جبل الجليد أم اثر الفراشة
جبل الجليد
اليقين في قصد الدين، هنا، هو الميراث الفقهي والتشريعي. تفسيرات غمرت ملايين الصفحات حبرا وخرّبت مثلها من العقول. فقه يقدس السلف ويكرس ميراثهم. يعطل العقل. يمنع العلاقة بين العبد وربه. العلاقة الحرة طبعا. يمررها عبر بوابات المشايخ ورجالات الدين. يبني هرما كمعابد المصريين للوصول إلى الله. من هنا يمكن لنا أن نفهم واقع الثقافة التي سبقت الثورات العربية. لكن هل تغيرت هذا الثقافة بعد سنوات خمس على الصراع بين قوى الاستبداد و”الحرية”؟
لن أقف عند ملامح الجماعات الدينية التي تنتشر كالنار في الهشيم، إن كان في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو غيرها من البلاد. سأقف قليلا على عمق الأثر الذي تركته التحركات المدنية والثورية على الواقع الثقافي. واقع يعاني نقص المثقف الفاعل ويكاد يختنق بحالات المثقفين الطوباويين. مثقفون تركوا الشارع لمصيره. بعضهم التزم الصمت بانتظار نضوج المشهد الكلي. والبعض الآخر التزم نداء الشارع، لكنه سرعان ما أصيب بخيبة الأمل بعد ما أسماه انحراف المسار الثوري. البقية كانوا يغردون في منطقة الوسط التي أعلنت موقفا أخلاقيا من الثورات عموما ولكنها تحافظ على مسافة آمنة بينها وبين الواقع كي لا تنساق بمسارات لا تتناسب وموقفها الأخلاقي من الحرية.
يوما ما، كنت في جلسة نقاش يعقدها الشيخ الفيلسوف جودت سعيد في دمشق، وحضر الجلسة باحث علم اجتماع سوري – بريطاني لا أذكر اسمه اليوم، بدأ حديثه عن المجتمع وعمق الأفكار فيه، وأثر هذه الأفكار وكيف نكتشفها، وشبّه الفكرة بجبل الجليد ما يظهر منه أصغر كثيرا ممّا يخفيه الماء. وقال إن التصرفات الجماعية تُعبّر عن أفكار دفينة وعميقة يمكن القول بأنها أسس المنظومة الفكرية والأخلاقية الاجتماعية.
الكسل كان مثاله الذي تحدث عنه، فهو حالة شبه عامة في المجتمعات العربية. الموظف العربي لا يعمل إلا ساعات قليلة طيلة الشهر. والسر أنه ينتظر رزقه من خالقه. العمق لهذه الحالة مقولات شعبية كثيرة، “كالرزق على الله” و”كلو من رب العباد”. حاملها الأعمق بعض أعمدة يقال إنها أحاديث نبوية شريفة تؤكد أن الله إذا ما خلق دودة في قلب صخرة خلق رزقها معها. وتُحمل تلك الأعمدة على تفسير خاطئ لآية “ما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”. أي أن الله خلق كل ما في الكون لعبادته لا للعمل والبناء والخدمة، وإن خالف هذا التفسير آية الاستخلاف لأدم في الأرض. من هنا تظهر طبقات الأفكار كما وصف الباحث السوري، كجبل الجليد.
أثر الفراشة
لو أردنا تطبيق نظرية الأفكار تلك على الثورات ونتاجها، لقلنا بأن الشباب العربي اكتشف قدرته على الصراخ بما يريد. الصوت هو آلية التواصل الأكثر انتشارا في ثقافة العرب. فخرجت المظاهرات المهيبة حاملة العشرات من الأقوال عميقة الدلالة. “حرية إلى الأبد”، “الشعب يريد إسقاط النظام”، حملت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية واللافتات الكثير من المفاجأت. اختفى السلاح في اليمن المتخم بالبنادق. تأخر الرصاص في سوريا ستة أشهر على أقل تقدير مقاوما جرائم النظام البشعة بالصدور العارية. خلعت مصر عباءة العسكر بزمن قياسي، وذهب مبارك إلى المحاكمة. بات المشهد مثيرا ويبشر بتحولات عميقة.
لكن، عادت مصر سريعا إلى فراش الجنرال عبدالفتاح السيسي. وكادت تونس تسقط ومازالت تتأرجح. سوريا غرقت بالدماء. اليمن يقاتل لأجل بقاء النزر اليسير من الدولة. ليبيا تشتت واستحالت مقاطعات ممزقة تسعى لإنتاج حكومة وحدة وطنية.
لكن هل تحمل الثقافة مسؤولية هذا الفشل؟ هل يحمل المثقف المسؤولية أو بعضها؟ أيمكن لنا اعتبار أن المثقف حالة منفصلة عن المجتمع؟ أم الثقافة بذاتها شيء بعيد عن متناول الجميع؟ وإن كان هذا هو الحال فلماذا؟ وكيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟
الحقائق تقول بأن المال يلعب بواقع المنطقة، فالنفط وتجارة الشركات الكبرى عامرة على جثث آلاف الأبرياء. النقود المبللة بدماء الأطفال الممزقين لأشلاء والغرقى على شواطئ العالم المتحضر، تعطي السياسيين تبريراً لهذا الخراب أو استمراره ووقده كل ما ترمدت ناره. والثقافة السائدة تشكل حاملا متينا لكل هذه المصائب. ثقافة تقدس القوة والعنف وتعتبر القتل في سبيل الله أو الوطن أو الهدف جهاداً أو شجاعة على أقل تقدير. وتُغيّب الحكمة وتعتبرها في هذا التوقيت نوعاً من الخوف والجبن واللين والهشاشة.
مثقف ينزوي بعيداً وينظر للناس، ماذا يتوجب عليهم التفكير به؟ وآخر غارق بتحليل المشهد، وكأنه يعمل في مركز دراسات. والأخير يعتبر أن ما يجري ليس من شأنه وكأنه سقط من النرويج ليجد نفسه بشكل مفاجئ في الشرق الأوسط، هؤلاء ساعدوا ودعموا التطرف ليسود ويكرس وجوده بقوة. فالمثقف البعيد عن الشارع كان مُصاب العالم العربي يوما ما، وكأن المرض ما زال يلازم هذا العالم الغارق في بحر الدماء النابعة عن جهالة عميقة لا يمكن إغماض العيون عنها.
كل ما سبق لا يُغيّب بعض مظاهر الثقافة التي بدأت بالنمو خلال السنوات الأخيرة، وظهور أقلام غنية، تنظم الشعر وتكتب الرواية والقصة، وعيون تُشكل أفلاما وثائقية حصدت جوائز عالمية، لكن المشهد الحالي لا يعبر إلا عن نوع من المثقفين ربما ينقرضون مع الوقت إن لم يجدوا قليلا من العناية، ودن أن يكتشفوا سبيلهم ليكونوا مع الناس على الأرض لا في أبراجهم العاجية.
أيولد الإبداع من المجزرة؟ هل فعلا تصدق النظرية بأن النار التي تحرق الشعوب تخلق مبدعيها وإن بعد حين؟ إلى متى سننتظر تلك الولادة وهل ستجد لها سبيلا للانتشار قبل أن تُدفن تحت البراميل؟ عشرات من الأمنيات والأسئلة لا جواب عليها إلا بالانتظار، وهذا الأخير مهنة الصابرين، ولا وجود لصابرين كما أبناء الجلدة السمراء التي ولدنا منها.