جلال أمين خرافة التخلف
وبينما تبحث “الجديد” في هذا العدد تلك الإشكالية وتعيد طرح السؤال في قضايا الواقع العربي المتردي، كان لهذا الحوار مع المفكر والاقتصادي المصري جلال أمين، أهمية خاصة؛ تنبع ربما من كون أطروحاته مغايرة لكل ما سلف من أطروحات في المسألة؛ فالمشكل الرئيسي المتعلق بالتخلف العربي له منظور مغاير في رأي المفكر الثمانيني يجعله ربما أخف وطأة وأكثر احتمالًا بغية تحقيق هدف له الأولوية في نظره وهو “تجنب الشعور بالعار”.
لا ينكر جلال أمين أن العرب اليوم في أحوال سيئة، لكنه يرفض أن يسمهم بالتأخر أو التخلف، فالتقدم والتأخر ليسا سوى خرافة في رأيه خصوصًا مع إصراره على أن التقدم التكنولوجي في الغرب لا يعني أنه متقدم بالضرورة. يُلِح أمين على الفكرة، مراراً، في كتاباته “نحن فقراء ولكن هذا لا يعني أننا متخلفون. هم متقدمون علينا في التكنولوجيا ولكن في الحياة أشياء أخرى غير إنتاج السلع. أما التخلف فهو ليس إلا الشعور بالعار”.
أفكار جلال أمين تتمحور حول رفضه لما أفرزته العولمة من تقارب بين دول العالم وضياع للهويات والخصوصيات الثقافية، ومن ثم فكثير من أوجه الضعف أو سوء الأحوال العربية يمكن رده إلى تأثيرات خارجية تارة إلى الاستعمار وأخرى إلى الغزو الثقافي وسعي الدول الكبرى لفرض هيمنتها على الدول العربية. وانطلاقاً من هذا التصور، فإن العرب لا يلومون سوى الدول المُستعمِرة التي أودت بالأحوال إلى ما هي عليه الآن، بعيدًا عن أيّ إدانة للذات العربية أو تحميلها المسؤولية بأي شكل عما آلت إليه أحوالها!
ولكن ألا تضعنا هذه الرؤية في دائرة مفرغة تجعلنا نبحث في سوءات الحضارة بدلًا من البحث في سوء أحوالنا، وفي سبل الخروج من مستنقع الجهالة؟ هل بات كثير من المثقفين العرب مصاباً بداء الغرب، إما في انبهار مرضيّ بمظاهر حضارته، أو في رفض كامل له يُحمِّله المسؤولية عن جلّ مشاكل مجتمعات الشرق؟ إلى أين يمكن أن نصل في نقد الحضارة الغربية، في وقت تتعاظم فيه أزماتنا ومشكلاتنا العويصة، بل وانهياراتنا؟ هل الأولوية فعلًا يجب أن تنصبّ على مجابهة المجتمع الاستهلاكي ورفض العولمة ومؤسساتها، بينما المجتمعات العربية لا تزال غير قادرة على بناء المؤسسات الحديثة والفكاك من سطوة استبداد ديني وآخر سياسي؟
هذه الأسئلة ولّدها الحوار مع المفكر المصري الثمانيني جلال أمين وقد رأينا من المهم أن نمكّنه من طرح رؤيته الفكرية على طاولة النقاش بالموازاة مع جملة من المقالات الفكرية في ملف حول “حاضر العرب وسؤال المستقبل”. وهو حوار تواصل فيه “الجديد” وللعام الثالث حواراتها مع أهل الفكر في جملة من القضايا المتعلقة بالتفكير العربي والخطابات الفكرية في علاقتهما بالواقع المتفجر والوقائع المأساوية التي يشهدها العرب في لحظتهم الحاضرة.
قلم التحرير
الجديد: في كتابك “خرافة التقدم والتأخر” ثمة نقطة محورية تسعى لإثباتها مفادها أن ما حققته الحضارة الغربية من منجزات علمية وتكنولوجية لا يعني تقدمها بالضرورة وتخلف من سواها، وأن ثمة مسائل متعددة يمكن من خلالها قياس التقدم أو التأخر من أهمها الخصائص الثقافية الوطنية. أليس من الإجحاف تجريد ما حققته الحضارة الغربية من إنجاز أو تقدم إنساني بإرسائها لمبادئ العقلانية ونسبه فقط للمنجز التكنولوجي فيما حققت تلك الحضارة منجزات أوسع في الإطار الإنساني الأشمل؟
جلال أمين: قد يكون لديك حق في اعتراضك، ولكني أظن أن افتتان العرب بالغرب كان سببه أساسًا تقدمهم التكنولوجي، صحيح أن التقدم التكنولوجي في الغرب جاء معه تقدم علمي وفكري وأخلاقي في أحيان كثيرة، لكن تقدم الغرب أظنه بدأ أساسًا بتقدم تكنولوجي منذ الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر. قبل ذلك لم تكن الفجوة ما بين العرب والغرب كبيرة أو ملحوظة، حتى في عهد محمد علي لم يكن واضحًا جدًا أن الغرب متقدم بشكل كبير عن العرب.
كنت أقرأ في كتاب للمفكر اللبناني شكيب أرسلان بعنوان “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟” والذي يردّ فيه الأمر إلى ضعف الإرادة، فحينما تضعف إرادة الأمة يضعف ويتدهور كل شيء، وهو هنا ينفي أيضًا أن يكون سبب تدهور حال العرب تخلفهم التكنولوجي، فالإرادة العربية أصابها ضعف شديد في فترة ما، ولا تزال ضعيفة حتى الآن، وعندما تضعف الإرادة ينهار كل شيء.
إذن فالإرادة لها دور كبير يُبيّن أن استرداد التقدم أو الحصول عليه ليس مستحيلًا. المرض نفسي أكثر منه مادي، صحيح أن التقدم التكنولوجي أدى إلى تقدم في مسائل أخرى كثيرة لكن التقدم التكنولوجي نفسه يعتمد على أشياء نفسية أعتقد يمكن الحصول عليها.
لا يمكن الجزم بما يقال من أن العقلية العربية أكثر ميلًا بطبيعتها للفكر الغيبي والخرافي؛ فأوروبا في العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر كان يسيطر عليها التفكير الغيبي
هناك مفكرون أكثر ميلًا لرد حالة الإخفاق إلى خلل في التكوين العربي، ولكني لا أعتقد بصحة هذا الزعم خصوصًا وأن العرب كانوا في وقت ما أعظم أمة في العالم وبالتالي لا يوجد شيء في العقلية أو النفسية العربية تمنعهم من الخروج مما هم فيه، طبعا يبدو الآن أنهم مليئون بالأمراض لكن ليس من الصعب علاجها.
ولا يمكن الجزم بما يقال من أن العقلية العربية أكثر ميلًا بطبيعتها للفكر الغيبي والخرافي؛ فأوروبا في العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر كان يسيطر عليها التفكير الغيبي، التفكير غير العلمي كان موجودًا في الغرب إذن وليس صفة في العقل العربي، مع ذلك عرف الغربيون كيف يتخلصون منه. يمكنني التأكيد على أن التخلف الاقتصادي تحديدًا يجلب كل الأشياء السيئة ومنها حتى ضعف الإرادة وبالتالي نقطة البداية في رأيي تكون بحدوث إصلاح اقتصادي.
الجديد: تقول إن البداية تكون بإصلاح اقتصادي رغم ما قلته في كتابك “خرافة التقدم والتأخر” من أن الانتقال من مرحلة متخلفة اقتصاديًا إلى مرحلة متقدمة اقتصاديًا لا تعني بالضرورة الانتقال من حالة ثقافية متدنية إلى حالة ثقافية أرقى.
جلال أمين: لا أذكر أني قلت هذا، أعتقد دومًا بأن التغير الاقتصادي مهم جدًا. من الجائز أن يكون ما قصدته أن المسألة تحتاج بعض الوقت، فليس كل تقدم اقتصادي يكون معه تقدم فكري ولكني أرى أن كل تقدم فكري عادة يسبقه تقدم اقتصادي مستمر لفترة معينة.
النهضة الأوروبية على سبيل المثال، هناك خلاف مشهور بين المفكرين الأوروبيين؛ بعضهم يرى أن النهضة حدثت بالانتقال من الكاثولكية إلى البروتستانتية، والبعض يرى أن التقدم الاقتصادي كان المحرك الأول. أرى أنه تاريخيًا في عصر النهضة الذي مرت به أوروبا من القرن 15 إلى القرن 18 ظهر مفكرون دعوا إلى تغيير النظرة إلى الإنسان باعتباره غير مسلوب الإرادة عكس ما كان سائدًا في العصور الوسطى. وأنا أكثر ميلًا لاعتبار هذه الأفكار نتيجة لنمو التجارة في تلك الفترة، ومع نموّها بدأ التغير في نظرة الإنسان لنفسه وبدأت الغيبية تضعف، لأن التجارة تُبين قدرات الإنسان في إحداث التغيير وإمكانية أن يكون هو المسيطر على مصيره ومن هنا بدأ عصر النهضة الذي أدى إلى الثورة الصناعية وتقدم العلوم والتكنولوجيا إلى آخره.
ورغم توافر الموارد الاقتصادية في بعض الدول العربية كدول الخليج مثلًا إلا أن ثمة فرقًا كبيرًا بين الثروة بدون جهد والثروة التي تأتي بعد جهد. التجارة في أوروبا كانت مصحوبة بجهد وتضحيات، أما الثروات في الخليج فهي منح من الطبيعة لم يبذل فيها جهد وبالتالي لا تؤدي لنهضة.
توصيف الحالة العربية الآن ليس سهلًا. في الخمسينات والستينات نُقِل العرب من حالة الركود الطويل جدًا إلى بداية نهضة. في مصر الأمر كان واضحًا، حينما قامت الثورة العسكرية عام 1952 كانت مصر تعاني من تدهور الأحوال منذ قرون والطبقة المتوسطة صغيرة جدًا. ما حدث في تلك الفترة من إصلاح زراعي واتجاه نحو التصنيع ساهم في زيادة الطبقة المتوسطة، وهذه الطبقة لها طموحات وديناميكية تؤثر في الحياة الثقافية بشكل أكبر من الطبقات الدنيا أو العليا. في تلك الفترة كان لدينا أمل أن يحدث تقدم في كل الدول العربية، ولكن ما حدث بعد ذلك خصوصًا بعد هزيمة 1967 تمثل في تهاوي الطموحات والإصابة بالقنوط وفقدان الثقة بالنفس، وأظن أن هذه الحالة لا زالت مستمرة حتى الآن.
الجديد: تحاول من خلال الكتاب ذاته إقصاء تهمة تم إثباتها ربما منذ سنوات بعيدة؛ هي مسألة التخلف أو التردي الحضاري الذي يقبع فيه العرب ومن ثم فإن الخطاب المُقدّم في هذا الكتاب وفي كتابات أخرى لك منشغل أكثر بالتبرير والنفي بدلًا من محاولة الانشغال بسُبل التقدم.. لمَ كل هذا الإصرار على نفي ما يثبته الواقع بدلًا من بحث سُبل الخروج منه؟
جلال أمين: أرى أن الأمرين على نفس القدر من الأهمية، لكن إصراري على نفي التخلف هو محاولة أعتقد بأنها مهمة لتجنّب ما أطلقت عليه “الشعور بالعار”، لأنه إن كان هناك خطأ فينا كعرب لن يكون هناك أيّ أمل. وللأسف كثير من مصلحينا عبر ما يقرب من مئتي سنة كان لهم رأي سلبي جدًا في العقلية العربية مثل زكي نجيب محمود الذي كان يحتقر العقلية العربية ويسعى لتمجيد أكثر من اللازم لكل شيء غربي، طه حسين كان أيضًا حريصًا على هذا الفكر لكن بدرجة أقل. والدي أحمد أمين أظن أنه لم يقع في هذا الخطأ وكانت لديه رغبة في الجمع ما بين الحسنيين؛ الأخذ بأساليب التقدم والتكنولوجيا دون أن نفقد الثقة في التراث، وأنا ميال إلى هذا الموقف لأن فقد الثقة بالنفس يفسد كل شيء.
الجديد: لكن زكي نجيب محمود في كتاباته الأخيرة تخلى عن هذا الاتجاه وصار أكثر ميلًا للملاءمة التي تتحدث عنها..
جلال أمين: نعم هذا صحيح، لكني أظن وقد أكون مخطئًا أنه لم يكن مخلصًا تمامًا في هذا التحول، خصوصًا وأنه بدأ يكتب هذا في سبعينات القرن العشرين مع صعود التيار الإسلامي، أما موقفه الحقيقي فهو تمجيد الغرب على حساب الثقة في الحضارة العربية.
الجديد: هل ثمة اختلاف فكري جوهري بينك وبين والدك المفكر الراحل أحمد أمين؟
جلال أمين: هناك اختلاف بسبب الجيل. والدي كانت معرفته بالتراث أضعاف معرفتي بسبب نمط تعليمه حيث تعلم الإنكليزية وهو كبير، ولم يكن يقرأ كثيرًا من الكتب المكتوبة بالإنكليزية، أما أنا فالعكس؛ معرفتي بالتراث ضعيفة وأقرأ أكثر بالإنكليزية. كلانا لديه نقطة ضعف. أما نمط التفكير فأعتبر نفسي قريبًا من طريقة تفكيره لكن الفرق في الدرجة؛ درجة المعرفة بالتراث والفكر الغربي.
الجديد: الخصائص الثقافية الوطنية، التي تُلح على الحفاظ عليها من محاولات الإقصاء أو التغريب والتي أوضحت أنها عانت من سلسلة متتالية من الإهانات على أيدي الاستعمار ثم سياسات الانفتاح الاقتصادي وغيره. ما الأهمية المحورية التي تتحقق جراء الحفاظ على أصول ثقافة جرت إهانتها، كما أوضحت أنت، وتشويهها حتى وصلت إلى وضعها السيء الراهن؟ وكيف تمكن قراءة ذلك الإلحاح في ضوء مشكلات الانغلاق الهوياتي وفشل الهويات المحلية في إثبات قوتها وتأثيرها في مواجهة التغيرات العالمية؟
جلال أمين: أظن أن إجابتي ستتلخص في كلمة المسيح “ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه؟”. إذا فقدنا الثقة بالنفس فلا أمل. من جهة أخرى لا يوجد أيّ سبب يجعلنا نفقد الثقة في التراث العربي لهذه الدرجة، لغتنا العربية قوية وبديعة وقادرة على استيعاب الأفكار القوية والجديدة، واستعادة الثقة في التراث يمكن أن تنقذنا مما نحن فيه الآن.
إن كان هناك خطأ فينا كعرب لن يكون هناك أيّ أمل
في الوقت الراهن يسيطر المستغربون على الثقافة العربية، هؤلاء الذين يقدّرون الثقافة الغربية بشكل زائد عن الحد. هذا لا ينفي أن لدينا الكثير من نقاط الضعف لكن نقاط الضعف تلك موجودة لدى كل أمة، والخطأ يكون بالاعتقاد أن ثقافتك هي الثقافة الوحيدة التي تستحق الحفاظ عليها، أو الاعتقاد بأنه لا بد من تقليد الآخرين.
لا بد من استعادة الثقة بالذات واحترام التراث الذي أعتقد بأنه لا توجد مشاكل فيه لكن المشكلة تكون في التمسك به لدرجة تعوق التقدم، ورغم وجود الانغلاق الهوياتي لدى البعض لكن ذلك لا يعني أنه نتيجة حتمية للتمسك بالتراث أو احترامه. والدي مثلًا وجيله من رواد الثقافة المصرية في القرن الماضي كانت لديهم فكرة الجمع بين التراث والمعاصرة، ودرسوا علوما غربية وتراثا واحترموا كليهما.
وفيما يتعلق بالموقف من الدين والهوية الدينية، هناك موقف عقائدي وموقف ثقافي؛ الموقف العقائدي يرى صاحبه أنه وحده يملك الحقيقة وما يطرحه غيره باطلًا، أما من الناحية الثقافية فكل دين يصبح جزءًا من التراث بلغته وقيمه الأخلاقية والاجتماعية إلى آخره. المتشددون والإرهابيون لا ينظرون للدين كمنتج ثقافي وإنما كعقائد ومسلمات، لكن ثقافيًا يمكن النظر إلى الدين كجزء من التركيبة النفسية للشخص وهذا ما يجب الحفاظ عليه.
الجديد: ثمة تركيز خاص في أطروحاتك على فكرة الهيمنة الغربية على الشعوب العربية والإسلامية والسعي الدؤوب لمحو الهوية الثقافية لها باعتبارها مسألة مركزية لتفسير كثير من الإشكاليات المعاصرة.. أليست نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث محاولة لتجنب أيّ من أشكال إدانة الذات والرضوخ لخطاب المظلومية؟
جلال أمين: مصطلح “نظرية المؤامرة” أراه سخيف جدًا، فليس كل ردّ لظاهرة إلى عوامل خارجية معناه الإيمان بوجود مؤامرة، لكن الفكرة أنه في حالة وجود طرفين أحدهما أقوى من الآخر من الطبيعي أن يسيطر ويهيمن ويؤثر الطرف الأقوى على الآخر الضعيف دون أن تكون هناك مؤامرة بالضرورة.
أنا أكثر ميلًا بالفعل لرد الضعف العربي في كثير من الأحيان لقوى خارجية، لكنني أرفض الوصف بأنه مؤامرة، واعتقادي بأن كثيرًا مما يحدث لنا بتأثير قوى خارجية ليس غريبًا لأن من سنة الحياة أن الثقافة القوية والنشطة من الطبيعي أن تهيمن على الأخرى، لكن ما ينبغي أن تفعله الثقافة الأضعف هو أن تحاول أن تحمي نفسها من الهيمنة. قد يكون التفسير النفسي لذلك، إن أردتِ، ابتعادا عن إدانة الذات، لكن بعيدًا عن ذلك فهذا محاولة للحفاظ على قدر من الثقة بالذات.
الجديد: وهل مع هذا التصاعد الراهن في ظاهرة الإرهاب الذي اجتاح العالم بشكل أكبر مما سبق لا زلت على نفس قناعتك بأن “الإرهاب نفسه هو اختراع كبير تخيف به الإدارة الأميركية شعبها وبقية شعوب العالم” أم أن ثمة أسباب أخرى ترى أنها ساهمت في بزوغ وتوغل تلك الظاهرة؟
جلال أمين: نعم أنا لازلت على قناعة بأن الإرهاب ليس صناعة محلية، ليس بالضرورة أميركية لكنها ليست عربية. الدول الكبيرة مثل أميركا لا تستطيع أن تعيش دون عدوّ. لقد اخترعوا الشيوعية في وقت سابق كعدوّ، بالطبع كانت الشيوعية موجودة لكنهم صنعوا منها شيئًا مخيفًا، وصوروا الشيوعيين على أنهم فزاعة، ولما انتهى الخطر الشيوعي اخترعوا الإرهاب. هذا يحقق لهم أهدفا معينة تمكنهم من استمرار إنتاج الأسلحة وهو شيء مربح جدًا لتجار الأسلحة، كما تمكنهم من غزو بلد بحجة القضاء على الإرهاب أو السيطرة على دول مثل الخليج بحجة حمايتهم أيضا. كلمة إرهاب اختراع سخيف جدًا وسيء للغاية ويستخدم عادة لتبرير القهر.
فكرة تهديد الإرهاب للدول الأوروبية وللغرب عمومًا أجدها غير موجودة بشكل كبير، خصوصًا وأن ضحاياهم في الغرب ليسوا بنفس الكثافة العددية في الدول العربية. أما الفكر الأصولي والمتطرف فعلى الرغم من رفضي له إلا أنني أظن أنه لا يصنع إرهابًا بالضرورة؛ فليس كل فرد مؤمن بأفكار متطرفة تكون لديه القدرة أو الرغبة في حمل السلاح وممارسة القتل والإرهاب.
الجديد: أود أن أطرح عليك سؤال هذا العدد من “الجديد”. برأيك.. ماذا يريد العرب من حاضرهم؟ وكيف ينظرون إلى مستقبل علاقتهم بالعالم؟
جلال أمين: العرب يريدون من المستقبل ما تريده أيّ أمة طموحة لتحسين أحوالها. العرب تحديدًا لأنهم في حالة تدهور وأزمة حقيقية فأملهم القريب على الأقل أن يوقفوا هذا التدهور ويستعيدوا ذاكرتهم. ولقد لاحظت أن المثقفين العرب يكتبون وكأنهم فقدوا ذاكرتهم بمعنى أنهم نسوا أن العرب أمّة كان لها أهداف عظيمة منذ فترة ليست بالبعيدة، وانشغلوا بأمور صغيرة. لذا أرجو أن يستعيد المثقفون العرب ذاكرتهم وقتما كانوا يأملون ويتطلعون إلى ما هو أكبر من انشغالات صغيرة فيما كانوا في وقت مضى أكثر انشغالًا بأمور أكثر أهمية كفكرة الوحدة العربية. والمشكلة أن الانشغال بصغائر الأمور يمكن الاستمرار فيه إلى الأبد، لينسى العرب أنه فيما مضى كانت لديهم أهداف كبرى كأمة عربية واحدة.
دعوتي مثلًا للحفاظ على اللغة العربية محاولة لمقاومة ما أكرهه في العولمة، لكن من أنا لتكون لديّ استراتيجية غير أن أستمر في الكتابة؟
الجديد: فكرة القومية التي تُلحّ عليها باعتبارها هدفا أسمى للعرب ثبت إخفاقها في تجارب ماضية حتى في مواجهة الإسلام السياسي.. لم الإصرار عليها إذن؟ وهل يمكن الحديث عن مستقبل لها؟
جلال أمين: صحيح الفكرة قابلت تحديات كبيرة وهذا سبب ضعفها وتدهورها، ولقد أخفقت بالفعل في مواجهة الإسلام السياسي الذي يتطلع لتأسيس أمة إسلامية وليست عربية. الأسباب ليس من الصعب تفقدها؛ أُعلق أهمية كبيرة على هزيمة 1967، فكل شيء سيء في البلدان العربية بدأ منذ هذه الحادثة التي أظهرت ضعف العرب عسكريًا وعجزهم عن تحقيق آمالهم الكبيرة، وبالتالي تراجعوا عن التفكير في الوحدة وانشغلت كل دولة بأمورها الخاصة.
أما عن مستقبلها فأنا لست متشائمًا، فطالما اللغة العربية محافظة على قوتها ستظل الفكرة ممكنة لأن اللغة العربية هي العنصر المشترك الذي يسمح بوجود علاقات بين العرب.
الجديد: في كتابك “عصر التشهير بالعرب والمسلمين” تنطلق من إيمانك بأن كل محاولات الإصلاح بتفسير الإسلام تفسيرا يجعله أقرب إلى مبادئ الأوروبيين يتخلى في الحقيقة عن الإسلام، ورفض التمييز بين الإسلام الحقيقي وغير الحقيقي الذي يزعم صاحبه أن هناك إسلامًا لا يفهمه إلا هو وكل ماعدا ذلك إسلام غير حقيقي. إن كانت كل محاولات التوفيق بين مبادئ الحداثة والإسلام تتخلى عن الدين فكيف يمكن الحديث عن إسلام قادر على المواجهة والتأثير ثقافيًا واجتماعيًا بينما هو أسير تشريعات نبتت في الجزيرة العربية؟ وكيف يمكن إذن دحض أفكار تتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب؟
جلال أمين: لا أحب مصطلح “تجديد الفكر الديني” لأني أظن أنها محاولة لاختيار الصحيح من الخاطئ وفيها تقليل من قيمة الدين وهذا أرفضه، فالدين يجب النظر إليه كمنتج ثقافي يجب احترامه ككل. مصطلحات الإسلام الحقيقي وغير الحقيقي أرفضها أيضًا لأنه لا يوجد سوى إسلام واحد بتفسيرات متعددة شأنه في ذلك شأن أيّ دين أو أيّ فكر، ومن ثم فالدين لا يوجد فيه حقيقي وغير حقيقي وإنما الإشكالية في التفسيرات التي قد نزعم صحتها أو خطأها.
أظن المخرج يكون بالتمييز بين الدين والتدين، فمن الممكن أن نجدد التدين بالتفكير في كيفية التعبير عن أفكارك في الدين إنما الدين نفسه لا يجدد، لا توجد مشكلة إذن في أيّ جهود إصلاحية تنطلق من هذا المنظور في إصلاح التدين أو تجديد الفقه بما يجعله متلائمًا مع تغيرات الواقع.
الجديد: في كتابك “التنوير الزائف” قلت: عبادة المستقبل لا تقل سوءا عن عبادة الماضي. نحن نلوم هؤلاء المنغمسين في الماضي والحالمين بالرجوع إلى ماض ذهبي ولكن عبدة المستقبل مؤمنون إيمانا لا يتزعزع بفكرة التقدم دون أن يكون لدينا أيّ سبب معقول لهذا الاعتقاد.. ما الذي يجعلك لا تؤمن بفكرة المستقبل التي تتحدث عنها هنا؟
جلال أمين: الغربيون لديهم الإيمان بفكرة التقدم إلى الأمام، وأن التاريخ سائر دائمًا إلى الأفضل وأن القادم بالضرورة أفضل من الماضي. أظن أن هذا غير صحيح بالضرورة؛ فالتاريخ به فترات صعود وهبوط، وإن كان التقدم التكنولوجي يسير دائمًا نحو الأفضل، فالتاريخ ليس بالضرورة سائرًا نحو الأفضل. عبادة المستقبل تتمثل في الاعتقاد بأن التاريخ يسير دائما إلى الأمام ومن ثم الرهان دائما على ما يحدث في المستقبل. طبعا الطموح إلى المستقبل جيد لكن القديم أيضا به أشياء جيدة، والجديد قد لا يحمل كل الخير وبه أشياء غير جيدة مثل الضعف في اللغة العربية، الذي أرى أنه ليس من التطور في شيء وإن اقترن بمعرفة لغة أجنبية، والتفكك الأسري أيضًا ليس من التقدم في شيء، التكنولوجيا لا تحمل الخير دائمًا ولا تسير بالضرورة في اتجاه جيد.
الجديد: يتساءل جورج طرابيشي في كتابه “من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة” عن الاستراتيجية التي أردت الوصول لها من مؤلفك في رفض العولمة.. أهي الاستراتيجية الإبدالية الحالمة بحضارة أخرى أم الاستراتيجية الانغلاقية الحالمة بقطيعة مع الحضارة؟ وهو سؤال يراود القارئ لكثير من مؤلفاتك، ماذا بعد رفض الانصياع لاشتراطات وإنجازات الحضارة الغربية؟
جلال أمين: انتقادي للعولمة لا يعني بالضرورة أن لديّ بديلًا، العولمة حتمية وفرضت التقارب الشديد في العالم، ومن ثم ضعفت أو محيت الهويات الثقافية. حتمية العولمة لا تعني أن أحبها. ما الذي أريد الوصول إليه؟ أنا لا أحلم ولا أطرح استراتيجية، فقد أقوم بتوصيف الواقع. كنت أتمنى أن الصلات ما بين أجزاء العالم لا تكون بهذا العنف الذي يجعل هوية تفرض نفسها على هويات أخرى بهذا الشكل. دعوتي مثلًا للحفاظ على اللغة العربية محاولة لمقاومة ما أكرهه في العولمة، لكن من أنا لتكون لديّ استراتيجية غير أن أستمر في الكتابة؟
الجديد: تنطلق من مقولة لبرتراند رسل “إن عقلا منفتحا على الدوام هو عقل فارغ على الدوام” في الحديث عن ضرورة وجود حدود لحرية الرأي والتعبير التي باتت تعني حرية نقد المعتقد الديني وفق قولك.. ألا ترى أن مثالب تقييد تلك الحريات أنكى من إطلاقها؟ وهل تؤيد، من هذا المنظور، محاكمة ومعاقبة المثقفين أو المفكرين بتهمة ازدراء الأديان؟
جلال أمين: حرية الرأي والتعبير ليست بالضرورة شيئًا مستحبًا، فكرة إطلاق الحريات بشكل مطلق من الأفكار التي أخذناها من الغرب، الظن بأن كلما أطلقت حريات أكبر كلما كان هذا أفضل غير صحيح، لأن ذلك يعني التضحية بمصلحة المجتمع في مقابل مصلحة الفرد. هذا ينبه لضرورة وجود درجة من الانغلاق للحفاظ على النفس، فتقديس الحرية المبالغ فيه فكرة غربية وحديثة لم تكن موجودة دائمًا.
من سنة الحياة أن الثقافة القوية والنشطة من الطبيعي أن تهيمن على الأخرى، لكن ما ينبغي أن تفعله الثقافة الأضعف هو أن تحاول أن تحمي نفسها من الهيمنة
طبعا الدكتاتورية غير مقبولة لكن القيود يمكن فرضها من قبل سلطة غير مركزية من خلال العائلة والمدرسة وغيره، وهي القيود التي تقل في الغرب في الوقت الراهن وهذا لا يعني أن الوضع أفضل. المهم تحديد ما الذي سيمنع وما مدى الطغيان أو الظلم فيه، وهذا يتطلب وجود قانون أخلاقي يحدده المجتمع ككل ليس مكتوبًا بالضرورة لكنه يضع القواعد التي يعاقب من يخرج عليها.
في أوائل القرن التاسع عشر في إنكلترا كانت العلاقة الجنسية المثلية ممنوعة ومعاقبا عليها، لكنها في الوقت الحالي مسموحة تمامًا. أنا أكثر ميلًا للموقف المحافظ القديم. الخروج على القواعد “قلة أدب” قد لا تستدعي المحاكمة أو السجن بالضرورة لكن لا بد من إعلان رفضها. هناك تصرفات تمثل تحديًا للنظام العام، الذي رغم كونه فكرة غير واضحة تمامًا، إلا أنه قد يحدد برفض المجتمع له أو قبوله.
فيما يتعلق بمحاكمة المثقفين أو المفكرين، فأرى أنه لا مشكلة في الاجتهاد ولكن في أحيان كثيرة طريقة التعبير عن الرأي تكون هي المشكلة، يمكن الانتقاد أو إبداء الرأي لكن بأدب وبطريقة لا تمس حاجات عزيزة عند الناس.
الجديد: في كتابك “تجديد جورج أورويل” تشير إلى أننا بحاجة إلى يسار جديد.. ما ملامح هذا اليسار الجديد المقصود؟ وكيف سيكون بمقدوره المواجهة؟
جلال أمين: اليسار القديم كان مشغولًا بالتأميم وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهذه المسائل لم تعد هي المشكلة في الوقت الراهن، إلى أن ثبت أن ملكية الدولة قد تكون أسوأ من ملكية الأفراد مثل التجربة السوفيتية التي لم تكن أفضل من التجربة الرأسمالية. اليسار الجديد كان في ذهني أساسا ضرورة أن يقوم بنقد المجتمع الاستهلاكي، وهذه هي المشكلة حاليا. ما يطرحه اليسار القديم لم يعد على نفس درجة أهمية الالتفات إلى عمليات غسيل المخ المستمرة التي أصبحنا نتعرض لها بشكل مستمر في التلفزيون والإعلانات وترويج السلع، ومن ثم يتركز دور اليسار الجديد على كشف مساوئ المجتمع الاستهلاكي.
جورج أورويل تحدث في أعماله عن استبداد الدولة وقهر القويّ للضعيف، أما اليسار الجديد فينبغي أن يطرح فكرة التجديد التي تنظر إلى المجتمع الاستهلاكي باعتباره العدو الأساسي. هذه ليست قناعة مترسخة لدى الجميع بل إن ذلك النمط الاستهلاكي محل تقدير من قبل كثير من الناس، وأنا أرى هذا خطرا يحتاج للفت النظر إليه. مهمة المفكرين أساسًا هي مواجهة هذا المجتمع الاستهلاكي بدفاعهم عن هذا الموقف وهذا صعب تصوره لأن الرغبة في الاستهلاك دفينة جدا والوعي ضعيف بهذه المسألة.
الجديد: بعد رحلة فكرية قاربت ستة عقود.. إلى أي مدى أنت راضٍ عن رحلتك ومسارك الفكري؟ وهل ثمة أفكار ندمت على تبنيها في وقت سابق؟ وهل هناك كتابات تراجعت عنها كليًا فيما بعد؟
جلال أمين: المسار كان حتميًا نتيجة الظروف التي عشت فيها وأنا راض عنه في كل الأحوال. بالطبع كثير من أفكاري تغيرت بمرور الوقت لكن صعب أن أتذكرها. لديّ ملف الآن بعنوان “ماذا علمتني الشيخوخة؟” أسعى لإصداره لاحقًا في كتاب، وفي فصول بعنوان: البنون، المال، الحداثة، العقلانية، الديمقراطية، أراجع أفكاري القديمة التي تغيرت بمرور الوقت وفي عمر الشيخوخة.
مثلًا بمرور الوقت تبلورت لديّ فكرة أنه ليس كل شيء حديث أفضل بالضرورة من القديم، وهذا الفكر لم أكن مؤمنا به وأنا صغير، وقتها كنت أظن أن الحديث أفضل من القديم دومًا. أيضًا، اكتشفت فيما يتعلق بالعقلانية أن الإنسان نادرًا ما يكون عقلانيًا، والعقلانية المطلقة شيء غير موجود، فالإنسان بطبيعته غير عقلاني، العاطفة والخيال والذاكرة تسيطرعلى سلوكه أكثر مما نظن.
الجديد: لديك أكثر من عمل خصصته في كتابة السيرة الذاتية.. كيف تكوَّن لديك هذا الاهتمام بكتابة السيرة؟ وهل من سير ذاتية تفضلها بشكل خاص وتمنيت لو كتبت مثلها؟
جلال أمين: أظن أن لديّ ميلًا طبيعيًا للحكي على اعتبار أن أفضل طريقة للروي أن تحكي من وجهة نظرك ما حدث لك وما جعلك تتبنى هذا الاعتقاد. السيرة الذاتية أفضل طريقة للتعبير عن النفس وبالنسبة إليّ من أسهلها أيضًا. من أجمل من قرأت لهم شارلي شابلن الذي كتب سيرة بديعة عن حياته. قرأت سيرة برتراند راسل ووجدتها جيدة، أيضًا قرأت سيرة زكي نجيب محمود ووجدته متكلفًا فيها أكثر من اللازم. سيرة والدي “حياتي” لأحمد أمين كانت جيدة جدًا وترك نفسه على سجيتها فيها وكان صادقًا إلى حدّ كبير.
أتذكر في سيرة شابلن حين روى أنه لم يكن يدرك كم صار مشهورًا في العشرينات، وكلما وقف في محطة كان الناس يخرجون ويهتفون باسمه، وحينما وصل إلى نيويورك لم يكن يعرف أحدًا هناك. كانت تلك المقاربة بين الشهرة وحاجة الإنسان إلى شخص واحد لافتة في رأيي.
الجديد: من واقع عملك سابقًا في لجنة تحكيم جائزة البوكر.. كيف تنظر إلى المستوى الذي وصلت إليه الرواية العربية في الوقت الراهن؟
جلال أمين: لا أتابع الآن الإنجازات الروائية بشكل كبير لأنني لم أسمع عن عمل لافت أو عظيم، أحب أعمال علاء الأسواني وبهاء طاهر والطيب صالح، ووجدت العمل الفائز بالبوكر سابقًا “ساق البامبو” لسعود السنعوسي جيدًا، لكن فيما عدا ذلك لا أظن أن هناك أسماء مهمة.
أجري الحوار في القاهرة