جريمة قتل في شارع المطاعم
الشخصيات:
عبد اللطيف محمد أحمد (مهندس ديكور)
مرشد عنتر (مثقف)
ياسر عثمان (صحفي)
جميلة (صبية حسناء)
وسواس (مندوب البنك)
حريب (ادل المقهى)
مدير البنك (مجرد صوت مؤذ للأذن)
رواد المقهى (كائنات عابرة في زحام الحياة)
الفصل الأول
يمين المسرح المقهى. يسار المسرح مصطبة. وفي الطرف الأقصى القريب جداً من مقاعد المتفرجين يوجد مرحاض أبيض اللون (كرسي إفرنجي). الخلفية تمثل فتحات مطاعم، ونرى لافتات فيها رسوم لأطباق شهية، وكتابات تبين هوية كل مطعم: (المطعم العصري، مطعم النور للأكلات الشعبية، مطعم عصيد، مطعم الشرق).
تتدلّى من السقف كرة صفراء اللون ذات حجم هائل، معلقة بسلسلة حديدية مطلية بالذهب، وتتحرك من اليسار إلى اليمين وبالعكس طيلة الوقت. الكرة الصفراء مكتوب عليها “البنك” وإشارة $. يرفع الستار على صوت دويّ آلة عملاقة (صوت محركات الكرة المعلقة). نرى ثلاثة رجال جالسين في المقهى يلغطون بكلام غير واضح. يدخل نادل نحيل كعود القصب (حُريب) وبيده حامل حديدي فيه ثلاثة أكواب زجاجية، يضعها أمامهم. يدخل شيبة يرتدي ثوباً ومعطفاً وعمامة، وهو يتعكز على عصاه، نسمعه يحوقل ويستغفر. يرفع يده ويلقي عليهم السلام.
مرشد: السلام عليكم.
الرجال الثلاثة: وعليكم الأسهم ورحمة الله وبركاته.
مرشد يجلس متصدراً للخطابة.
حريب: (يرفع صوته) واحد شاي للأستاذ مرشد.
مرشد: (يمسح على لحيته) قل له بلا سكر.
حريب: بلا سكر.
مرشد: ويستحسن أن يكون الشاي بلا شاي.
حريب: والشاي بلا شاي.
يدخل رجل أنيق الملبس، يرتدي بذلة بنية كاملة، وربطة عنق حمراء، وقميصاً أبيض، ويعتمر طاقية بنية. يمشي بخطوات واثقة نشيطة ورأسه مرفوع، يتّجه صوب المصطبة ويجلس واضعاً رجلاً على رجل.
حريب: (يلاحظ حضور الرجل الأنيق بطرف عينه، ينادي بصوت منغم وممطوط) واحد حليب سكر دبل.
النادل حريب يخرج لإحضار الطلبين. تدخل فتاة حسناء سنها دون العشرين عاماً، ترتدي فستاناً بَهُتتْ ألوانه من كثرة الغسيل، وتظهر عليه بقع زيت وطلاء. نراها تقصد المقهى للتسول.
جميلة: (تمد يدها وتتضرع) تصدقوا عليّ يا أهل الخير.. أنا يتيمة.. عند الله ما يضيع عمل الخير.. الله يقضي حاجتكم.. الله يسهل لكم أموركم.. ارحموني ولو حتى بعشرة ريالات.
تمر على الأول فيعطيها قطعة معدنية.
جميلة: الله يرزقك.. الله يعوض عليك ما خرج من يدك.
تمر على الثاني فيعطيها ورقة من فئة الخمسين ريالاً.
جميلة: (ترفع يديها بالدعاء) الله يرزقك ويفتح لك أبواب السماء.. الله يجعل رزقك جاري لا ينقطع.
تمر على الثالث فيتلكأ، يبحث في جيوبه كلها ولا يجد شيئاً.
مرشد: (يعلق ساخراً) اعذريه يا بنتي هذا صحفي من حق الجن فأكيد أنه مُخبي الريالات في الصفحة الداخلية (يشير بإصبعه إلى خصر الصحفي).
جميلة: (تبتعد عن الصحفي وهي تشعر بالخجل) شكراً لا أريد شيئاً من بريد القراء!
مرشد: أخبرونا يا جماعة ما هي آخر أخبار البورصة وكم وصل سعر الذهب؟
الصحفي: الأخبار لا تسرّ.. أسعار الأسهم انخفضت ثلاثين في المئة في بورصة طوكيو (رواد المقهى يصدرون أصوات استنكار وفزع).
يدخل النادل حريب وهو يحمل كوبين معلمين بلطخة طلاء خضراء، يضع كوب الشاي أمام مرشد، ثم يتجه صوب المصطبة ويضع كوب الحليب جوار الرجل الأنيق، ثم ينصرف. جميلة تسمع مرشد يسأل عن أسعار الذهب فتظنه ثرياً، تقترب منه وتمد يدها إليه.
جميلة: يا حاج الله يطول في عمرك ساعدني باليسير .. أنا أصرف على إخوتي.
مرشد: اسمعي يا ابنتي، أنا مثقف.. هل تعرفين معنى كلمة مثقف؟
جميلة: (تشبك أصابعها وكأنها في حضرة مدرّس) لا.
مرشد: المثقف لا يعطي صدقات، لأنه ضد الاتكال على الآخرين.. وأنت تريدين أن تتكلي عليّ وهذا خطأ شنيع لا أقبله.. ولكن هذا لا يعني أنني لن أعطيك أيّ شيء.. بل على العكس، أنا سأعطيك أهمّ شيء، سأعطيك ما هو أثمن من المال.. سأعطيك العلم والمعرفة.. اسأليني أيّ سؤال وأنا سأعطيك الجواب مجاناً، لوجه الله تعالى.
جميلة: (تنفرج أساريرها أخيراً) صحيح يا حاج.
مرشد: (بتضايق) أستاذ يا ابنتي أستاذ.
جميلة: طيب يا أستاذ مرشد .. قل لي (تشير بيدها) هذه الكرة الصفراء المعلقة في الهواء ما هي؟
مرشد: أولاً هذه ليست كرة صفراء بل كرة ذهبية.. ثانياً هذه الكرة الذهبية اسمها البنك.
جميلة: وماذا يوجد في داخلها؟
مرشد: فلوس.. فلوس الدنيا والآخرة!
جميلة: صحيح .. إذاً وداعاً للتسول.. سأذهب إلى هناك وأقف تحتها وهي ستمطر عليّ نقوداً!
جميلة تسحب قصعة نحاسية، وتهرول تحت الكرة الصفراء، ترفع القصعة فوق رأسها منتظرة تساقط المال. تظل تروح وتجيء متابعة الكرة الصفراء دون توقف. نسمع صوتاً له صدى، أجش، يشبه خوار البقرة.
صوت مدير البنك: يا وسواس.. يا وسواس.. يا وسواس.
يدخل وسواس مرتدياً بذلة مقلمة وربطة عنق وردية فاقعة اللون، وبيده حقيبة سوداء اللون. يقف ويوجه الخطاب إلى الكرة الصفراء.
وسواس: نعم يا سيدي.. أنا في خدمتك.
صوت مدير البنك: من ذاك الجالس على المصطبة بشموخ وكبرياء؟
تنطفئ الأضواء ويعمّ الظلام، باستثناء بقعة ضوء مُركزة على الرجل الأنيق.
وسواس: هذا عبد اللطيف: محمد أحمد.. مهندس ديكور.
صوت مدير البنك: (تتغير لهجته وترق) آه.. فنان!
وسواس: نعم سيدي.. إنه فنان.
صوت مدير البنك: شيء جميل أن يوجد فنان في شارع المطاعم.
وسواس: في شارع المطاعم يا سيدي تجد كل أصناف البشر.
بقعة الضوء تنتقل من مهندس الديكور إلى الصحفي الذي ينصت باهتمام لكلام مجاوره.
صوت مدير البنك: حقاً أنت رجل حكيم يا وسواس .. وهذا من يكون؟
وسواس: هذا ياسر عثمان.. صحفي.
تنتقل بقعة الضوء إلى مرشد الذي يثرثر بكلام لا نسمعه.
صوت مدير البنك: (يصدر همهمة) وهذا من؟
وسواس: هذا مرشد عنتر. مثقف.
تنتقل بقعة الضوء إلى جميلة.
صوت مدير البنك: ومن هذه الحمقاء التي تجري تحتي؟
وسواس: هذه شحاذة اسمها جميلة.. يقال إنها تشحذ في شارع المطاعم منذ ولادتها.
تنتقل بقعة الضوء إلى الكرة الصفراء.
صوت مدير البنك: وأنا يا وسواس.. هل تعرف ماذا أكون؟
وسواس: (يرتبك) أأ.. أنت مدير البنك يا سيدي.
لوحة: صفوان داحول
صوت مدير البنك: وماذا أيضاً؟
وسواس: (يمسح جبينه المتعرق) أأ.. والله لا أعرف.
صوت مدير البنك: تفوه عليك! ألا ترى أن هذا الشارع فيه الصحفي والمثقف والفنان ولا ينقصه إلا شيء واحد.. العالم.
وسواس: (يبتسم بخوف) آه فهمت يا سيدي.. أنت إذن عالم.. مخترع!
صوت مدير البنك: أحسنت يا وسواس.. في الحقيقة أنا اخترعت نظرية علمية هامة جداً للبشرية.. وأريد تطبيقها أولاً على ذاك الفنان.
وسواس: ولماذا اخترت الفنان بالذات؟
صوت مدير البنك: لأن الفنان هو أفضل عناصر المجتمع.
وسواس: فهمت يا سيدي.
صوت مدير البنك: أريدك يا وسواس أن تساعدني في تطبيق نظريتي العلمية.. أريدك أن تذهب إلى المثقف وتطلب منه أن يأتي إليّ ويحدثني بكل صغيرة وكبيرة عن الفنان.. ولكي ينطلق لسانه، ادفع له عشرين ألف ريال مقدماً، ومثلها بعد خروجه من عندنا.
وسواس: حاضر يا سيدي.
إنارة الأضواء كاملة. وسواس يتجه صوب المقهى، يختار كرسياً مجاوراً للمثقف ويجلس عليه. جميلة تتعب من الغدو والرواح وراء الكرة الصفراء، تجثو على ركبتيها، تجفف عرقها بكم فستانها، ثم تنهض بتثاقل وتجلس على المصطبة والقصعة بين يديها.
عبد اللطيف: لماذا أرهقت نفسك بالجري وراء تلك الكرة؟
جميلة: قالوا لي إنها محشوة بالمال، فقلت لنفسي أقف تحتها لعلي أحصل على شيء منه.
عبد اللطيف: (يضحك) الذي قال لك هذا الكلام هو شخص مغفل.. ألا تلاحظين أنها منفوخة؟
جميلة: نعم.
عبد اللطيف: إنها منفوخة بسبب الهواء لا المال.
جميلة: (ترمي بالقصعة بعيداً) كلامك صحيح.. لقد خدعوني.. شكراً لك لأنك أرحتني من الجري وراء تلك الكرة القبيحة.
عبد اللطيف: (يدخن سيجارة) أنا سأطلب فطوراً.. هل تفطرين معي؟
جميلة: (تنظر إلى رثاثة ملابسها) لا أدري.. ربما من غير اللائق أن أشاركك فطورك.
عبد اللطيف: ما هذا الكلام يا جميلة.. الناس كلهم متساوون فإياك أن تظني نفسك أقل درجة منهم.
جميلة: (تبتسم) طيب سأفطر معك.
عبد اللطيف: (يرفع صوته) يا حريب.. نفرين فاصوليا.
صوت حريب: واصل.
عبد اللطيف وجميلة يواصلان الكلام بصوت غير مسموع.
وسواس: (يخاطب المثقف) ماذا قلت يا أستاذ مرشد.. هل ستدلي بشهادتك؟
مرشد: أبببب .. بكل سرور.
وسواس يخرج من حقيبته رزمة نقود ويدسها في جيب معطف مرشد.
وسواس: خذ.. هذه الدفعة الأولى، وعند عودتك ستحصل على عشرين ألف ريال أخرى.. والآن هيا بنا إلى البنك.
وسواس ومرشد يتجهان صوب مقدمة المسرح.
وسواس: (يرفع غطاء المرحاض) تفضل بالجلوس يا أستاذ مرشد.
مرشد: (يجلس على المرحاض مواجهاً الجمهور وهو يتلفت محرجاً) أشكرك.
وسواس: عليك بالانتظار هنا حتى يفرغ السيد مدير البنك من مشاغله (يخرج).
مرشد: حاضر.
حريب يدخل وهو يردد إحدى أغنيات الفنان أيوب طارش، حاملاً بيد طبق الفاصوليا، وباليد الأخرى سلة الخبز. يضع السلة والطبق على المصطبة ثم ينصرف مدندناً بأغنيته الشجية. عبد اللطيف: وجميلة يأكلان وهما يقهقهان من السعادة.
إظلام تام.
صوت مدير البنك: أحم .. هل أنت في وضع لائق لكي أتكلم معك؟
بقعة ضوء تسقط على مرشد.
مرشد: يتلفت في كل الاتجاهات بحثاً عن مصدر الصوت) نعم.
صوت مدير البنك: أنت المثقف؟
مرشد: ينتبه للكرة الصفراء، يقف ويروح يطاردها وبصره للأعلى، أنا هو.. إنني أفضل مثقف في طول البلاد وعرضها.
صوت مدير البنك: هل صحيح أنك تأخذ أموالاً من ذوي الجاه لتغض بصرك عن مساوئهم؟
مرشد: كذب.. أعدائي الصهاينة عملاء السي آي إيه هم الذين يشيعون هذه الافتراءات.
صوت مدير البنك: هل تعرف عبد اللطيف: محمد أحمد؟
مرشد: عبد اللطيف: .. عبد اللطيف: .. آه أعرفه.
صوت مدير البنك: ممتاز.. أريدك أن تكلمني بكل المعلومات التي تعرفها عن هذا الشخص.
مرشد: هل تربطك به علاقة قرابة؟
صوت مدير البنك: (بحدة) هذا ليس من شأنك.. عليك أن تنفذ ما أطلبه منك دون أسئلة.
مرشد: (ينكّس رأسه) حاضر.
سوف يبذل مرشد جهداً جسدياً خارقاً للتعبير بملامح وجهه وحركات جسمه عن معنى الكلمات التي يتلفظ بها. وسوف تصاحبه موسيقى مناسبة.
مرشد: (يشهق مستجمعاً قواه) ما أعرفه أنه موظف في إحدى الوزارات لا.. لست صديقه.. لكن المقهى كما تعرف يجمع الإنس والجن، هو يتواجد في المقهى يومياً لشرب الشاي بالحليب. يحضر جلالته منذ الصباح الباكر، ويبقى في شارع المطاعم يرتع هنا وهناك كالجدي التائه حتى يحين موعد إغلاق المحلات في الساعة العاشرة ليلاً. يُفطر بثلاث أو أربع حبات خمير مع كوب شاي بالحليب، ويتغدّى في ساعة متأخرة، بعد أن تغلق المطابخ، يتسلل إلى مطعم يملكه أحد معارفه ممن ينتمون إلى نفس منطقته ويأكل البقايا.. وأما كيف يدبر وجبة العشاء فهذا أمر لا أعرفه، لأنني أعود إلى بيتي قبل حلول الظلام.. يقال إنه مهندس ديكور، ولكنه من وجهة نظري يشبه أخطبوطاً عملاقاً زحف إلى عالمنا من بالوعة مجاري متصلة بالبحر دون أن يلاحظه أحد.. يبدو أنه درس في الخارج.. إنه من أولئك النفر المتفرنجين الذين انبهروا بالبلد الأجنبي الذي درسوا فيه، وتأثروا بنمط جديد من الحياة المنفلتة، فلما عادوا لليمن فشلوا في التأقلم مع المجتمع وعاداته وتقاليده، فإذا هم معلقون في الهواء، مقتلعين من جذورهم، غير قادرين على الاندماج.. يفصلهم عن محيطهم غشاء رقيق.. مكوناته إحساس مفرط بالذات، واستعلاء على الآخرين، وغرور مجنح يبرز في اهتزاز الرأس، وتكبر مقرون بجنون عظمة خفي، وعدم تنازل يتمثل في العبوس الأبدي، والجلوس في المقهى وكأنه العبقري محط أنظار الجميع، وتوهمه أنه شخصية شهيرة يُفترض منه الترفع عن مخاطبة الغوغاء.. بل إنه ينغمس في اعتبار نفسه شخصاً مشهوراً، فتجده يبالغ في التخفي وحجب شخصه المعروف، لكيلا يزعجه المعجبون المفترضون بحضرته، مقلداً في حركاته الموزونة وتصرفاته المحسوبة كبار المشاهير في العالم! من صبح ربّي يخرج وقد شرب الخمر البلدي الرخيص، فتراه جالساً في المقهى وتحته الجريدة الرسمية، وهو يبرر فعلته بحرصه على بقاء مقعدة بنطلونه نظيفة.. ثم يصحو من سكرته بالتدريج كلما تقدم النهار.. نعم.. إنه يشتم النظام بانتظام، وهو يفتتح يومه بشتائم نارية، ويظل طوال اليوم في مزاج عكر، نزق، عدواني، ويعتقد أن الجميع يتقصّدون إهانته والتقليل من شأنه.. عندما تستمع إليه، تكتشف أنه يحمل في نفسه ضغينة على الناجحين، يظل يهذي في الصبح والمساء بكلام تشمّ منه المقت والكراهية لأصحاب الثروة والشهرة.. وهو صاحب نبرة عنصرية، وينفث نفثات شخص عذّبه الفشل، وأخرجته عقدة النقص عن طوره.. لم يتمالك أعصابه حين رأى فناناً موهوباً يحظى بتقدير المجتمع واحترامه، فراح يتنقص منه مُعرضاً بأصوله الطبقية.. عندي حدس أن في داخله عنفاً مكبوتاً، حلم بدمار العالم وصيرورته خراباً مقفرا.. إذا لاحظ أحداً في المقهى يتكلم ويجذب إليه الأنظار، فإنه يشعر بالغيرة والحسد، فيضع رجلاً على رجل، وينظر في الاتجاه الآخر قائلاً «خذ الحكمة من أفواه التيوس»! إنه موهوم، يخال نفسه رجلاً مهماً جداً.. وهو يتصرف مع الناس على هذا الأساس.. لذلك ليس من عادته رد التحية، أو الرد على الذين يخاطبونه، فهو يسمح لنفسه بممارسة أحد الامتيازات المقصورة على الملوك: عدم التخاطب مع الأشخاص الأقل مكانة.. يمشي ورأسه مرفوع إلى عنان السماء، وفي مرات نادرة كان ينزل رأسه من عليائه ليثرثر مع أحد معارفه.. لا يضحك ولا يبتسم، مقطّب الجبين، ملامحه منقبضة متجهمة، وعيناه تبعثان رسالة مشاكسة لكل من يراه.. يحيط نفسه بالغموض، وهالة من الهيبة الزائفة، لأنه لا يتبسط في الحديث، ولا تنفرج أساريره، ولا يرفع صوته، فكلامه هامس، وكأنه يُسر بأشياء خطيرة، لا يريد للمخبرين أن ينقلوها عنه.. يُعطي نفسه أهمية مصدرها هلوسة لا واعية، ويُضخم ذاته.. حركة عينيه من خلف النظارة الشمسية التي لا تفارق وجهه تارة يميناً وتارة يساراً، في مراقبة لا تكل لحركات جلسائه ومن منهم ينصت لأقواله، تدل على المقلب الكبير الذي أخذه في نفسه! لقد رأيته مرة يخترق جماعة كبيرة من المراجعين المتجمعين حول الوزير، ووقف قبالته بقوة وثبات رافعاً رأسه حتى كاد أنفه يلمس أنف الوزير وكأنه من علية القوم، فتهيبه الأخير وظنه شخصية ذات مركز مرموق، وحين سمع منه، تبين أنه يطلب مساعدة مالية، فأمر له الوزير بمبلغ معقول، فإذا به يجادل جدالاً شديداً ويرفع صوته على الوزير، ففقد معاليه أعصابه وراح يصرخ هو الآخر، فتدخل الحرس وأبعدوه بالقوة وبطريقة غير لائقة.. فرحل وهو يدمدم وقد ازداد عبوسه، وصار جسده يتلوى بحركات عصبية لا إرادية.. آخر مرة رأيته؟ اليوم في المقهى قبل ثلاث ساعات تقريبا.. كان يلبس بذلة كحلية مخططة بخطوط رأسية.. يمكنك أن تقول إنها قبيحة جداً عندما تتأملها عن قرب وتكتشف أنها غير مكوية أيضاً.. أتذكر أنه رآني أدنو من المقهى فوقف ومشى باتجاهي متعمداً الاحتكاك بي.. صدمني بقوة في كتفي.. كان يريد استفزازي والتنفيس عن عقده النفسية في مشاجرة معي.. ولكنني تجاهلته وتابعت طريقي وكأنه غير موجود. (يلاحظ مرشد أن الكرة الصفراء قد توقفت في مكانها) هل هذا يكفي؟
صوت مدير البنك: نعم .. اذهب إلى المحاسب لاستلام بقية أتعابك.
مرشد: شكراً (يجري خارجاً).
إظلام تام.
صوت مدير البنك: بعد مرور يومين فقط، شعرت بالحاجة إلى شخص آخر يُدلي بشهادته عن عبد اللطيف: محمد أحمد.. ففكرت في تلك الفتاة المتسولة.. أظن أن اسمها جميلة.. وكلفت مندوبي وسواس بتدبر الأمر.
تظهر بقعة ضوء مسلطة على جميلة التي ستسرد حكايتها وهي ترقص، وعليها ملابس مناسبة للرقص، وسوف يصاحب رقصها مقطوعات موسيقية. ستتكلم بنبرة هادئة ليس فيها أثر للانفعال.
جميلة: مهندس الديكور عبد اللطيف: هو الوحيد بين الذكور الذي التفت إليّ وغازلني.. كان يرسل قبلاته إلى ثغري والشارع يعج بالناس، وكأنه لا يقيم وزناً لأحد منهم.. كنت أنظر إليه بصمت، ويحمرّ خدايّ من الحياء.. أصبحت عندما أراه يثب قلبي بين ضلوعي، وأشعر بحرارة تلفحني في صدري وكأني تنور يتوقد.. أقف كل صباح في ناصية شارع المطاعم أتسول من السابلة، ويجلس هو على دكته المفضلة، وتحته قطعة كرتون نظيفة.. وعندما يكون مزاجه رائقاً، فإنه يحتويني بنظراته الدافئة، ويتحرش بي بقبلاته الطائرة، ويسمعني كلمات عذبة تدوّخني، لم أسمعها من أيّ مخلوق قبله قط.. عمري سبعة عشر عاماً، كثيراً ما أتخيل نفسي زوجة له، وأغرق في أحلام يقظة مرحة عن حياتنا العائلية.. من شدة تعلقي به، حفظت عن ظهر قلب عاداته اليومية، وأطباقه المفضلة، وماركة السجائر التي يدخنها، وصرت أعرف الأشياء التي تفرحه، أو بالعكس التي تكدره.. ربما حتى والدته لم تفهمه كما فهمته أنا.. إن طبقه المفضل في وجبة الإفطار هو الفول مع اللحم المفروم، وهو يتناوله تحديداً في مطعم صغير محجوب عن الأنظار، يقع في نهاية شارع المطاعم من الجهة المسدودة بجدار.. ويتغدّى في مطعم مجاور وجبة سلتة دسمة.. وأما وجبة العشاء فلا أدري ماذا يأكل.. أخي الكبير يحملني بسيارته إلى البيت قبل غروب الشمس بساعة على الأقل، والسبب أنّني في مرة تأخرت إلى الليل فهاجمتني عصابة من صبيان الشوارع ونهبوني حصيلة ذلك اليوم، فلقيت ملء جلدي ضرباً في البيت.. عمره أقل من الخمسين، متوسط القامة، ووزنه مضبوط، فهو يساوي تقريباً طوله.. بشرته سمراء لوحتها الشمس، وذقنه وشاربه حليقان.. عيناه صغيرتان غائرتان في محجريهما، وشعره أسود يخلو من الشيب.. لا.. لا أظنه يصبغ شعره.. يضع على عينيه نظارة شمسية لونها ضارب إلى الكستنائي، تضفي عليه سمتاً جليلاً، وتمنحه مهابة في القلوب.. يهوى الظهور ببذلة كاملة، إذ لم أره ولا مرة واحدة طيلة سنوات بمظهر غير رسمي.. يعني ليس من الممكن أن تراه بالقميص فقط، أو في ثوب أو مئزر.. هو يفضل البذل الفضية أو ذات اللون الأخضر بدرجاته المختلفة.. وربطات العنق الذهبية أو الحمراء.. الشيء الوحيد الذي يخدش مظهره الأنيق، لبسه أحياناً شبشباً لا يناسب البذلة الكاملة، ولكنه غالباً ما يرتدي جزمة تناسب لون البذلة.. وأما أكثر شيء يجذبني إليه، فهو حرصه الدائم على تغطية رأسه بقبعات ذات ألوان رائعة، تظهر معدنه الأصيل كفنان عظيم.. إنه رجل متواضع رغم أنه فيلسوف مثقف.. لقد سمعته مرة يتكلم مع شبان صغار بهذه الحكمة “إذا توقفت الأرض عن دورانها المجنون حول نفسها، فإن الإنسان سيكف عن الجري وراء لقمة عيشه ويرتاح”.. وعندما اندلعت الحرب بين لبنان وإسرائيل، رأيته يظهر في وقت مبكر جداً، وذقنه غير محلوقة، ووجهه مقلوب كامد اللون، وقد ألصق راديو ترانزستور بأذنه والآريال مرفوع إلى الأعلى.. كان يتابع أخبار الحرب على لبنان أولاً بأول، وكأنه مواطن لبناني مقيم في اليمن! في تلك الأيام نسيني تماماً، وصار يُمضي اليوم بطوله في استماع الأخبار، وهو يمشي ذهاباً وإياباً كذئب محبوس في قفص.. آه كم تعجبني مشيته! إنها مشية تميزه عن كافة الرجال.. مشية أريحية متقاربة الخطوات، فيها موسيقى.. إيقاع راقص.. رأسه يتماوج في حركة متسقة مع جسده، وكأنه لا يمشي بقدميه فقط، بل بجسمه كله.. أليست هذه المشية المختالة تشبه مشية الأسود الفخورة بنفسها! مرة ناولني ورقة خضراء لا أعرف من أيّ شجرة انتزعها، وطلب مني أن أتأملها بدقة، وأن أخبره ماذا تشبه.. شغلت عقلي بأقصى طاقته، وفكرت ماذا تشبه، فلم أصل إلى أيّ جواب.. تركني أفكر، وذهب ليشرب شايه العدني، ارتشفه بمهل وهو يختلس النظر إليّ من حين إلى آخر.. فكرت أن أقول له إن ورقة الشجرة تشبه قلب الإنسان.. ارتحت لهذه الفكرة وشعّ محيّاي بالفرح، وافترضت أن هذا هو الجواب الذي سيقربني منه أكثر.. حين أنهى كأسه، وقف ورماني بنظرة استفهامية، فلما حزر من ابتسامتي أنني توصلت إلى الجواب، اقترب مني وأشار بيده مستطلعاً جوابي، فلما سمع كلامي رفع حاجبيه وحك أنفه، ورد عليّ بأن تشبيهي خاطئ.. فقلت له “ما هو الجواب الصحيح؟” أمسك بيدي وشرح بسبابته قائلاً “ورقة الشجرة هذه تشبه أحلامك عن الرجال!”. ثم ابتعد عنّي وهو يقهقه من أعماق قلبه، وأما أنا فقد ارتعش بدني، وكاد يغمى عليّ من الموقف المخجل الذي وضعني فيه.. آه يا له من رجل ساحر! (تخرج).
إظلام تام.
صوت مدير البنك: بعد أسبوع واحد وليس أكثر، أحسست برغبة فتاكة في معرفة المزيد من الأخبار عن عبد اللطيف: محمد أحمد.. فكرت في انتزاع المعلومات التي أريدها من فم عبد اللطيف: نفسه ولكن بطريقة غير مباشرة.. وبناءً على أوامري دفع مندوبي وسواس مبلغاً محترماً من المال لذاك الصحفي التافه الذي يضيع وقته في الجلوس على المقاهي، فقام بإجراء حوار صحفي مع عبد اللطيف: محمد أحمد.
بقعة ضوء تسقط على الصحفي الذي بيده مسجلة، وعبد اللطيف: الواقف بجواره.
لوحة: صفوان داحول
الصحفي: اليوم أعزائي القراء نسلط الضوء على واحد من أعظم مهندسي الديكور في وطننا الغالي، إنه المهندس عبد اللطيف: محمد أحمد، فليتفضل بالحديث عن نفسه (يُقرّب المسجلة من فم عبد اللطيف:).
إنارة أضواء المسرح كلها. أرواح بملابس خضراء ترفرف حول عبد اللطيف: وترقص.
عبد اللطيف: (يتحرك في المسرح والصحفي يلاحقه بالمسجلة) اسمي عبد اللطيف: محمد أحمد، من مواليد 1958، نشأت يتيماً في بيت جدي، وعندما بلغت العاشرة من عمري أخذني عمّي معه إلى كينيا، وبعد أشهر قليلة توفّي عمي، وطردتني زوجة عمي إلى الشارع.. و كان من حسن طالعي أن أسرة لبنانية مارونية تبنتني وعاملتني كواحد من أبنائها، حيث عرفت الحياة على حقيقتها، ولقيت تربية أسرية راقية جداً لدرجة لا تتصورها.. عوّضت ما فاتني من التعليم، ودرست في مدارس فرنسية، وتعلمت الرسم والعزف على البيانو والرقص، وأتقنت الفرنسية والإنكليزية والأسبانية. كنا نقضي الإجازة الصيفية في بيروت، وعندما تفجرت الحرب الأهلية عام 1975، أصبحنا نقضي الإجازة الصيفية كل عام في بلد أوروبي مختلف. ثراء أسرتي اللبنانية سمح لي أن أزور العالم كله. لقد عبرت المحيط الأطلسي عشر مرات، وتجولت في أميركا الشمالية والجنوبية وعرفتها بلداً بلداً، وأما تشيلي فأعرفها وأعرف شوارع سانتياغو كما أعرف كفّي هذه، لأنني عشت هناك سنتين ونصفا في رعاية شقيقة والدي اللبناني بالتبني. هناك حاولت دراسة الهندسة الإنشائية، ولكنها لم تعجبني، فغادرت سانتياغو وتوجهت إلى باريس لدراسة فن الديكور. عشت سبعة عشر عاماً مع عائلتي اللبنانية، ذقت خلالها كل متع العالم، وحصلت على كل ما تتخيله من ملذات.. كان المال يجري في يدي كشلال لا يتوقف.. (الأرواح تتوقف عن الرقص وتتجمد في مكانها) عندما مات والدي بالتبنّي، قررت عائلتي اللبنانية الهجرة نهائياً إلى أوروبا، فانفصلت عنها، وعملت في مجال المقاولات، وبسرعة فرضت اسمي في السوق، وكسبت ثروة.. تزوّجت مرتين، الأولى كانت فرنسية، ملكة جمال مدينة نيس، ولم أستمر معها سوى سنة واحدة.. وأما الثانية فكانت كينية مولدة، وقد عاشت معي ثلاث سنوات ثم طلقتها، ولم أرزق بأطفال من أيّ منهما. شاء القدر أن تحدث لي مشكلة لم تكن في حسباني، دخلت بسببها السجن، ثم تم ترحيلي من كينيا إلى هذا الشارع في لمح البصر.. كان ذلك في بداية التسعينات. لم أستسلم لليأس، وحاولت النهوض من كبوتي، فوظفت الأموال التي عدت بها من كينيا في أعمال المقاولات، وتمكنت من الفوز بأهم المناقصات التي كان يعلن عنها البنك آنذاك. وشاءت الظروف المعاكسة أن أتعب نفسياً في تلك الفترة (الأرواح الخضراء تخرج وهي تتلفت فزعة) وكانت لي مستحقات مالية تقدر بحوالي ثمانمئة ألف دولار لدى البنك، لم أتمكن فيما بعد من استردادها.. ساءت حالتي النفسية أكثر مع انفجار الحرب الأهلية عام 1994 التي حطمت أعصابي تحطيماً، وأصبت بمرض اتصال الخلايا، إنه مرض خبيث نادر والعلم لا يعرف عنه أيّ شيء تقريباً.. وعندما أصبت به أمست خلايا عقلي ترسل ذبذبات في الفضاء، وتحمل معها كل شيء أفكر فيه.. وهم بأجهزتهم الخاصة يلتقطونها، وبهذه الطريقة يتجسّسون عليّ ويعرقلون أيّ شيء أريد إنجازه.. ثم يوجّهون أفكارهم الشريرة إلى خلاياي لتدميري وتحويلي إلى مجرم ينفذ أطروحاتهم القذرة. هم يفعلون معي هذا لأنّني رفضت أن أكون تابعاً لهم، رفضت أن أنفّذ أوامرهم، هم يريدون الخلاص مني بأيّ طريقة. سبعة عشر عاماً مرت وأنا أعاني من هذه الحالة المرضية.. لقد قطعوا عنّي كل سبل العيش الكريم، وحاربوني في كل مكان أذهب إليه للحصول على عمل، حتى الزبائن الذين يطلبونني في أعمال الديكور، يأتي مندوب منهم ليحذرهم من التعامل معي، بدعوى أنني مختل عقلياً.. ومع ذلك أنا ما زلت متمالكاً لنفسي ولقواي العقلية، ووضعي ما زال تحت السيطرة. هم سفلة الكون وفضلاته العفنة.. وأنا أتحداك أن تجد واحداً منهم قد جمع ماله بعرق جبينه.. أتحداك أن تجد واحداً منهم قد عاش بشرف.. تأكد أنني لست الوحيد في هذه البلاد الذي ضاعت حقوقه المالية.. أنا لا أتكلم عن مشكلتي الشخصية.. أنا أتكلم عن مشكلة يعاني منها كل الناس.. كل واحد من هؤلاء البشر المساكين الذين تراهم تائهين هنا لهم حقوق مالية ضائعة.. أليس لكل واحد من هؤلاء المخنوقين بالفقر نصيب من إيرادات النفط؟ مشكلتي أنني حامل لهموم الناس جميعاً.. ولذلك لا يتركونني أنام.. يبعثون برسائلهم إلى خلاياي طيلة الليل.. وبالكاد أنام ليلة واحدة فقط في الأسبوع. القهر والظلم والإجرام كانت أشياء أسمع عنها ولا أعرفها، كانت بالنسبة إليّ مجرد كلمات موجودة في القواميس، أو حاضرة في الأفلام السينمائية، لكن منذ عودتي إلى هذا الشارع وجدتها متجسدة في الواقع، تلمسها في كل شبر من الأرض.. فأيّ انحطاط أكثر من هذا؟ السفلة المجرمون حولوا البلاد إلى مزبلة بلا قاع، وسوق لبيع كل شيء. (يخرج غاضباً).
الصحفي يدير ظهره للجمهور.
إظلام تام.
ستار
الفصل الثاني
عبد اللطيف: يجلس وحيداً في المقهى، يرتشف الحليب من كأس زجاجية مطلية باللون الأخضر. يدخل وسواس حاملاً حقيبته السوداء ويجلس بجوار عبد اللطيف:.
وسواس: يا مباشر (يشير لعامل المقهى) واحد حليب (يخاطب عبد اللطيف بابتسامة واسعة) أنت عبد اللطيف: محمد أحمد؟
عبد اللطيف:: (ينظر إليه ملياً) نعم.. أي خدمة؟
وسواس: (يخرج من حقيبته صحيفة، يفردها ويشير إلى إحدى الصفحات) لقد قرأت المقابلة الصحفية التي أجريت معك، لقد نشروها في صفحة كاملة، إنها مقابلة رائعة.
عبد اللطيف:: أشكرك.
وسواس: يشرفني أن أعرفك بنفسي.. أنا مندوب البنك.
عبد اللطيف:: (مصعوقاً من المفاجأة) ماذا..
وسواس: أبشرك.. لقد قرأ مدير البنك مقابلتك الصحفية واتخذ قراراً بحل مشكلة حقوقك المالية لدى البنك.
عبد اللطيف: ينظر إلى وسواس من فوق إلى تحت بازدراء، يحمل كأسه ويمشي بضع خطوات راغباً في الانصراف من المقهى. يدخل حريب حاملاً كأس الحليب. وسواس يقفز من مكانه ويقطع الطريق على عبد اللطيف:، يمد له ببطاقة ذهبية.
وسواس: لحظة من فضلك يا سيد عبد اللطيف:.. خذ هذه بطاقتي المهنية التي تثبت صفتي القانونية كمندوب للبنك.
حريب يتبع وسواس محاولاً العثور على فرصة ليناوله كأس الحليب.
عبد اللطيف:: (يقرأ البطاقة بتمعن ثم يعيدها لصاحبها، يتكلم بصوت أجش مُتوعد) ومتى سأستلم مستحقاتي المالية عندكم؟
وسواس: ستستلم نقودك بعد تنفيذك للشرط.
عبد اللطيف:: أي شرط؟
وسواس يتلفت، يكتشف وجود حريب خلفه، يعطيه نقوداً ويشير عليه بالانصراف، حريب يتلكأ ويرهف سمعه.
وسواس: نحن نشترط عليك ارتكاب جريمة ما.. جريمة واحدة فقط لتصير إرهابياً، وبعد ذلك يمكنك المجيء إلى البنك لاستلام الثمانمئة ألف دولار.
عبد اللطيف:: ما هذا الكلام.. هل أنت عاقل أم مجنون؟
يخرج المندوب من حقيبته مظروفاً أسود، يفرغ محتوياته ويستعرضها.
وسواس: انظر يا سيد عبد اللطيف:.. هذا شيك بثمانمئة ألف دولار يُدفع لحامله، سوف يُسلم إليك عقب تنفيذك لشرطنا.. وهذه قائمة تحتوي سبع عشرة جريمة مقترحة من جانبنا، وعليك اختيار واحدة منها.
يبعد مهندس الديكور النظارة الشمسية عن عينيه ويبحلق بكل روحه في القائمة الزرقاء، ويقرؤها في سره. عدد من رواد المقهى يتجمهرون حولهما، وكذلك جميلة أيضاً. سحنة عبد اللطيف: تنقلب وكأن أحدهم قد دلق عليها زيتاً حاراً، وجهه يحمرّ احمراراً شديداً، وجسده كله يرتجف رجفاً عصبياً يدل على غضبه البالغ . تنقلب أمعاء وسواس من الخوف عندما يقف عبد اللطيف: كالمارد ممزقاً الورقة الزرقاء ويفتتها فوق رأسه.
عبد اللطيف:: (يصرخ بجنون) أتريد أن تحوّلني إلى إرهابي.. لعنة الله عليك وعلى كل بنوك العالم.
رواد المقهى وجميلة يتضامنون مع عبد اللطيف: وتنطلق حناجرهم بالصفير وصيحات الاستنكار، فيتحول شارع المطاعم في لحظة إلى بركان يدمدم بغضب. ينسحب وسواس بخطوات عجلى متعرجة، وهو يحمي وجهه بحقيبته.. يتجه صوب المرحاض، يجلس عليه وهو يبكي.
إظلام تام.
صوت مدير البنك: ما الذي يحدث في هذا العالم.. كيف يجرؤون على إهانة مندوبي.. هل فقد هؤلاء الغوغاء عقولهم.. أقسم أن أنتقم.
صوت رعد وريح عاصفة. أضواء المسرح تومض كالبرق. يخرج وسواس ورواد المقهى. تهدأ العاصفة الرعدية، إنارة أضواء المسرح. عبد اللطيف: يجلس وحيداً على طاولة المقهى وأمامه كوب حليب، وبين يديه راديو يحرك مؤشره بحثاً عن محطة إذاعية. وسواس يدخل متنكراً في هيئة مجنون، يهذي بكلام غير مفهوم، ويقوم بحركات عصبية تشنجية يتصنع بها ضياع عقله. عبد اللطيف: يراقبه فترة من الوقت، ثم يعاود الاهتمام بالراديو. فجأة يقترب وسواس من طاولة عبد اللطيف:، يختطف الكأس ويدلق محتوياته في وجه عبد اللطيف:.
عبد اللطيف: (يهبّ واقفاً ماسحاً وجهه من الحليب الساخن) يا حيوان!
وسواس يضحك. عبد اللطيف: يهجم على وسواس ويضربه بكل قوته. صوت إنذار سيارة شرطة، شرطيان يدخلان ويلقيان القبض على عبد اللطيف:. وسواس يغافلهم ويخرج قارورة فيها سائل أحمر، يسكبها على رأسه.
وسواس: أنقذوني يا ناس.. هذا المجرم كسر جمجمتي.. آآآآه.
الشرطيان يجرجران عبد اللطيف: بالقوة (يخرجون).
وسواس يستلقي على الأرض متماوتاً. صوت إنذار سيارة الشرطة وهي تبتعد.
إظلام تام.
فاصل موسيقي حزين، أضواء رمادية. يدخل من جهة اليمين رجل يرتدي ملابس بيضاء، كأنه ملاك، يضع على وجهه قناعاً نورانياً، وبيده سيف ودرع. يدخل من جهة اليسار رجل يرتدي ملابس حمراء، وله ذيل أحمر، كأنه شيطان، ويضع على وجهه قناعاً بشعاً مخيفاً، وبيده سيف ودرع. الرجلان يتقاتلان بسيفيهما قتالاً عنيفاً جداً. الرجل الأحمر يقتل الرجل الأبيض، فيخر الأخير على الأرض صريعاً.
إظلام تام.
تتوقف الموسيقى. في هذه الأثناء يتم تبديل المصطبة بشبك حديدي. إنارة أضواء المسرح.
عبد اللطيف: يروح ويجيء داخل الزنزانة كأسد أسير. تطرأ تغييرات على شكله، لقد تحدب ظهره، وابيضّ شعره، ونمت لحيته. يدخل وسواس متأبطاً حقيبته السوداء، يقترب من الزنزانة بخطوات مُختالة.
وسواس: كيف وجدت السجن يا عبد اللطيف:؟ (لا يتلقى رداً) يبدو أن بقاءك سبعة عشر شهراً في زنزانة واحدة مع القتلة واللصوص وهاتكي الأعراض قد غيّر مظهرك كثيراً.. لقد صرت جلداً على عظم، والشيب غزا رأسك، وظهرك تقوس كالعجائز.. لقد زاد عمرك عشرين عاماً في شهور قليلة.. وشبح الموت يحلق بين عينيك كذبابة عنيدة! (يمسك بربطة عنقه الوردية ويستخدمها كمروحة) بالمناسبة لقد قمنا بإحراق ملفك.. وهذا يعني احتمالين.. الأول أننا نستطيع إخراجك من هنا بمكالمة تليفونية، والثاني أننا نستطيع سجنك هنا إلى آخر أيامك.. لأنك سوف تعتبر في نظر القانون مجرماً بلا جريمة.
تمر دقيقة صمت بالنسبة لعبد اللطيف: ووسواس، كأنهما يقفان حداداً على روح ميت.
عبد اللطيف: (يستيقظ من شروده وينطق أخيراً) يوماً ما ستظهر الحقيقة.
وسواس: (يضحك حتى يتطاير اللعاب من فمه) الحقيقة.. يا لك من ساذج.. يا صاحبي الحقيقة تساوي ما يُدفع فيها.. وبما أننا نحن الذين ندفع المال فإنه من حقنا أن نحصل على الحقيقة التي نرغب بها.. لا بد أن تفهم أن الحقيقة وثيقة الصلة بالجيب.. وبما أن جيبك فارغ وجيبي أنا ملآن فهذا يعني أن الحقيقة ليست في جيبك بل في جيبي!
عبد اللطيف: (يتكلم ببطء) أريد أن أعرف.. ما هي الجريمة التي ارتكبتها في حق مديرك؟
وسواس: جريمتك أنك لم ترتكب أيّ جريمة على الإطلاق!
عبد اللطيف:: ولماذا يُصرّ مديرك على تحويلي إلى إرهابي؟
وسواس: لأنه يرغب بشدة في أن تنال حقوقك.. أن تأخذ الثمانمئة ألف دولار.. ولكن بشرط.. أن تثبت جدارتك.
عبد اللطيف: أيّ جدارة.. هل تسمي تلطيخ يديّ بدم الأبرياء جدارة؟!
وسواس: مديري فيلسوف من طراز فريد.. اخترع نظرية أخلاقية جديدة.. وأنت أحد النماذج التي يشتغل عليها.
عبد اللطيف:: أنا؟
وسواس: نعم.. النظرية تقول باختصار أن على الإنسان أن يسلك سلوكاً إجرامياً معيناً لكي ينال حقوقه المادية والمعنوية في المجتمع.. كما تفعل الحيوانات المفترسة في الغابة.. وكمكافأة لسجله الإجرامي فإنه يصير بالضرورة مواطناً صالحاً!
عبد اللطيف:: هذا يعني أن المواطن الأصلح هو الأكثر إجراماً؟
وسواس: بالضبط.
عبد اللطيف:: وإذا رفض إنسان هذه النظرية جملة وتفصيلا وأصر أن يبقى بريئاً؟
وسواس: في هذه الحالة سيعتبر هذا الإنسان مواطناً غير صالح، وسيصنف بالضرورة كمجرم ارتكب أسوأ الجرائم في حق المجتمع.. ألا وهي أنه لم يمتلك الشجاعة الكافية لارتكاب أيّ جريمة.
عبد اللطيف:: نظرية مديرك الأخلاقية معقدة جداً.
وسواس: بالعكس إنها سهلة جداً جداً.. لو أنك تتكرم بالموافقة حينئذٍ ستراها كما أراها أنا.
يصمت عبد اللطيف: ويغرق في تفكير عميق.
عبد اللطيف: (يتكلم بصوت مختلج) هل لديك سجائر؟
وسواس يخرج من جيبه علبة سجائر، يأخذ واحدة لنفسه ويشعلها بقداحة، ثم يسحب واحدة أخرى ويشعلها من مؤخرة سيجارته، ويناولها لعبد اللطيف: من ثقوب الشبك الحديدي. عبد اللطيف: يتنشّق الدخان بلذة عامرة، ويتأوه من شدة النشوة.
عبد اللطيف: لو سمحت ناولني القائمة الزرقاء.
إظلام تام. أصوات عواء ذئاب.. أضواء حمراء وبنفسجية. عبد اللطيف: يخرج من الزنزانة، وسواس يناوله بندقية كلاشينكوف ويلبسه القناع الشيطاني. رواد المقهى جالسون حول الطاولات، وجميلة تدور تشحذ منهم. حريب بيده إسفنجة ينظف إحدى الطاولات. عبد اللطيف: يقترب من المقهى، يصوب البندقية، ويفتح النار عليهم جميعاً. صوت طلقات نارية تصم الآذان. رواد المقهى وجميلة وحريب يسقطون قتلى على الأرض. أصوات صرخات وبكاء. عبد اللطيف: ينسحب عقب قيامه بجريمته، ويذهب للجلوس على المرحاض متوكئاً على البندقية وكأنه بطل. وسواس يصفق بحرارة شديدة.
ستار