جرائم ما بعد العولمة
تنتمي الرواية البوليسية إلى الأدب الواقعي الاجتماعي، وتعتمد على التشويق وتقنية إخفاء الأحداث حتى النهاية، وهذه الركيزة التي تقوم في جزء منها على تجاهل القارئ لا تستهوي إلا نسبة معينة من القراء الذين يفضلون القراءة بغاية المتعة، وهذا جيد في حدّ ذاته لتحقيق المتعة في القراءة، لكنه ليس كل شيء بالنسبة إلى قارئ شغوف بالروايات العميقة التي تمتلك أكثر من طبقة عند التلقي، وليس محورًا واحدًا ينحصر في اكتشاف المجرم، هذا إلى جانب اعتماد الروايات البوليسية على تقنيات متشابهة تصبح مألوفة للقارئ، وتحديدًا على مستوى الصفات الشخصية للأبطال، مثل ذكاء المحقق ودقّته وتحلّيه بصفات خاصة تمكنه من كشف الجريمة، ثم وجود شخصية قد تكون غامضة أو ظاهرها بسيط للغاية لا يوحي بالشك ثم يتبين أنها المتورطة في الجريمة.
هناك نصوص أدبية اعتمدت على تيمة بوليسية كما هي كتابات أدجار ألان بو، الذي يُعتبر من مؤسسي القصة البوليسية، أيضا جورج سيمنون في الأدب الفرنسي، وتتميز نصوصهما بمحاولة التوفيق بين الكتابة الأدبية وتقنيتي التشويق والإثارة، بالإضافة إلى وجود حس سخرية واضح، كما هو عند إدجار آلان بو، كما في إحدى قصص “جرائم شارع مورغ” التي يتضح في ختامها أن من قام بالجريمة هو قرد.
في ظني أن الرواية البوليسية التي عاشت أزهى مراحلها في النصف الأول من القرن العشرين في تراجع الآن على مستوى العالم ككل، فالمرحلة التي ازدهرت فيها مع كتّاب الأدب البوليسي المهمين مثل آرثر كونان دويل وأجاثا كريستي ومارجري ألنغهام لم يعد لها وجود الآن بسبب تغيرات كثيرة طرأت على واقع الحياة، وبالتالي على مستوى الجريمة أيضا، حيث تعقدت تقنيات الجرائم عن القرن الماضي.
فالآن نحن نعيش مرحلة جرائم ما بعد العولمة مثل الاختراق الإلكتروني والسطو على المعلومات وجرائم المافيا التي تستخدم فيها الوسائل التكنولوجية. أي أن مجال الروايات البوليسية التقليدية انتهى، وبالتالي على الكاتب البوليسي الحديث مجاراة العصر وأن يكون خياله متدفقًا ليحاكي مستوى الجريمة المعاصرة.
لا يمكننا أن نُغفل أيضا أثر السينما وازدهارها في تراجع الأدب البوليسي، فالأفلام القائمة على تقنية الجريمة وكذلك المسلسلات بما فيها من حركة وإبهار بصري تبدو أكثر جاذبية بالنسبة إلى عشاق هذا النوع من الفنون سواء المقروءة أو المشاهدة.
ولا نجد حضورا للرواية البوليسية في محافل النقد الأدبي، ربما لأن هذا النوع من الكتابة غير مشغول بالشخصيات وأبعادها، ولا تعمل على التغلغل في بواطن النفس الإنسانية إلا بمقدار خدمتها للحدث البوليسي، لذا يغيب التركيز على الصراع النفسي الذي يُعتبر ركيزة الروايات العالمية المهمّة التي تستمد أهميتها وخلودها من كشف الذات الداخلية وتعريتها. أظن أنه من يريد قراءة أدب إنساني ويستمتع في أعماقه ليس من الضروري أن يتجه لقراءة روايات الجريمة.
المرأة دورها متراجع ومحدود في الروايات البوليسية لأن حضور المرأة في عالم الجريمة أقل من حضور الرجل بشكل عام، ومن ناحية أخرى يبدو أن انشغالات المرأة الإبداعية تركزت على قضايا حياتية أخرى تتعلّق بعالمها الاجتماعي والداخلي وفي شكل علاقتها مع الرجل والمجتمع. لكلّ هذه الأسباب تحضر أسماء نسائية قليلة برزت -على المستوى العالمي- في الرواية البوليسية مثل الكاتبتين الأميركيتين مارسيا مولر وسو جرافتون.