جملة سيعترض عليها الجميع

الاثنين 2018/01/01
لوحة: ريم يسوف

إن ثقافتنا العربية ثقافة يكاد يندر فيها الناقد (الناقد الأدبي، الاجتماعي، الفكري) الجماهيري، فلا أظن أن “مفكرًا” و”ناقدًا” حصل على شعبية في الثقافة العربية لو استثنينا الدكتور علي الوردي، والذي على الرغم من مبيعاته الهائلة مات فقيرًا معدمًا؛ بينما قد تجد شعراء تمتلئ بهم القاعات وليس نزار قباني ومحمود درويش بخافيين على أحد وإن كانا الأكثر شعبية.

لو تابعنا الندوات النقدية التي تعقد خلال المهرجانات الشعرية سنجد أن الحضور الجماهيري للشعر أضعاف الحضور النقدي، بل ربما يقتصر الحضور النقدي على النقّاد المشاركين فقط لا غير، وهذا ما لمسته في مهرجان المربد الشعري مثلاً.

الثقافة العربية بحاجة لبناء يبدأ من الصفر، يبدأ من الابتدائية لضخّ الذائقة الجمعية أن تميل وتعتز بالنقد والتحليل، لا أن تبقى تمجّد الإبداع، وهذا لن يحدث ما دام التعليم لدينا تلقينيًّا، يحثك على الحفظ ولا يحثك على التفكير، والنقد بحاجة ماسة لعقلية تفخر بالفكر مثلما تفخر بالإبداع، وحين يُقال عن شاعر إنه كاتب أو باحث لا يعترض، بل ولا يشعر بأيّ امتعاض، فالكاتب والباحث ليسا بأقل مكانة من المبدع شاعرًا أو روائيًّا أو قاصًّا أو مسرحيًّا.

إحدى أكثر سلبيات المجتمعات العربية، هي القبلية، فالروح القبلية مسيطرة علينا ولها اليد الطولى في اللاوعي الجمعي، ومن هذه السلبية تنطلق الكثير من عواهن الثقافة العربية، القبلية تحرمنا من قول الحق ومن منح مَن يستحق ما يستحق، والقبلية التي سحبناها حتى على الحزب، وقبل ذلك على المدينة، كانت سببًا رئيسًا في تراجع الثقافة العربية وظهور النفاق والمحسوبية.

مارست الأحزاب سطوتها في إبراز شعرائها ومبدعيها بما لا يستحقون في أغلب الحالات، فصارت الواجهات الإعلامية والجامعات تحتفي بمبدع الحزب والثورة، بينما تتجاهل المبدعين الذين يعكفون على صقل مواهبهم والانغماس في مشروعهم الإبداعي؛ لتخلق لنا ثقافة قبلية من نوع آخر.

ناقد بدلاً من أن يبحث عن المبدعين المميزين يستهلك وقته وقدراته في الكتابة عن أصدقائه وندمائه والحلقة المقربة، فضلاً عن الكتابة عن حالتين الأولى الأسماء المشهورة ليشتهر بها وكثير من هذه الكتابات لا تضيف شيئًا للمدونة النقدية لأن الأسماء المشهورة والتي تحتل المشهد الشعري اُسْتهلكت نقدًا وتحليلاً، والحالة الثانية الكتابة عن النساء، فكثير من النقّاد كرسوا جهودًا استثنائية للكتابة عن الجميلات، وجهودًا أقل بكثير للكتابة عن المبدعات اللواتي يحفرن في المدونة الإبداعية بما يستحق الاحترام.

هذه المهيمنات في المشهد الثقافي العربي أَدّت دون بروز أجيال من النّقّاد وإنما مَن برزَ هم آحاد، لأن الأسباب الثلاثة آنفة الذكر وهي تفضيل الإبداع على الفكر، بسبب نظام الحفظ والتلقين والقبلية والعته الجنسي، حالت دون تنشئة أجيال يمكنها أن تنهض بمهمة خلق منظومة نقدية عربية أساسها النقد العربي القديم وهو الرائد، والاستفادة القصوى من مناهج النقد الحديثة وطرق التفكير وآليات البحث والتفكير والتي وصلت إلى مديات واسعة في الثقافة الغربية.

ثمة سوء وعي بالتراث وبالحداثة، فالعقل العربي يقف في الغالب الأعم بين طرفَي نقيض، إما مؤمن بالتراث وكاره للحداثة مع نظرة ارتياب من الغرب نظرة كلية، لا يفرّق بين منجز إنساني وعلمي وبين سياسات دول ومصالحها والتي يحركها التغالب، يضع الغرب كله في سلة المؤامرة لتدميرنا، وأن تراثنا فيه كل شيء فلا حاجة لنا بطرق تعليمية ومنهجية ونقدية خارج هذا التراث.

وآخر يقف على النقيض تمامًا، فهو لا يحفل بالتراث ولا يؤمن حتى باللغة التي يكتب بها، بل إن أعدادًا كبيرة من المثقفين يكتبون بالعربية وهم يرونها لغة محتل، لغة غازية، فكيف يبدعون فيها، فضلاً عن الآلاف الذين يرونها لغة لا تتواصل مع الحياة، لغة قاصرة، يكتبون بها رغمًا عنهم، يمجدون كل ما يأتي به الغرب ولا يحفلون بأي منجز عربي، وهم يجهلون أن احتقارهم للغتهم ومنجزها وإصرارهم على أن العرب وعلى مدى التاريخ خارج نطاق الحضارة يعني هم أنفسهم لا شيء، وهم في أحسن الحالات عالة على ما ينتجه الغرب.

لوحة: نهاد الترك

 

هؤلاء حتى عندما ترجموا نصوصًا نقدية أو عرّبوا مصطلحات زادوها غموضًا، وتدفقت علينا مصطلحات الغرب وهي تخلو من الدقة التي عُرفت بها الترجمات العربية على الأقل قبل ثلاثين عامًا وأكثر، وأصبح لدينا للمصطلح الغربي الواحد عدة ترجمات تكاد تكون كلها غير دقيقة، ترجمات زادت من صعوبة التلقي عند القارئ العربي، فنشأ جيل بل أجيال تكرّس الغموض وتحوّل النقد إلى ما يشبه الكتب العلمية في جموده أو كتب النحو المفرطة في تخصصها.

نعم الكثير من كتب النقد تشبه كتب الطب وكتب النحو، المادة جامدة وثقيلة ويصعب هضمها وإكمال الكتاب قراءة يُعدّ إنجازًا، وهذا أتاح لعدد كبير من الصحفيين وأشباه الكُتّاب أن يُحبّروا الصفحات كلامًا يطلقون عليه نقدًا وهو يصلح لعدد كبير من المبدعين لمجرد رفع اسم الشاعر أو المبدع والمقاطع التي يستشهدون بها ووضع اسم آخر ومقاطع من كتابه مع تغييرات بسيطة وبذلك يتم تدوير المقالة النقدية مرارًا.

إن لم ننتبه لهذا الانحطاط الذي تعيشه الثقافة العربية ستتفاقم الأمور سوءًا، وبدلاً من الترقيع نبدأ بخلق أجيال تفخر بالنقد والتحليل والتفكير مثلما تفخر بالإبداع؛ عندما لا يتحسس شاعر ما أن ينادى بالكاتب أو الباحث، وعندما يكون التراث محلّ تقدير واعتزاز يخلو من أمرين هما التقديس والتدنيس، فالتراث ليس خطًّا أحمر لا يمكن تفكيكه وتحليله والاستفادة من نماذجه المتطورة في النقد وفي غير النقد.

والتراث ليس مدنّسًا بحيث يتم الشطب على أكبر تراث عرفته لغات العالم لمجرد أن الناقد مبهور بالغرب، فتجارب ابن طباطبا العلوي وابن سلام الجمحي وابن قتيبة وقدامة بن جعفر والجرجاني وغيرهم تستحق أن تُدرس ولا سيما الأخير، حينها يمكن استيعابه وهضمه وكذلك هضم المنجز النقدي الغربي والتعامل معه لا بوصفه متفوقًا والمتلقي العربي تابعًا ومستهلكًا، بل بوصفه حلقة من حلقات التطور البشري.

هنا يمكن خلق خصوصية عربية في النقد، فيها موازنة بين الأصالة (التراث) والحداثة الغربية، فلا ناقد أكاديمي يلوك المصطلحات جامدة في ثنايا كتاباته فيتحول النقد على يديه إلى مادة طاردة للقراء، أو آخر يدخل الخيمة ويكتب لنا في زمن الانفجار التواصلي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.