئيس مبارك، والثانية في بداية عهد الرئيس السيسي وقلت إنك نادم على التجربتين. لماذا أنت نادم؟ هل لكونك لم توفق في تحقيق ما حلمت به وما كتبت عنه كثيرا، أم لأسباب أخرى؟ وهل تعتقد أن المثقف يهوي من مملكته عندما يعمل في السياسة؟ وبالتالي لا ينبغي له أن ييمّم وجهه شطر السياسة؟
جابر عصفور: نادم على التجربة الأولى ولست نادما على الثانية. في الأولى قبلت في وقت استثنائي، واكتشفت أن وزراء مبارك موجود معظمهم واحتملت بضعة أيام وحدثت بيني وبين أنس الفقي وزير الإعلام آنذاك، وكان قياديا بالحزب الوطني الحاكم، مشادة كلامية، ولم أكن حزبيا وقدمت استقالتي وأرسلتها مع موظف إلى مكتب رئيس الوزراء. وجاءت المرة الثانية إيمانا مني بقدرة الرئيس السيسي على التغيير، لكن يبدو أن بعض ممن هم حوله غير قادرين على تحمل موقفي الفكري، وأنا مثقف لا يؤمن إلا بدولة مدنية، لذا اعترضت على المادة السادسة من الدستور، وبقيت ستة شهور. كنت أحلم أن أعمل منظومة ثقافية لكنني اصطدمت بالأزهر، وسعى البعض إلى وقف أي شيء.
ورأيي أن المثقف يبقى مثقفا سواء أخذ منصبا سياسيا أم لم يأخذ. وهو داخل السلطة قادر على تحقيق حلمه، ولنا في الأديب الراحل طه حسين مثال ونموذج واضح عندما تولى وزارة التعليم وحقق مجانية التعليم في مصر.
حكاية الجوائز
أنت مُحكّم معتمد في كثير من الجوائز الأدبية في العالم العربي إلى أي مدى يتم تسييس بعض الجوائز؟
جابر عصفور: أغلب الجوائز تتعرض للتسييس. وسأضرب لك مثال. في سنة من السنوات اتصلت بي مجموعة من الأصدقاء وقالوا لي إن جائزة الملك فيصل ستعلن عن جائزة في قراءة التراث وأنني مرشح لها، وبناء على ذلك وافقت وتقدمت بالطلب. المهم قدمنا الإنتاج ودخل ووصل إلى لجان التحكيم وأجمعت اللجان بكل أعضائها على أنني أستحق الجائزة، لكن مجلس أمناء الجائزة اجتمع وفوجئ الجميع بمجموعة من شيوخ السلفية يتهمونني بالإلحاد والكفر، وكانت النتيجة أنه تمّ حجب اسمي ومنحت الجائزة لأكبر المتقدمين سنا. وكان هذا نموذجا ومحاكمة لكاتب بسبب شيوع ثقافة التكفير والتشدد في المجتمع. وقيل لي إن ذلك لم يعد موجودا الآن.
هناك اعتبارات تتدخل في تحكيم الجائزة بعضها جغرافي. لكن أشهد أن جائزة سلطان العويس إلى الآن ما تزال الوحيدة التي لا تتدخل فيها الأهواء الشخصية أو السياسية.
لم أسع لجائزة معمر القذافي ولم أقابله وما يقوله علاء الأسواني كذب وافتراء
الجديد: هل هناك تجربة روائية عربية بعد محفوظ تستحق أن ترشح للحصول على جائزة نوبل في الآداب. ولماذا -في تقديرك- وقف بنا قطار نوبل والجوائز العالمية عند نجيب محفوظ وعام 1988؟
جابر عصفور: هناك تجارب كثيرة. كان عبدالرحمن منيف يستحق جائزة نوبل، ويوسف إدريس كان يستحق الجائزة. وأتصور أن آسيا جبار الجزائرية تستحق نوبل، وهي أفضل كثيرا من بعض السيدات غير العربيات الحاصلات على نوبل. وأتصور أن أمين معلوف يستحق جائزة نوبل بامتياز، وهو أهم روائي عربي الآن، وكتاباته عظيمة جدا. وأعتقد أن أحد المشكلات تخص عدم إتاحة الكثير من روائع الأدب العربي بلغات أجنبية.
الجديد: هل تعتبر نزعة التهافت أو السعي الإعلامي وراء نوبل لدى البعض ممن هم أصحاب تجارب مهمة عربيا يمكن أن يفتح لهم الأبواب لنيل الجائزة؟
جابر عصفور: ليس تهافتا، إنما من حق كل أديب أن يحلم بجائزة نوبل. وأتصور أن الجائزة لها مجموعة من القواعد الصارمة لكن تتدخل فيها بعض الأهواء، وليس بالشكل الكبير الذي نتصوره ربما لأن اللجنة الأكاديمية تعمل من خلال الترشيحات التي تأتيها وبعض الأدباء الكبار لا يتم ترشيحهم لأسباب مختلفة.
افتراء الأسواني
الجديد: هاجمك الروائي المصري علاء الأسواني في كتابه “دكة الاحتياطي” بسبب قبولك جائزة من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي قيمتها 150 ألف يورو سنة 2009. هل تربط بين هذا الهجوم وموقفك النقدي من كتابات الأسواني؟ وهل أنت نادم على قبول الجائزة؟ وهل حقا ما قاله الأسواني وغيره بأن الأديب الإسباني خوان غوتيسولو رفض الجائزة فأهديت لك؟ كيف تنظر اعترافياً إلى هذا الأمر الآن؟
جابر عصفور: هو كاذب بامتياز. أولا جاءني وفد يمثل اللجنة التي تحكم هذه الجائزة وسألوني إن كنت أقبل فوافقت، وقلت لهم بشرط أنّني لا علاقة لي بالقذافي، فقالوا لي إنه مجرد اسم مثل جائزة مبارك. وعلى هذا الأساس سافرت إلى ليبيا وحصلت على الجائزة من رئيس الوزراء الليبي، ولم أقابل القذافي، وجاءني التلفزيون الليبي وسألني عن رأيي في قصص القذافي، وقلت لم أقرأها، فتركوني. ولم أسع ولم أتقدم ولم أذهب إليهم، وكان قياسي هو القياس نفسه لترشح وقبول الأدباء لجوائز مبارك أو غيره من الحكام العرب. وكل ما قاله الأسواني افتراء.
الجديد: ما الذي تشتغل عليه نقديا اليوم، هل ثمة جديد في جعبة الناقد جابر عصفور يقدمه للثقافة العربية في طورها الجديد، وفي لحظة انسحارها بالزمن الرقمي وعراكها مع قيمه الكونية؟
جابر عصفور: أتابع كتابات الشباب في مختلف أنحاء العالم العربي، وأتفاعل مع الكثير منها، ودوما هناك جديد في الفكر والطرح والنقد. فهذه إحدى طبائع الحياة. الجديد كل يوم.