جذور المثاقفة
جاء في لسان العرب: ثَقِفَ الشيء ثِقَافًا وثُقُوفة، حذقه. ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذق فهم وأتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ… ويقال ثَقِفَ الشيء، وهو سرعة التعلم… وثَقُفَ الرجل ثقافة أي صار حاذقا خفيفا مثل ضَخُمَ، فهو ضَخْم، ومنه المثاقفة. (ابن منظور، لسان العرب، ،ص 22).
وتعرِّف موسوعة Encyclopedia Universalis المثاقفة بكونها: دراسة لمعظم الإجراءات، التي تحدث عندما تتصل ثقافتان فيما بينها. فتؤثر الواحدة في الأخرى. اكتشفتها أنثروبولوجيا أميركا الشمالية عام 1880 وقد فرضت نفسها ضمن مجموعة من المصطلحات الأوروبية منها على الخصوص:
التبادل الثقافي
التحول الثقافي
تداخل الحضارات
للمثاقفة اصطلاحات عدة. فقد استعمل الإنكليز مصطلح التبادل الثقافي، واستعمل الإسبان مصطلح التحول الثقافي، في حين نجد الفرنسيين فضلوا مصطلح تداخل الحضارات. لكن يبقى مصطلح المثاقفة، هو الأكثر تداولاً كما يرى بعض الدارسين، بحضورها واتساع مجالها.
يعرف روجيه باستيد المثاقفة بأنها علاقة تفاعلية تطبيقية بين ثقافتين مختلفتين أو أكثر، نشأت جراء توليد علاقة تتميز بتبادل الخبرات. وفي مقابل ذلك يمكن الحديث عن الاستلاب الثقافي الذي يقصد به تطور علاقة المثاقفة إلى انسلاخ من الذاتية الثقافية واعتناق لثقافة الآخر. وقد ظهر مصطلح المثاقفة في حقل العلوم الإنسانية- في الأنثربولوجيا الأميركية سنة 1880، لدراسة التفاعل الحاصل بين الأنساق الثقافية للمهاجرين الجدد في أميركا، وأول من استعمله هو العالم الأنتروبولوجي الأميركي جون ويسلي باوول المتوفي عام 1902. وفي سنة 1936 تم اعتماد مصطلح المثاقفة.
ينتمي مصطلح المثاقفة إلى الحقل المفهومي للأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع، وتعرف على أنها ظاهرة تأثير وتأثر الثقافات فيما بينها، بفعل عملية الاتصال الواقعة بينها وبين ثقافات أخرى غريبة عنها. «وهي العملية التي تنتقل بها الثقافة من خلال اتصالات مستمرة مباشرة بين جماعات ذات ثقافات مختلفة». (عماد عبد الغني، سوسيولوجيا الثقافة المفاهيم والإشكالات… من الحداثة إلى العولمة، ص 310).
بهذا تكون المثاقفة رافدا تسعى كل أمة من خلاله إلى معرفة الآخر والاستفادة منه لتنمية كيانها الثقافي، مع المحافظة على هويتها. فلا يمكن لأيّ حضارة أن تزدهر بدون التفاعل مع الحضارات المعاصرة .
يميز المؤرخون بين نوعين من المثاقفة:
المثاقفة التلقائية: وتندرج في إطار التلاقحات الناتجة، والناجمة عن الحروب، وعن الرغبة في الحصول على العبيد أو الاتصالات السلمية بواسطة التجارة كما هو الشأن بكندا والشمال الحالي للولايات المتحدة الأميركية؛
المثاقفة المفروضة: وتتم عبر سيطرة الأوروبيين بصفة مباشرة وبالقوة على الهنود مثلا، وذلك بعد هضم حقوقهم الاقتصادية والسياسية، والمس بشعائرهم الدينية. وهذا ما حدث بالفعل بكل من المكسيك، والبيرو غداة الاكتشافات الجغرافية الكبرى.
تنقسم المثاقفة من حيث مسارها ونتائجها إلى مستويين:
نمط الدمج: ويتميز باقتباس النمط المحلي لعناصر أجنبية، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير كبير في قيم الثقافة المحلية.
نمط التمثل: يعني أن تتشبع الثقافة المحلية بعناصر الثقافة الغربية. يوازيه القضاء على التقاليد المحلية والانقياد لقيم المجتمع المسيطر. (خليل السعدني، مساءلة مفهوم المثاقفة، فكر ونقد،ع 16،1999، ص 36).
بدأت المثاقفة مع نابليون بونابرت عام 1797، عندما قدم إلى مصر وعبّر عن انتمائه للمنظومة الإسلامية، بقوله «إننا نحن المسلمين الحقيقيين»، فقام بإرسال بعثات لإنشاء دراسات حول مصر، وذلك بجمع حقائق عن تراثها، وثقافتها وبذلك وصلوا إلى تأليف ثلاثة وعشرين مجلداً ما بين سنتي (1809-1828)، ونظراً لهذه النتيجة الاستعمارية قامت في مصر فرص تحديثية معتمدة على نماذج غربية.
تمت المثاقفة بين الشرق والغرب عبر طرق عدة من ضمنها الرحلة التي اتخذت طابعا فكريا وأدبيا، ساهمت في إذكاء التواصل بين الشرق والغرب والتعرف إليه؛ فكانت وجهة الرحالة الشرقيين للديار الفرنسية بِعَدِّها عاصمة القرن التاسع عشر.
أثرت رحلة رافع رفاعة الطهطاوي إلى باريس في 24 أبريل 1826 على تاريخ الأدب العربي، وذلك بنقله مظاهر الثقافة الغربية،. واستمرت رحلته ست سنوات، تعلم في بدايتها اللغة الفرنسية. فقد كانت رحلته ضمن البعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا في محاولته إدخال الإصلاحات إلى مصر. وتمثل رحلته اللقاء الأول بين الفكر الإسلامي الأصيل، وبين الحضارة الغربية في أوج عنفوانها عقب الثورة الفرنسية. «وخلال تواجده بفرنسا اطلع على أعمال الكتاب الفرنسيين أمثال: فرانسوا ماري أرويه المعروف بـفولتير وجون جاك روسو، ومونتسكيو وغيرهم.
لوحة: صفوان داحول
يعد كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريس من أشهر كتب الرحلات العربية صدر عام 1934، بالقاهرة بعد ثلاثة سنوات من العودة من باريس، ترجم إلى الألمانية تحت عنوان ‘مسلم يكتشف أوروبا’. وصف فيه رافع رفاعة الطهطاوي المجتمع الفرنسي وتحدث عن انطباعاته وعن النظم السياسية: الدستور، والحكومة، والشعب، وعادات وتقاليد المجتمع، والمرأة، والفنون والطبقات الاجتماعية… وهو يختلف عن كتب الرحلات الأوروبية لكونه يستهدف المعرفة والاطلاع على منجزات الحضارة الإنسانية. وقد كان انطباع الطهطاوي عن أوروبا بأنها بلاد كفر وعناد، وأن سبب إرساله إلى الغرب هو تفوقه وبراعة أهله والرغبة في جلب العلوم إلى ديار الإسلام، وحث المسلمين على الأخذ بأسباب الرقي والحضارة». (سالم المعوش، صورة الغرب في الرواية العربية ، ص،90-91). وقد أتبع رفاعة رافع الطهطاوي هذه المحاولة بترجمة كاملة لوقائع عمل تيليماك لفينيلون تحت عنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تيليماك»، وقد أراد صاحبها أن تكون عبارة عن نصائح للملوك والحكام ومواعظ للناس.
إلى جانب رفاعة رافع الطهطاوي يعد أحمد فارس الشدياق، الذي سافر إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، من الممهدين الأوائل لعلاقة المثقفين العرب بالثقافة الغربية، بقوله «اطلعت على الآثار الأدبية لسويفت، وبيرون، وستيرن، وشاتو بريان، ورابليه، ولامارتين» (فارس الشدياق، الساق على الساق فيما هو الفارياق الصادر بباريس عام 1855)، نقلا عن (عبدالله إبراهيم، السردية العربية الحديثة ص 124). وقد وردت موضوعات الكتاب في شكل حوار بين الفارياق، وزوجته الفارياقة، تطرقا فيه إلى جوانب الحضارة الأوروبية السلبية بشكل ساخر من الآخر. وكان أحمد فارس الشدياق يفضل بريطانيا على فرنسا والحياة بصفة عامة في إنكلترا، وقد أتبع هذا العمل بآخر سنة 1867 وسمه بـ»كشف المخبأ في فنون أوروبا».
بالإضافة إلى رفاعة رافع الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، نجد الكاتب المصري محمد حسين هيكل، الذي أعرب عن افتنانه وإعجابه بباريس، وعبر عن ذلك في سطور له بعنوان «أول يوم في باريس» قائلا «وكانت مصر في ذلك ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني، وكانت فيها بقايا مختلفة من آثار الحكم العثماني، وكانت المرأة المصرية محجبة لا اختلاط لها بالرجال، وكان الجمود الفكري من فضائل الشباب في ذاك الحين، وكانت هذه الصورة للحياة المصرية صورة للحياة الواقعية التي عرفتها وألفتها ولم أعرف غيرها ولم أألفها، فلما كان ذلك المساء من ذلك اليوم الأول الذي نزلت فيه إلى باريس، إذ بي تفاجئني صورة للحياة تختلف عن هذه الصورة التي ألفتها بل تثور بها، بل تلقي بها من النوافذ إلى الجحيم لتتبدى أمامي صورة أخرى تبهر عيني وكأنني انتقلت إلى عالم آخر» (محمد حسين هيكل، شرق وغرب، ص 120-121).
وتعد الترجمة إلى جانب الرحلة التي أغنت التواصل والتفاعل بين ثقافة الشرق والغرب، علامة على انفتاح وتلاقح الثقافات، عن طريق التواصل مع الآخر عبر الترجمة في إطار المثاقفة للاستفادة والتعرف إلى الآخر. فقد كان الدين الإسلامي حافزا على ذلك بقول الله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (سورة الحجرات آية 13). ولعل أهم إنجاز قام به رفاعة رافع الطهطاوي، إنشاؤه مؤسسة رسمية في الترجمة وهي مدرسة الألسن التي أنشئت عام 1835.
بالإضافة إلى عمل أحمد فارس الشدياق، الذي ترجم العديد من الروايات والكتب العالمية، كما ساهم في تعريب طائفة من الألفاظ الأجنبية، يمكن القول إن حركة الترجمة كانت واسعة حيث اشترك فيها كبار الأدباء العرب أمثال: حافظ إبراهيم الذي ترجم «البؤساء» لفيكتور هيغو، كما ترجم نجيب حداد «الفرسان الثلاثة» لألكسندر دوما.
يعد طه حسين من أوائل العرب الذين اطلعوا على ثقافة أوروبا، فأعجب بها. مما نمّى لديه رغبة في تحقيق ثقافة شبيهة بثقافة أوروبا، التي فتحت له أبواب المدنية والرقي السياسي والوعي بتراثها القديم، إنها ثقافة من حيث هي ترقية للعقل وتوسيع للأفق ومد لآماد الفكر الإنساني. ومن حيث هي مصدر لشعور الفرد بحقه وتقديره لواجبه، ومن حيث، هي مصدر لشعور الجماعة بحقها وتقديرها لواجبها وثباتها للخطوب واحتمالاتها لأثقال الحياة فهو لا يشك في سلطتها مما جعله يقر بضرورة الاهتداء بها، فنجده يقول «إما أن نستقبل الثقافة أحراراً ونقبلها حرة ونمضي فيها إلى أبعد مدى وأقصى أمد ونقبل نتائج هذا كله وهي التفوق مرة والإخفاق مرة أخرى.. وإما أن نستقبل الثقافة مقيدين ونقبلها ضيقة محدودة.. أما أنا، فأختار الطريق الأول، وأقبل أن أتعرض لما تتعرض له الأمم الحرة من ألوان الخير والشر.. فإن الحياة الحرة التي يملؤها الطموح الحر إلى العدل.. خليقة أن نشتريها بأغلى ثمن. بل لقد سلم بالدخول والإقبال على مغامرة الأوربة بكل ما فيها من مخاطر بقوله «علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات.. علينا أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد فيها وما يعاب» (طه حسين، فصول في الأدب والنقد، ص 215). فقد كان هدفه خلق ثقافة تبعث المجتمع العربي من جديد في ظل الحداثة.
لعبت المثاقفة دورا هاما فيما يسمى بـحوار الحضارات بفضل التقارب الثقافي بين المجتمعات، بعَدّها الوسيلة الأمثل لتقارب حضارات المجتمع وتوطيد علاقات السلم والتعاون بين مختلف الشعوب حضاريا وثقافيا عبر التفاهم، والتواصل. فلا أحد يشك في أهمية الثقافة ودورها في صناعة الحضارة، وخصوصاً عندما تتفاعل إيجابياً وتتلاقح وتتثاقف مع غيرها. فالحوار بين ثقافتين أو حضارتين مختلفتين يقوم على المنهج الصحيح، حيث تتحقق فيه شروط التفاهم والتعايش والمساواة واقتناع الطرفان بأن الحوار بين الحضارات، هو السبيل الأمثل للتغلب على التوترات، وما يسمى بـصدام الحضارات وتوثرها. كما يعزز هذا التقارب بناء صداقات مبنية على الأمن والسلام، وتجنب كل صدام يفككك ويقلل من فعالية القيم الحضارية والسمو بالثقافات الإنسانية إلى أنواع من الحوار الإيجابي، بالتأكيد على أهمية التفاعل بين الثقافات والكشف عن القيم المشتركة بين الثقافات وضرورة التعايش بينها للحيلولة دون وقوع صراع الحضارات نتيجة الاستعلاء الثقافي والتمركز الذاتي والذي يحول دون الاعتراف بالحق في الاختلاف الثقافي. وهذا ما فتح الباب لشعور عدة فضاءات ثقافية غير غربية بضرورة مواجهة المد الثقافي الغربي حفاظا على الخصوصية، والهوية الثقافية ضد موجة التغريب، والانغلاق على الذات.
فرضت المثاقفة نفسها لما اكتسبته من أهمية في التقارب بين الشعوب والتفاهم القائم على الفهم الموضوعي. وبخصوص صدام الحضارات يجب تغليب عوامل التقارب والتكامل على عوامل التنافر حتى يتحقق حوار الحضارات.
هكذا نجد أن مفهوم المثاقفة قام على الانفتاح على ثقافة الآخر، والتفاعل معها على المستوى الفكري والمعرفي عن طريق البعثات والترجمة والرحلة من أجل إغناء الثقافة القومية وإثرائها. فقد فرضت نفسها لما لها من أهمية اكتسبتها عبر العصور، جعلت الباحثين مهتمين بها، لما لها من دور فعال في تقريب جسور التواصل مع الآخر والاستفادة منه والانفتاح عليه. دون أن ننسى دور الحضارة الإسلامية في مجال المثاقفة بالحث على التعارف والتفاعل والانفتاح على مختلف الشعوب.