جنوسة الوعي

حواء النمط المبدئي للجنس البشري
الأربعاء 2022/06/01
لوحة: أحمد صالح

جنوسة كلمة عربية ابتكرها كمال أبوديب أستاذ كرسي العربية في جامعة لندن لتعريب الكلمة الإنكليزية “gender” عام 1997 في ترجمته لكتاب الفلسطيني إدوارد سعيد “الثقافة والإمبريالية”. واللغة الإنكليزية تستخدم لفظة “sex” بمعنى جنس للدلالة على الجنس الظاهري البيولوجي للفرد، في حين تستخدم لفظة “gender” للدلالة على الفروق الاجتماعية والدور الذي يرتضيه الفرد لنفسه من كونه أنثى أو ذكراً سلوكياً. والالتباس قائم ما يزال في معنى كلمة “جنوسة” ومن خلال السياق العام لهذه الدراسة قد يتضح المعنى المراد من هذه اللفظة الوافدة حديثاً على اللغة العربية.

أما عن كلمة “وعي” فآمل أن يتسع صدر القارئ لهذا الاستطراد: في المعاجم وعى يعي وعياً الشيء: جمعه وحواه والحديث قبله وتدبره وحفظه. يقال مالي عنه وعي أي بد. والوعي: الحافظ. والوعاء: ما يوعى فيه الشيء أي يجمع ويحفظ. يقال هو أوعى من سعيد أي أفهم وأحفظ وهو أوعى من نملة أي أجمع منها. واللاوعي: العقل الباطن.

من خلال هذا الوعي زعم لورانس سوموز الذي كان ذات يوم رئيساً لجامعة هارفارد بأن غياب النساء عن المراكز العلمية في الرياضيات والعلوم سببه أنهن أقل قدرة من الرجال بصفة فطرية في هذا المضمار. بمعنى أن الفروق البيولوجية في الدماغ بين الجنسين تستطيع تفسير سبب قلة نجاح النساء مقارنة بالرجال في المهن العلمية. والمثير للانتباه حقاً كيف تشيع فكرة بأن جميع الأدوار القيادية في المجتمع تتطلب دماغاً ذكورياً، في حين أن دماغ الأنثى يتلاءم مع ميدان الشؤون المنزلية، والنساء بطبيعتهن غير مؤهلات للإنجازات العلمية الفذة؟

اعتذر من كان ذات يوم رئيساً لجامعة هارفارد عن تأملاته تلك، واعترف بأن فهمه للعلم كان مغلوطاً، وقد كان فهمه كذلك بالفعل، وهذا ما دفعني لكتابة هذه الدراسة لاستكشاف هذا الوعي البشري الذي يغلب عليه نمط الفكر الذكوري، على الأرجح، في تعاطيه مع الفروق السلوكية والاجتماعية والمهنية بين الجنسين. مع العلم بأن أدمغة الرجال والنساء تنجز ذكاءها العام المتكافئ بطريقتين مختلفتين إلى حد ما، لأن دماغ الرجل لن يكون كدماغ الأنثى، وهذا الأمر لا يُعيب الأنثى على كل حال، فهما – الذكر والأنثى – يستعملان أجزاء مختلفة من أدمغتهما لحل المشاكل ويتوصلان إلى حلول صحيحة في الفترة نفسها.

بحثنا هذا يستقصي جدلاً علمياً واسعاً ومتشعباً يدور حول أهمية دور الوراثة والبيئة في تشكيل السمات السيكولوجية والسلوكية للفرد، بمعنى من يحدد سلوك البشر الطبع أم التطبع؟ طبعاً، يصعب العثور على دليل يُبيِّن اختلافات تشريح دماغ الذكر ودماغ الأنثى من جهة وبين قدراتهما العقلية من جهة أخرى، حيث تكون الفروق بين أداء الذكور والإناث في الاختبارات القياسية قليلة، مع كون هذه الفروق في بعض الأحيان لصالح النساء، وفي بعضها الآخر لصالح الرجال. وعلى الرغم من اكتشاف علماء الأعصاب عدداً من الفروق الجنسية في بنية الدماغ ووظائفه، فلا أحد يستطيع في الوقت الراهن أن يقول ما إذا كان لهذه الفروق أيّ تأثير في النجاح المهني في العلوم.

لوحة: أسامة دياب
لوحة: أسامة دياب

وكذلك يصعب البحث في الفروق الجنسية السيكولوجية نظراً إلى امتلاك الأفراد منظورهم وأفكارهم الخاصة عن الفروق الجنسية، بغض النظر عمّا إذا كانوا يمحّصونها علمياً أم لا. وهذا يختلف عن موضوعات البحث الأخرى في العلوم البحتة، حيث لا يوجد لدى الأفراد قناعات أو وجهات نظر مسبقة راسخة يمكن أن تؤثر مسبقاً على عملية البحث العلمي. ويُطلق على الآراء الشائعة أو الراسخة، غير المؤسسة بالضرورة على الدليل، مصطلح أفكار مُنمّطة، لأنها قد تُعتنق من قبل العلماء كما من قبل البقية، وهي تجعل البحث في الفروق الجنسية أكثر صعوبة من البحث في المجالات غير المعرضة للأفكار المنمَّطة.

في الأصل تندمج المعلومات الوراثية من الأب، والمحمولة في الحيوان المنوي، مع المعلومات الوراثية من الأم والمحمولة في البويضة، هذه المعلومات الوراثية محمولة على ثلاثة وعشرين زوجاً من الصبغيات، وزوج الصبغيات الثالث والعشرون يحدد التركيب الجنسي الوراثي، أكس/واي ذكر، أكس/أكس أنثى، في أغلب الحالات. لكن هناك في بعض الأحيان انحرافات، مثل وجود صبغي أكس أو واي زائد، أو صيغي ناقص، أو قد لا يتطابق التركيب الصبغي بين الخلايا كلها، بالإضافة إلى ذلك قد تنقص أجزاء من الصبغي نفسه، على سبيل المثال، قد يكون جزء من الصبغي واي المطلوب لتمايز الخصيتين في الجنين، معطوباً أو غير سوى، في هذه الحالة يطور الفرد صاحب التركيب الوراثي واي أكس مبيضين عوضاً عن خصيتين، مما يجعل النمط الوراثي الذكري غير متطابق مع الصفة الظاهرية للغدد التناسلية الأنثوية. بمعنى أن يكون الفرد ذكراً في بعض السمات وأنثى في سمات أخرى.

المثير للدهشة هو أن أكثر هذه الانحرافات في الصبغي الجنسي لا تُنتج أعضاء تناسلية خارجية مبهمة، هذا لأن تطور الأعضاء التناسلية الخارجية محكومة بالهرمونات الجنسية وليس مباشرة من قبل الصبغيات الجنسية، ونتيجة لذلك، فإن أكثر حالات إبهام الأعضاء التناسلية عند الولادة تنتج عن عمليات هرمونية تحدث بعيداً عن مجريات الصبغيات الجنسية، هذه العمليات تحفّز عمل الهرمونات الجنسية خلال النمو الطبيعي، لكنها أيضاً تتأثر بعوامل أخرى، بما في ذلك المعلومات المحتواة في بقية الأزواج الاثنين والعشرين من الصبغيات، بل وفي بعض الحالات تتأثر بعوامل البيئة. ولفهم كيف يقود التغيير في هذه العمليات إلى حالات خنثى، تشتمل على أعضاء تناسلية مبهمة عند الولادة، سيكون من المفيد التركيز على دور الهرمونات الجنسية في التمايز الجنسي.

آلية التمايز الجنسي إحدى أهم العمليات البيولوجية الجزيئية المتقنة التي طورتها الثدييات عبر تاريخها الطويل على الأرض.

لقد اعتقد البيولوجيون قبل القرن العشرين أن البيئة هي التي تحدد الجنس في البشر والثدييات الأخرى؛ الأمر الذي تفعله تماماً في الزواحف حيث تعمل درجة الحرارة في مرحلة مبكرة من عمر الجنين على تطوير جهاز غير مفهوم بوضوح لصالح تكوين ذكر أو أنثى. أما عند البشر فيبدأ كل من الجنين أكس/واي والجنين أكس/أكس الحياة بنفس الغدد الجنسية البدائية، لكن عند الأسبوع السادس من الحمل، فإن الجينات المحددة للخصوبة على الصبغي واي تسبب تغيير هاتين الغدتين الجنسيتين البدائيتين إلى خصيتين، وإذا لم تتحولا إلى خصيتين، فإنهما تتمايزان بعد وقت قصير إلى مبيضين.

أجنة كل من الذكر ذي التركيب الوراثي أكس/واي والأنثى ذات التركيب الوراثي أكس/أكس تبدأ من نفس البُنى البدائية. وعند وجود الهرمون الذكري فإن هذه البُنى تبدأ في التمايز إلى قضيب وكيس الصفن، وتغدو واضحة الذكورة في الأسبوع التاسع أو العاشر من الحمل. أما عند غياب الهرمون الذكري فإن البُنى نفسها تغدوا بظراً وشفرين، لذا يبدو أن لا حاجة إلى وجود تأثير من هرمونات الغدد الجنسية الأنثوية لتمايز الأعضاء التناسلية الخارجية الأنثوية.

في تجربة مثيرة جرت في خمسينات القرن العشرين أزال أحد علماء البيولوجيا المبيضين من أجنة الأرانب، ولاحظ أن أعضاءها التناسلية الخارجية لا تختلف عن تلك التي للإناث الصحيحة بعد ولادتها. مع أنه لا يمكن نفي احتمال وجود تأثير من الهرمونات الأنثوية من مصادر أخرى، مثل المشيمة، تكون ضرورية للتمايز الأنثوي. لكن يبدو أن تأنيث الأعضاء التناسلية الخارجية يحدث من دون تحفيز من هرمونات المبيض للجنين نفسه، وبهذا المعنى تكون هذه هي الحالة المبرمجة في الثدييات. لذا يُقترح في بعض الأحيان أن حواء هي النمط المبدئي للبشر.

قادت دراسات التمايز الجنسي للأعضاء التناسلية الخارجية والأعضاء التكاثرية الداخلية إلى استنتاجات قد تثير الدهشة. فمن المعروف أن الصبغيات الجنسية في العادة تتحكم في العمليات التي تحدد المظهر الجسدي للفرد، فإن تأثيرها عموماً يكون غير مباشر، أي أنها تعمل من خلال الهرمونات الجنسية. إن إحدى مميزات تحكم الهرمونات الجنسية في النمو الجنسي – عوضاً عن التحكم المباشر من قبل الصبغيات – أنه يسمح بقدر من التباين في الفرد نفسه وما بين الأفراد. ولا يعتمد الأمر على عدد من الهرمونات فقط، بل إن فعل هذه الهرمونات يعتمد على عدد من العمليات، بما في ذلك كمية كل هرمون، وتحويلها إلى مواد فاعلة أخرى، وعدد المستقبلات في كل موقع مستهدف. وبالنتيجة فإن الأفراد من الرجال والنساء كل منهم بمنزلة فسيفساء معقدة من الصفات المرتبطة بالجنس، عوضاً عن أن يكونوا نسخاً مكررة من الجنوسة النموذجية. إن التمايز الجنسي عبر الهرمونات يوفر من المرونة أكثر مما لو اعتمد مباشرة على الصبغيات. لذا فإن استخدام آلية ثانوية تسمح بتباين أكبر في النوع بالإضافة إلى استجابة أكبر للمتغيرات في البيئة. وهذا ما جعلنا بشراً.

راجت في الأوساط العلمية ولمدة طويلة فكرة أن الفرق الجنسي الأكثر وضوحاً في الدماغ هو حجمه العام. هذا الفرق قد يكون متوقعاً بناء على الفروق في طول القامة والوزن وفي أحجام الأعضاء الأخرى في الجسم. وبالتوافق مع هذه الفروق الجنسية في الأحجام الجسدية، فإن أدمغة الرجال أكبر وأثقل وزناً من أدمغة النساء. إلا أن أصل هذا الفرق الجنسي ومغزاه في حجم الدماغ غير مفهومين تماماً. إذ يجادل البعض في أنهما يمثلان أكثر من توافق حجم دماغ مع الجسد الأكبر حجماً، في حين يرى آخرون أنهما ذوا مغزى سيكولوجي.

كما اقتُرح أيضاً أن الرجال أشد ذكاء من النساء فطرياً، لأن أدمغتهم أكبر. كذلك اقتُرح أن الفروق العرقية في حجم الدماغ تؤدي إلى الفروق العرقية في الذكاء. فقد ادّعى الألمان في القرن الثامن عشر أنهم متفوقون على الفرنسيين لأن أدمغتهم أكبر، كذلك هناك ادعاءات معاصرة بأن البيض أكثر ذكاء من السود. وقد نقلت العالمة ميليسا هاينز في كتبها (جنوسة الدماغ) ما كتبه غوستاف لو بون أحد مؤسسي السيكولوجية الاجتماعية في العام 1879 حيث يتشدق بعبارات تنضح بالسخرية الذكورية: في الأعراق الأشد ذكاء، كما في الباريسيين، هناك عدد كبير من النساء اللاتي يقارب حجم أدمغتهم حجم دماغ الغوريلا منه للأدمغة الأكثر تطوراً في الذكر. هذه الدونية واضحة جداً إلى درجة أن لا أحد يتحداها للحظة واحدة، فقط درجتها تستحق المناقشة. كل علماء النفس الذين درسوا الذكاء في النساء، بالإضافة إلى الشعراء والروائيين يدركون اليوم أنهن يشكلن الصورة الأدنى في تطور الإنسان وأنهن أقرب إلى الأطفال والوحشيين منهن إلى الإنسان البالغ المتحضر. إنهن يتفوقن في التقلب، وعدم الاتساق، وغياب الفكر والمنطق، وعدم القدرة على المحاججة. من دون شك هناك بعض النساء المتميزات، والمتفوقات جداً على الرجل متوسط القدرات، لكنهن استثنائيات، وفي النتيجة فإننا قد نهملهن جميعاً.

لوحة: أسامة دياب
لوحة: أسامة دياب

جاء الرد على هذا الاتهام بعد أكثر من قرن من قبل كاتبة علمية شهيرة عالمياً هي مارغريت فرتهايم صاحبة كتاب “بنطال فيثاغورث”. فقد كتبت في مقال نُشر عام 2001 تحت عنوان “الإيمان والعقل والجنوسة: في أيّ ثقافة على الأرض”: إن المعتقدات حول أدوار الجنوسة تفرض سلطانها إلى حد أنها تظل كامنة في اللاوعي، وبالتالي تصل إلى عدم مقاربتها بأنها معتقدات بل تُقبل على علاتها بوصفها النظام الطبيعي. وكثيراً ما يجري ربطها وتعزيزها بعقائد وممارسات دينية معينة. والمعتقدات بشأن أدوار الجنوسة تُسنّ في كل مستويات الحياة الثقافية والمؤسسات العلمية في المجتمع. ونمط التربية الذي قدم الصبيان إزاء النمط الذي قدم البنات هو واحد من الأمثلة المهمة. فالقيم الثقافية الأساسية التي شكلت مزاولة العلم في الغرب عبر القرون الماضية، هي عميقة الصلة باستبعاد النساء من المؤسسات العلمية في المجتمع.

لذا فإن الأفكار التي قد تفسر التميز ضد مجموعات معينة في المجتمع قد تطلعت إلى العلم بحثاً عن الدعم على الأقل منذ قرن، والعلماء بمن فيهم البارزون، قد ساندوا في بعض الأحيان الادعاءات بأن البيانات العلمية تدعم عدم تساوي الإنجازات بين الأعراق وبين الجنسين. بالنتيجة، فإن السجل التاريخي يدعو إلى التشكيك في فكرة أن دماغ الرجل الأكبر يولّد ذكاء أشد. وهناك ملاحظتان قيمتان في هذا السياق: الملاحظة الأولى تقول: إذا كان حجم دماغ الذكر أكبر من حجم دماغ الأنثى، فإن جوانب دقيقة في بُنية الدماغ قد تُغير من الأهمية الوظيفية لهذا الفرق. ففي بعض مناطق الدماغ البشري، ترصّ الخلايا العصبية بشكل أكثر كثافة في الأنثى منها في الذكر، وقد أشار أحد علماء البيولوجيا العصبية في العام 1995 إلى أن الفرق في كثافة رصّ الخلايا العصبية تشبه من حيث المقدار الفرق الجنسي في حجم الدماغ. فعلى الرغم من أن دماغ الذكر أكبر من دماغ الأنثى، فإن الخلايا العصبية، وهي الوحدات الوظيفية الرئيسة في الدماغ، قد يكون مشابهاً في كلا الجنسين. بالإضافة إلى ذلك، فإن دماغ الأنثى لديه نسبة أعلى من المادة الرمادية، وبقشرة دماغية أكبر حجماً، ويُظهر ارتفاعاً في معدل استقلاب سكر الغلوكوز، الأمر الذي يُعتقد أنه يعكس زيادة في النشاط الوظيفي.

الملاحظة الثانية تقول: رغم الفرق الجنسي في حجم الدماغ، فإنه لا يبدو أن هناك فرقاً في الذكاء. لأن الاختبارات القياسية للذكاء لا تُظهر فروقاً جنسية واضحة. ونحن نجد أن مقاييس الذكاء على اختلاف درجاتها تشير إلى فروق جنسية ضئيلة أو لا تُظهر أيّ فرق.

المورثات وحدها، كالبذور التي تلقى على قارعة الطريق ليس لها القدرة على عمل أيّ شيء. وعندما يقول العلماء عن صفة ما إنها موروثة فهم إنما يعنون أن جزءاً من متغيراتها يمكن تفسيره بعوامل وراثية. ولكن غالباً ما يُنسى أن الجزء الآخر يمكن ردّه إلى الخبرات المكتسبة والبيئة. وقد قال أحد علماء البيولوجيا التطورية قبل سنوات: إن محاولة تحديد كم من صفة ينتج من المورثات، وكم منها ينتج من البيئة هي محاولة عديمة الجدوى، مثل السؤال إن كان صوت الموسيقى الذي نسمعه من على بعد، من أداء الموسيقي أو من آلته. ومن جهة أخرى، عندما نسمع أصوات موسيقية مميزة في مناسبات مختلفة، فمن المنطقي أن نتساءل إن كان الاختلاف بينهما بسبب الموسيقيين أو بسبب آلاتهم. وهذه هي فقط نوعية الأسئلة التي يمكن أن يطرحها العلم عند النظر إلى دور المورثات مقابل التأثيرات البيئية والخبرات المكتسبة.

يأمل العلماء في الألفية الجديدة بالنجاح في تحديد الارتباطات بين السلوك والمورثات، وبتحقيق معرفة أكثر دقة عن كيفية عمل الدماغ، وبتبنّ تدريجي لنموذج تطوري في العلوم الاجتماعية. وبالنتيجة سوف تزين صورة تشارلز داروين جدران أقسام علم النفس وعلم الاجتماع. وقد يكون من الممكن توضيح إلى أيّ اتجاه سوف يتطور التفكير من خلال مثال حيث تلتقي العلوم الاجتماعية بعلوم البيولوجيا التطورية.

افترض فرويد والكثير من علماء الاجتماع التقليديين أمثال كلود ليفي شتراوس، أن تحريم الاتصال الجنسي بين المحارم من الأقارب من الناس يعمل على كبت الدوافع الجنسية بين أفراد الأسرة الواحدة. وقد اعتقد فرويد أن الإثارات الجنسية المبكرة للشباب تأخذ بلا اختلاف صفة سفاح الأقارب، ومن هنا كان النظر إلى تحريم الاتصال الجنسي بين المحارم هو الانتصار النهائي للتطبع على الطبع. ولكن في المقابل افترض العالم الاجتماعي الفنلندي ويستمارك، الذي عاصر فرويد، أن الألفة المبكرة تقتل الرغبة الجنسية، ووجد أن الانجذاب الجنسي يكون ضعيفاً بين الأفراد الذين شبّوا وكبروا معاً. وكمؤيد لتشارلز داروين أعتبر ذلك آلية متطورة صُممت لمنع العواقب الوخيمة للتزاوج بين الأقارب ولحفظ النوع سليماً معافى.

في أوسع الدراسات نطاقاً عن هذه القضية حتى الآن، قام عالم الإنسانيات وولف من جامعة ستانفورد بحصر تواريخ زيجات “14400” امرأة في تجربة طبيعية أجريت في تايوان. فقد اعتادت الأسر في هذه المنطقة من العالم على تبني وتربية البنات ليكنّ زوجات لأبنائهن مستقبلاً، بقصد تنشئة الزوجين معاً منذ الطفولة. وقد قارن هذا العالم بين هذه الزيجات والزيجات التي تمت بين رجال ونساء لم يلتق أفرادها قبل يوم الزفاف. وباستخدام معدلات الطلاق والخصوبة كمقاييس للسعادة الزوجية والنشاط الجنسي على التوالي، دعمت النتائج بشدة مقولة أن تنشئة الزوجين معاً منذ طفولتهما تُعرّض للخطر حياتهما الزوجية مستقبلاً. وإذا افترضنا صحة هذه الدراسة فبإمكاننا التأكيد أن التآلف المبكر بين الأطفال من الجنسين هو العامل الأكثر قدرة على صياغة علاقات سليمة بين الصبيان والبنات في مرحلة عمرية مبكرة. وهذا يخالف ما هو عليه الحال في البلدان العربية، حيث يتم الفصل التعسفي بين الجنسين في المراحل التعليمية ضمن واقع اجتماعي تحكمه التقاليد والقيم الدينية الموروثة، مما يؤدي في النهاية إلى إقصاء النساء عن مراكز القرار في المؤسسات العلمية وفي مراكز السلطة السياسية، وبالتالي يسير المجتمع بقدم واحدة سيراً بطيئاً أعرج.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.